هذا الموضوع ضمن هاجس «الثورة والثوار». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
في 2011، اجتاحت حُمّى الاحتجاجات شعوب العالم العربي واصلةً إلى المغرب بحركة 20 فبراير، التي أسهمت كثيرًا في تغيير الواقع السياسي المغربي. وبعد سبع سنوات نعيد النظر إليها، ونرسم معالم تلك المرحلة من تاريخ المغرب.
يمكننا الآن فهم ما حدث في المغرب ذات صبيحة ممطرة من يوم 20 فبراير عام 2011، مستفيدين بذلك الفاصل الزمني الذي يعطي النظرة زاوية أوسع، ومساحة ملاحظة أغنى لسيرورة هذا الفعل الاحتجاجي وما ترتب عليه، ذلك الفعل الذي ينتمي في سياقه التاريخي إلى موجة الثورات التي اجتاحت المنطقة العربية، وامتد سياقها الجغرافي إلى المغرب بنظام حكمه المَلَكي ونخبته السياسية، التي انشطرت مواقفها حول الحركة بين معارض لها ومدافع عنها، بين مواجه لها ومنخرط فيها.
لتكوين فكرة عن هذه النخبة، نُقِر بأن الفعل السياسي في المغرب نابع من مكونات أيديولوجية مختلفة، غير أنها تشترك في ارتكاز ثقلها السياسي إلى نفوذ ثقافي أو ديني، واقتصادي في غالب الأحوال، محافظةً في كل ما يخص الممارسة السياسية، باعتمادها على شرعيات مختلفة كالنسب والقبلية والصوفية وتاريخ مقاومة الاستعمار. ومن هذه المعطيات يتعذر علينا إسقاط نموذج العلاقات الـ«بين طبقية» في شكلها الأوروبي على الواقع المغربي، غير أننا لا ننفي تشكيلها لطبقة متمسكة بحق رسمي في ممارسة السياسة بمعية الملك، الذي يمثل أعلى سلطة في البلاد.
من داخل هذا الواقع خرجت حركة 20 فبراير إلى الشارع، كممارسة سياسية شعبية جديدة، تنضح بأحلام الشباب، مستلهمة الحماسة من ميادين مصر وتونس، ناقلة تطلعاتها في التغيير إلى مراكز القرار في البلاد، مؤسسة لملحمة لها أثر كبير في حياة مغرب اليوم.
20 فبراير: هوية ورؤية
عرفت الحركات الاحتجاجية تغيرًا ملحوظًا منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إلى الآن.
يقول فريد زهران، المفكر والسياسي المصري، في كتابه «الحركات الاجتماعية الجديدة»: «فإذا مثّلت هذه الحركات في إطارها الأوروبي حركات مناهِضة للعولمة، وحركات نسوية، وحركات الدفاع عن حقوق الأقليات، فإن نسختها في العالم الثالث كانت مغايرة، لديها مطالب اقتصادية محضة، بعيدة النشوء والممارسة عن الإطار الحزبي، انطلاقًا من وعي عميق بفشل ذلك الإطار في لعب دور النيابة عن الشعب، وحمل همومه إلى مراكز القرار».
في هذا السياق نشأت حركة 20 فبراير بعد تصاعد ما أُطلق عليه «الربيع العربي» في تونس ومصر، جاءت التحركات المطالبة بالخروج أسوة بشعوب المنطقة التي وُصِفَت، بغرض تعبوي خالص حينها، بأنها حرة وشجاعة.
قد يهمك أيضًا: الإجابة تونس؟ نعم.. ربما.. ليس دائمًا
بدأت التعبئة بانتشار دعوات التظاهر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ومنشورات ترسم صورة معيشة الضنك وانعدام الحرية لواقع المغرب، تعريف الحركة بأنها حركة شباب يؤمن بالتغيير وتحقيق مغرب حر ديمقراطي. يجدر القول بأن القوى الداعية للتحرك في البداية كانت القوى الحداثية المائلة إلى اليسار، في غالبيتها نشطاء شباب غير متحزبين ينتمون إلى المركز، أي محور الرباط والدار البيضاء.
