لا مفر من أن يتوقف المترجِم طويلًا بين الحين والآخر عند كلمة ذات معنى مراوِغ، كلمة بسيطة مفهومة تمامًا، لكن لا يمكن التعبير عنها بهذه السهولة، وربما تكون قد وردَت أمامه مرارًا من قبل، وفي كل مرة استطاع استغلال سياق العبارة، وبحيلة ما نجح في توصيل المعنى الأقرب إلى الصواب. لكن ماذا لو أن المطلوب هو نقل الكلمة بمعناها المجرَّد؟ وماذا لو أنها كلمة ما زال اللغويُّون حائرين في وضع تعريف موحَّد لها في المعاجم؟
«كول» (Cool) واحدة من هذه الكلمات المحيرة. دخلت الإنجليزية من الألمانية والهولندية، بمعنى الطقس الذي ليس باردًا ولا ساخنًا جدًّا، وتبدلت تهجيتها عدة مرات حتى استقرت في القرن العاشر أو الحادي عشر على التهجية التي نعرفها الآن.
احتفظت الكلمة بهذا المعنى طويلًا، وإن بدأت تكتسب معاني أخرى في أعمال الكتاب الإنجليز؛ كشاعر العصور الوسطى جوفري تشوسر (Geoffrey Chaucer) ووليام شيكسبير (William Shakespeare) ودانييل ديفو (Daniel Defoe)، فأصبحت لا تعبر عن حرارة الجو فحسب؛ بل حرارة المشاعر كذلك، كما صارت وصفًا للشخص الرزين العقلاني الهادئ.
لا تزال الكلمة محتفظة بمعانيها هذه، وإن كان لها الآن معنى آخر؛ تعبير عن خليط من الأناقة والعصرية والجاذبية والوعي، ولا أحد يعرف بالضبط متى أصبح هذا جزءًا من الثقافة الشعبية في الولايات المتحدة، لكن ثمَّة دلائل على استخدام الأمريكان السود له في القرن التاسع عشر.
وهناك إشارات إلى أن فناني الجاز الزنوج، الذين ذاع صيتهم في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، مَن رسَّخوا هذا المعنى الجديد في الوجدان الأمريكي، حتى إن علماء اللغة في قاموس «أوكسفورد» يقولون إن «كول» أكثر تعبير دارج عن الاستحسان مستخدَم في اللغة الإنجليزية حاليًّا.
لكن ماذا عن العربية؟ حسب السياق، قد ترد الكلمة بدلالاتها الحالية بمعنى «لطيف» أو «لذيذ» أو «جذاب» أو «رائع». هنا يجب أن أعترف بأني لا أجد واحدًا من هذه المعاني وافيًا بما فيه الكفاية، لأنه ليس هناك واحد منها يعبر عن الخصال كلها التي تتضمنها الكلمة بالإنجليزية.
هناك قوة هائلة وراء تمدُّد حجم الجينز أو انكماشه هي عنصر الـ«كول»، الذي يعدُّ أداة تسويقية شديدة التأثير.
لكن بما أن هذه المقدمة طالت أكثر من اللازم بالفعل، كما أننا لسنا بصدد مناقشة ورقة بحثيَّة في اللغة، فلنترك معنى الكلمة جانبًا مؤقتًا ونركز على كونها ظاهرة اجتماعية الآن، كما يصفها مارك باين (Marc Bain) في المقال الذي كتبه لموقع (Quartz)، قائلًا إن صعوبة تعريف الكلمة لا تمنع أن لها دلالات في التاريخ والأنماط السائدة، وحتى في العلوم العصبية؛ فالـ«كول» سلوك وتعبير عن القبول، واليوم هو لعبة ذات طابع سطحي، حالة من التمرد على القطيع والرغبة في التميز، تتجلَّى في استهلاك منتجات بعينها.