جمعت الحركة بين التوجهين اليساري الحداثي، والإسلامي المحافظ المتمثل في جماعة العدل والإحسان المحظورة، التي وجدت فيها منفذًا إلى الشارع.
هكذا ارتفعت مطالب بدت عصية على فهم عامة الشعب في البداية، على شاكلة ربط المسؤولية بالمحاسبة، الفصل الكامل بين السلطات، الملكية البرلمانية التي كانت سقف مطالب الحركة. طالبوا بدستور جديد يقر بهذه الإصلاحات، وحل الحكومة والبرلمان الذي كان يقوده حزب الاستقلال وقتها، إضافةً إلى مطالب أخرى ذات طابع فئوي، مثل ترسيم الأمازيغية هوية وطنية، والحق في العمل، والمساواة بين الجنسين.
في اليوم الذي يسبق خروج الحركة إلى الشارع، نفذ النشطاء أول خروج إعلامي لهم في مؤتمر صحفي، يحددون فيه ملف المطالب وكيفية التحرك.
هذا تحرك لم يخرج في أغلبه عن أشكال النضال الشائعة في المغرب، التي يحددها الباحث المغربي عبد الرحيم العطري في دراسته «الحركات الاحتجاجية بالمغرب»، بأن طابع المسيرة غلب عليه الوعي المضمر بأن الحلول ليست موجودة في مجالات أخرى غير المجالات التي تتمركز فيها السلطة، وأن محور العاصمة الرباط هو الوجهة الأمثل للمسيرات، بينما الشعارات تختلف موضوعاتها حسب المحطات النضالية.
لكن الخطاب الذي يحملها يبقى خطابًا خاصًّا، قِسم منه ديني كالدعاء على من تسبب في المشكلة، وقسم آخر يتوعد أو يستجدي دعمًا في صورة الحشود المتخيلة وقوتها، وينفتح على التراث الثوري المعهود كقصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي.
لم تخرج الشعارات المرفوعة خلال مسيرات الحركة عن هذا السياق، غير أنها مثلت اختلافًا طفيفًا عليه، جعل منها شعارات غير موحدة، وذلك بسبب عدم وحدة خلفيات تلك الشعارات، وعدم تجانس مكوناتها التي كانت تجمع بين التوجهين اليساري الحداثي المتمثل في شباب الأحزاب والنقابات بمختلف أشكالها، والإسلامي المحافظ المتمثل في جماعة العدل والإحسان المحظورة، التي وجدت في الحركة منفذًا إلى الشارع.
عدم التوحد هذا جعل الحركة خليطًا مركبًا من الأيديولوجيات، خليطًا بات عائقًا لها خلال مرحلة من مراحلها، وعجّل بانسحاب الجماعة بعد أشهر قليلة على خروجها الأول، وهذا ما عبر عنه رئيس دائرتها السياسية حينها قائلًا إن «الجماعة تعرضت لاستفزاز من تيارات يسارية كانت تصرِّح بأن جميع الشعارات المرفوعة خلال هذا الحراك كانت يسارية».
أما على مستوى التنظيم، فقد ظلت الحركة محافظة على استقلاليتها التنظيمية، مبدعة بذلك شكلًا جديدًا من التنظيم التنسيقي المحض المنتشر في كل المراكز الحضرية، يتولى أعضاؤه تنظيم المسيرات وتحديد مواعيدها، وإدارة كل تحركات الحركة في نطاقها الجغرافي، والنطق الرسمي باسمها، إضافةً إلى التعبئة الجماهيرية التي كانت تعتمد على وسائل اتصال حديثة، وأخرى تقليدية مثل توزيع المنشورات.
20 فبراير: وافد جديد على لعبة السياسة القديمة
من أبرز ما سجله الملاحظون إثر الخروج الأول لحركة 20 فبراير، وأصبح بعدها رمزًا لما سُمِّي «الاستثناء المغربي» في خطاب القنوات الرسمية، هو عدم تدخل الأمن نهائيًّا في التعامل مع المظاهرات الكبيرة التي جابت شوارع المدن المغربية، بل انطلق بعدها الإعلام مشيدًا بهذا الاستثناء الذي ميّز المغرب عن سواه من دول المنطقة.
خصصت القناة الثانية المغربية تغطية إعلامية كاملة للأحداث التي كانت تجتاح البلاد وقتها، وهو أمر لم يحدث من قبل، ولا من بعد مع أحداث مثل ما حصل في الريف وجرادة. هذا التعامل وُصِفَ حينها بنبوغ السياسة المغربية في التعامل مع أزماتها الداخلية، وحنكتها التي اكتسبتها عبر تجربة طويلة في هذا الأمر.
لم يكن دور حركة «الشباب الملكي» المعارضة لـ20 فبراير مقصورًا على مواجهتها، بل مثّلت أكبر آلة دعاية شعبية لدستور 2011.
أما بالنسبة إلى الأحزاب المغربية، فقد كانت الحركة وافدًا غريبًا على الساحة التي عهدوا اللعب فيها، ما جعل تعاملهم معها ينطوي على غرابة حذِرة تمثلت في صمت الأغلبية عنها.
بينما اختلفت الأحزاب الكبرى في مواقفها ما بين معارض للحركة، كحزب الاستقلال المحافظ وحلفاؤه في الحكومة وقتها، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي وجهت له الحركة اتهامًا علنيًّا بالفساد، فيما شاركت في الحركة الأحزاب التي ستكوِّن في ما بعد تحالف «فيدرالية اليسار»، بصحبة القطاع الشبيبي لحزبي الاتحاد الاشتراكي والنهج الديمقراطي الماركسي داخلها.
وقف حزب العدالة والتنمية الإسلامي يراقب تطورات الأمور بحذر، يدرس خطواته جيدًا، ويصُفُّ أوراق اللعبة حسب ما تطلبته المرحلة، محافظًا على نفس المسافة التي تربطه بالقصر، دون أدنى خطأ يكلفه خسارة قواعده.
اقرأ أيضًا: علامات قيام الثورات: متى ينفجر بركان الشعوب؟
بعد 19 يومًا من بداية الحراك، ستخرج أعلى سلطة في البلاد عن صمتها في خطاب ملكي بتاريخ 9 مارس، سيعلن فيه الملك قرار تغيير الدستور (وبالتالي حل الحكومة والبرلمان)، وتكليف لجنة تعمل على صياغته بمشاركة كل الفئات السياسية والمجتمع المدني المغربي. خطوة رأت فيها 20 فبراير استجابة منقوصة لم ترقَ إلى مستوى تطلعات الشعب، لهذا ستصر على الخروج مجددًا إلى الشارع، وعند هذه اللحظة ستواجه قمعًا في مختلف مدن المغرب.
كان قمع الحركة في هذه المرحلة بوليسيًّا بالأساس، لكنه لم يكن القمع الوحيد، فبعد الخطاب الملكي ستتكون مجموعات معارضة لـ20 فبراير تحت مسمى «الشباب الملكي»، وستبدأ الصدامات بينها وبين شباب الحركة في النطاق الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي، بعدها ستنتقل إلى مناوشة تظاهراتها، وخلق بلبلة لإفراغها من مضمونها والتشويش على مطالبها، بدعوى أن العشرينيين أرادوا الفتنة، وأنهم «خونة» و«شواذ» و«ملاحدة»، أو عملاء للنظام الجزائري ولهم أجندات خارجية.
هوجمت الحركة ونُشرت الشائعات حولها. لم يكن للهجمات دور كبير في كسر شوكة العشرين، أكثر من أنها خلقت صراعات جانبية كانت عنصر إلهاء عن الصراع الحقيقي من أجل مطالبها.
لم يكن دور هذه الحركة المعارضة لـ20 فبراير مقصورًا على مواجهتها، بل مثّلت أكبر آلة دعاية شعبية لدستور 2011، والقاعدة التي روجت له في المدن المغربية.
الدستور: نهاية حركة
في الأول من يوليو 2011، أُجري استفتاء على الدستور المغربي الجديد، وحين وافق عليه الشعب بنسبة 98.48%، كانت هذه النهاية الفعلية لحركة 20 فبراير.