منتَجك «كول»؟ إذن يمكننا تسويقه
ثمَّة نقلة نوعية حدثت في شكل ثياب الناس مع مطلع الألفينات؛ إذ بدأت السراويل الجينز الفضفاضة وذات الأطراف الواسعة تتراجع أمام تلك الضيقة المنحسرة عن الخصر، ومع نهاية العقد بدا كأن الجميع، بمن فيهم الرجال، يعتصرون سيقانهم في سراويل شديدة الضِّيق، حتى إن الأطباء بدأوا يصدرون تحذيرات صحية بعد تكرار حالات ارتدى فيها أشخاص تلك السراويل بصعوبة ثم لم يستطيعوا خلعها.
الجينز الضيق هو السائد حاليًّا، لكن يظل كل من يسارعون بتبنِّي أي موضة جديدة يبحثون عن «نيو لوك»، وهذا الـ«نيوك لوك» يجب أن يكون «كول» طبعًا.
تغيُّر الموضة قد يبدو عشوائيًّا من بُعد، لكن الكاتب يؤكد أن هناك قوة هائلة وراء تمدُّد حجم الجينز أو انكماشه، ويقصد بهذا عنصر الـ«كول»، الذي يعدُّ أداة تسويقية شديدة التأثير، تعود بأرباح فلكية على الشركات العملاقة مثل (Nike) و(Apple).
ولا مجال تتجلَّى فيه قوة هذا العنصر أكثر من الملابس، فهو لا يفسر فقط إقبال كثيرين على دفع مبالغ طائلة في قطعة واحدة من الملابس لكونها «كول»، بل يلعب دورًا كذلك في جعلنا نرى أن شخصًا ما يرتدي ثيابًا عليها «لوجو» بعينه يستحق أن يشغل وظيفة ما أكثر من غيره، أو يستحق اهتمامًا زائدًا عن الآخرين، أو أجدر من سواه بمعاملة أفضل.
فتِّش عن الـ«كول» في المخ
الثقافة والبيئة والوضع الاقتصادي من الأسباب التي تجعل وصف شيء ما بأنه «كول» يختلف من شخصٍ إلى آخر، لكن أيًّا كان ما نعدُّه كذلك؛ فإن إدراكنا إياه ينبعث من منطقة معينة في المخ، طبقًا لستيفن كوارتز (Steven Quartz) وآنت آسب (Anette Asp)، وهما باحثان في العلوم العصبية بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، أجريا دراسات بالتصوير بالرنين المغنطيسي الوظيفي (fMRI) على أفراد ينظرون إلى سلع وصفها آخرون بأنها «كول»، وأخرى وصفوها بالعكس (Uncool).
مجرد التطلع إلى هذه الأشياء نشَّط في مخ كل منهم جزءًا معروفًا باسم «القشرة الأمام جبهيَّة» (Medial Prefrontal Cortex)، وهو الجزء الذي يلعب دورًا في التعبير عن شخصية المرء واتخاذه القرارات وسلوكه مع الآخرين، بالإضافة إلى شعوره بالفخر أو الخجل.
توضّح نتائج البحث أن هناك رابطًا بين ما نعدُّه «كول» وما نشعر به حيال موقعنا في المجتمع، كما يشرح «كوارتز» و«آسب» في كتابهما هذا الموضوع، فقد سجلا نشاطًا متزايدًا في القشرة الأمام جبهيَّة كلما راق منتج معروض أحدَ أفراد مجموعة البحث أكثر، ويؤكدان أن مخَّه في هذه الحالة كان يستجيب لفكرة أن هذا المنتج أو ذاك من شأنه أن يجعل الآخرين يقدِّرونه أكثر.
ويقول «كوارتز» و«آسب» في كتابهما: «تبيَّن أن عنصر الـ(كول) نوع غريب من القيمة الاقتصادية، التي تراها عقولنا في المنتجات التي تحسن صورتنا الاجتماعية؛ إذ يلعب استحسان الآخرين ونظرهم إلينا بعين التقدير والإعجاب دورًا محوريًّا في دوافعنا وسلوكياتنا، ما يجعل الـ(كول) كالعملة التي تتحكم في جزء كبير من اقتصادنا واستهلاكنا».
طُرح الجينز لأول مرة عام 1873، وكان المستهلِكون المستهدَفون في البداية عمال المناجم والبناء ورعاة البقر بالتحديد.
بالتأكيد ليس عنصر الـ«كول» مسؤولًا وحده عن رفع قيمة المرء أمام الآخرين أو دفعه إلى شراء منتج ما، بل هناك عنصر آخر لا يقلُّ أهمية؛ هو التمرد على الأنماط السائدة، وهنا يأتي دور الجينز، الذي يعدُّ أكثر أنواع الثياب شيوعًا في العالم كله.
اقرأ أيضًا: علاقتنا بالمال: حتى الأطفال يصبحون أقل نفعًا لغيرهم بعد لمس النقود
الهدف كسر القواعد.. أو التظاهر بكسرها
في عام 1873، طرحت شركة (Levi Strauss & Co) للمرة الأولى السراويل المصنوعة من نسيج الدينيم، والمزوَّدة بجيوب مثبَّتة بالأزرار المعدنية، وكان المستهلِكون المستهدَفون في البداية عمال المناجم والبناء ورعاة البقر بالتحديد. يقول كاتب المقال إن هذه السراويل بدأت تنتشر ببطء خلال العقود التالية باعتبارها ثوبًا «كاجوال»، لكنها لم تتصدَّر المشهد بحق حتى قام «مارلون براندو» (Marlon Brando) ببطولة فيلم (The Wild One) عام 1953.
لعب «براندو» دور عضو في واحدة من عصابات سائقي الدراجات البخارية، التي كانت تثير الاضطراب في أنحاء الولايات المتحدة في ذلك الحين، ويميِّز أفرادها ارتداؤهم الجينز الأزرق والسترات الجلدية. كان ظهور «براندو» في الفيلم مرتديًا الثياب ذاتها، بالإضافة إلى طبيعة الشخصية العنيفة الجامحة التي لعبها، سببًا في إصابة المراهقين الأمريكان وقتها بجنون حقيقي، فكان إقبالهم على شراء السراويل الجينز غير مسبوق.
هكذا، بسبب (The Wild One) والأفلام الشبيهة التي تلته، بالتحديد (Rebel Without a Cause) الذي قام «جيمس دين» (James Dean) ببطولته عام 1955، أصبح الجينز رسميًّا رمزًا لتمرُّد المراهقين والشباب، لدرجة أن عددًا من المدارس الأمريكية منع الطلبة من الدخول به.
بحلول الستينات، كان عنصر الـ«كول» وما يرمز إليه من تحدي المجتمع قد أصبح الوسيلة الأولى لبيع أي منتج جديد.
بسرعة الصاروخ تضاعفت شعبية الجينز، ومعها انتشرت الكلمة التي اعتمدها وجدان الأمريكيين الجمعي لوصف جاذبيته: «كول»، حتى أصبحت منذ ذلك الحين مقترنة بالشخصيات التي قدَّمها «براندو» و«دين» ومن قلَّدوهما، وإلى الآن ما زال الجينز، رغم تغيُّر أشكاله مع الزمن، تعبيرًا سهلًا عن الشباب والتمرُّد.
يمكنك أن تشتري الـ«كول».. لو أنك تملك الثمن
يلفت الكاتب نظرنا هنا إلى أن الجينز لا يعني بالضرورة أن مرتديه ثائر على المجتمع، وإن كان من المثير للاهتمام حقًّا أن منتجًا طُرح في الأسواق للطبقة العاملة فقط أصبح له كل هذا التأثير الرمزي في أمريكا الخمسينات.
في تلك الآونة وعبر التاريخ، كان الأثرياء هم من يفرضون الموضة ويتبارون فيما بينهم بشأن الأكثر أناقة، ما علَّق عليه عالم الاجتماع الألماني جيورج سيمل (Georg Simmel) في بحثٍ له عام 1957، قائلًا إن الطبقة العليا كانت تتبنى صيحة ما، وفي الحال يبدأ أبناء الطبقات الأدنى في تقليدها، ثم سرعان ما يتخلى عنها الأثرياء قبل أن تصبح الصيحة السائدة.