فُرِضَ الأمر الواقع بدستور احتوى على مواد إيجابية مثل ترسيم الأمازيغية، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإقرار صلاحيات أوسع لمناصب كثيرة في هيكل الدولة، و«دَسْتَرة» كل بنود المواثيق الدولية التي وافق عليها المغرب، إلا أنه بقي غير مطابق للتصور الذي صاغته الحركة، ولا يحقق المَلَكية البرلمانية التي طالبت بها، وبذلك دعت إلى مقاطعة استفتائه.
بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان المحظورة قانونيًّا، صارت حركة 20 فبراير حكرًا على اليسار، الذي قاطع الانتخابات التشريعية ورفض التصويت على الدستور.
جرت الانتخابات التشريعية الأولى في عهد دستور 2011 بديمقراطية مشهودة، انتخابات اكتسحها التيار الإسلامي متمثلًا في حزب العدالة والتنمية، الذي لعب أوراقه جيدًا وتسلّق السلطة حرفيًّا على ظهر الحركة وهفواتها، محافظًا على ارتباطه بكل مكونات السياسة، موجهًا معركته ضد من سماهم أمين الحزب العام وقتها عبد الإله بنكيران «عفاريت وتماسيح»، قاصفًا بمدفعية الخطاب أنداده في حزب الأصالة والمعاصرة، وباعثًا أملًا ضبابيًّا في نفوس الشعب الذي كان يرى فيه خيارًا خالصًا ومخلِّصًا له من همومه.
هكذا كانت نهاية الربيع العربي في المغرب، وهكذا انتهت قصة 20 فبراير باحتواء ناجح لها، غير أن هذه النهاية التعيسة، أو السعيدة ربما، تحيلنا إلى نظرية «إيميل تورين»، التي تؤكد أن نهاية الحركات الاجتماعية في مأسستها.
قد يهمك أيضًا: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
المأسسة في حالة 20 فبراير لم تكن وحدة مستقلة، والعلة في ذلك أيضًا عدم تجانس مكوناتها الأيديولوجية، وهي أيضًا لم تنتج أيديولوجيا خاصة بها. هكذا اضمحلت تنسيقياتها، وذابت وسط مؤسسات مختلفة.
بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان، التي رغم كونها محظورة قانونيًّا فإنها تنظيم قائم مهيكل، وإن كان أغلب نشاطه مستترًا، صارت الحركة حِكرًا على اليسار.
قاطع اليسار الانتخابات التشريعية، ورفض التصويت على الدستور، وشكّل تحالفًا من خلال مكوناته الحزبية الثلاثة: الحزب الاشتراكي الموحد، وحزب الطليعة، وحزب المؤتمر الاشتراكي. سُمِّي التحالف «فيدرالية اليسار الديمقراطي»، وشارك في الانتخابات التشريعية وحصل على مقعدين في البرلمان. بينما ظل حزب النهج الديمقراطي متشبثًا بأيديولوجيته الماركسية الراديكالية، مغردًا خارج السرب، رافضًا أي اشتراك في العملية السياسية الرسمية.
وفي إطار مقارنتها بالأحداث في تونس ومصر، نسجل الاختلافات التالية:
- الاحتقان في المغرب لم يكن بذلك التراكم قبيل خروج الحركة، كي ينتج انفجارًا كالذي عرفته التجربة التونسية والمصرية
- أشكال النضال التي انتهجتها الحركة لم تكن مستمرة في زمنها، فلم تكن هناك اعتصامات كالتي شهدها ميدان التحرير وساحة الحبيب بورقيبة، بل مسيرات متقطعة لا تتعدى مدتها عشرات الدقائق
- حركة 20 فبراير إصلاحية تناسبًا مع الواقع السياسي والاجتماعي في المغرب
- الدولة المغربية تقبّلت وجود الحركة دون الإقدام على قمع خروجها الأول
هكذا أصبحت 20 فبراير شيئًا من الماضي، ماضٍ ليس ببعيد، لكنه غادر الساحة السياسية المغربية إلى التاريخ. في حين أن الانضباط بخطاب الحقيقة واجب، ويجب علينا الإشارة إلى أن هزّة 20 فبراير كان لها دور كبير في حلحلة الأوضاع، وتسريع تحقيق مكتسبات كانت مطمح الشعب، وتغيير معالم المشهد السياسي في المغرب بشكل ملحوظ.