بالتأكيد لم يكن أصحاب شركات الإعلانات ليفوِّتوا فرصة كهذه، وبحلول الستينات كان عنصر الـ«كول» وما يرمز إليه من تحدي المجتمع قد أصبح الوسيلة الأولى لبيع أي منتج جديد لأبناء الثقافة المضادة النامية، بدايةً من المياه الغازية والسجائر وحتى الثياب الرجالي والسيارات.
وثبت بالفعل أنها وسيلة ناجحة لأقصى درجة؛ بدليل أن الكلمة لا تزال تُستخدم حتى الآن بغزارة لوصف مختلف المنتجات، خصوصًا الموجَّه منها إلى الشباب، وهذا ما يؤكده رئيس فرع أمريكا الشمالية لشركة (Adidas)، «مارك كينج» (Mark King)، الذي قال العام الماضي: «ما لم تبدُ منتجاتنا (كول) للشاب الأمريكي، فلن يشتري منا شيئًا».
الـ«كول» طبقًا للمشاهير
ما زال الـ«كول» ظاهرة اجتماعية حتى الآن، لكن المنتجات لا قوة لها على الإطلاق بمفردها، والناس هم من يمنحونها هذه القوة. يذكر كاتب المقال أن هناك شركات كاملة يعكف موظفوها على البحث عن المؤثِّرين (Influencers)، وهم المشاهير الذين يستطيعون أن يفرضوا منتجًا ما باعتباره «كول»، ويتراوح دور هؤلاء بين استعانة أصحاب الشركات بهم كمستشارين لمنتجات بعينها، وظهورهم وهم يرتدون هذه المنتجات في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وإن كان الكاتب يشير إلى أن مدى تأثيرهم مسألة مفتوحة للنقاش، إذ يعتمد الأمر على عدد المتابعين.
لا شك أن مواقع التواصل الاجتماعي، و«إنستجرام» (Instagram) على وجه الخصوص، أسهمت بشدَّة في أن يكون هناك مؤثرون أكثر، يستطيعون فرض الموضة الجديدة التي ترغب الشركات المنتجة في انتشارها، ما أكده «ماركو بيزاري» (Marco Bizzarri)، رئيس مجلس إدارة عملاق الموضة (Gucci)، حين قال إن مؤثِّري التواصل الاجتماعي ساعدوا كثيرًا على ارتفاع نسبة المبيعات، وضرب مثلًا بدانييل برنستاين (Danielle Bernstein) صاحبة مدوَّنة (WeWoreWhat)، التي تربح في الإعلان الواحد مبلغًا قد يصل إلى 15 ألف دولار، بما إن هناك ما يقرب من مليون ونصف من متابعيها يتطلَّعون إليها لمعرفة ما تعتبره «كول» من الملابس، ومن ثم يسعون إلى تقليدها.
قد يهمك أيضًا: كيف غير «سناب شات» مفهومنا عن الشهرة؟
إذا أصبح الـ«كول» هو العادي، فلا بد من موضة جديدة
حتى إذا نجح منتج ما في تسويق نفسه باعتباره «كول»، فمن الوارد جدًّا أن يفقد هذه السمة إذا شاع أكثر من اللازم، لأن من البديهي أن قوة هذا الثوب أو ذاك تضعف إذا كان الجميع يرتدونه، ما يجعل «الحصريَّة» شيئًا في غاية الأهمية، لأن من دونها يزداد الطلب على السلعة كلما ارتفع سعرها. الفارق أن الـ«كول» يحلُّ محلَّ السعر في هذه الحالة.
يقول الكاتب إن الجينز ما زال المسيطر الأول في عالم الثياب، وإن بدأ الناس يتطلَّعون إلى طرازات أخرى منه، والدليل على هذا أن السراويل الجينز النسائية واسعة الأطراف عادت تظهر في موسم ربيع-صيف 2016 من جديد للمرَّة الأولى منذ سنوات طويلة.
لا أحد يمكنه أن يخمن بالضبط كيف ستكون الصيحة الجديدة في عالم الجينز، فلا شيء آخر استطاع إزاحته عن مركز الصدارة. ومن يدري؟ قد لا يكون الجينز هو الصيحة الجديدة أصلًا، لكن لا شك أن هناك من سيسوِّقها على أنها «كول».