في خضم التوترات الاقتصادية بين الحليفين التاريخين: الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، في إبريل 2018، ربما كان رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، حينها يتناول وجبة العشاء على السرير في غرفة نومه، أو يمشي متسكعًا بين ممرات البيت الأبيض، عندما أمسك هاتفه المحمول ليُجري «مكالمة ودية» مع رئيس الوزراء الكندي، «جاستين ترودو»، بهدف مناقشة ملامح مستقبل التبادل التجاري بين البلدين. ولا يُستبعَد أن ألقى نكتة مازحًا بها مع ترودو من فرط الودية.
من الواضح أن كل تلك الخيالات قفزت إلى عقل المسؤولين المصدومين في البيت الأبيض، عندما اكتشفوا أمر المكالمة الشخصية بين ترامب وترودو، من خلال بيان كندي رسمي يحمل ملخصًا للمكالمة، نُشر في صحيفة «The Washington Post».
طبقًا لقانون السجلات الفيدرالية، يتحتم توجيه جميع مكالمات رئيس الدولة مع القادة الأجانب إلى غرفة العمليات المجهزة بأجهزة اتصال آمنة ومتقدمة، وبخاصة بعد أن كشف تحقيق وجود أجهزة مراقبة هواتف محمولة بالقرب من البيت الأبيض وبعض المنشآت الحساسة في واشنطن.
لم يكن الحليف الكندي المسؤول الأجنبي الوحيد الذي يتعامل معه ترامب بتلك الودية المفرطة، إذ وزَّع رقم هاتفه الشخصي على قادة العالم بُعيْد انتخابه.
سئم المسؤولون الأمريكيون في البيت الأبيض الاعتماد على ذاكرة ترامب لاستعادة تفاصيل المكالمة الودية، وأصروا على ضرورة التزام الرئيس ببروتوكول إجراء المكالمات مع القادة الأجانب، لأنها يُخطَّط لها ويُكتَب محتواها، ثم يُعرض المحتوى على مستشاري الأمن القومي، وبعد التوصل إلى نتائج خلال المكالمة، يُعاد صياغتها لنشرها في بيان رسمي عام. إصرار المسؤولين الأمريكيين لم يُقابَل بأي تصريح من جهة ترامب.
الوقوع في الحب عبر خطابات فاتنة
ينعت ترامب العلاقات الأمريكية مع بعض قادة الحكومات الأجنبية بمصطلحات شخصية للغاية، تعكس مشاعره تجاه قادة العالم أكثر من العلاقات بين الدول.
صَمْت ترامب قد يعني إشارته إلى احتمالية تكرار حدوث نفس السيناريو كي يُبقِي التواصل مع قادة الدول أقل رسمية وأكثر شخصية. حتى إذا أحكم المسؤولون في البيت الأبيض التضييق عليه ليحافظ على تحويل المكالمات مع القادة الأجانب من خلال غرفة العمليات، فذلك لن يثنيه عن الاقتناع بشخصنة العلاقات لتحقيق أهداف بلاده التي انصهرت وكأنها أهدافه الشخصية.
الاحتفاء الدائم ببناء علاقة جيدة مع رئيس دولة أجنبية يبدو مدخل ترامب الشخصي لممارسة تأثيرٍ ما عليه، مثل وصف ترامب علاقته برئيس كوريا الشمالية، «كيم جونغ أون»، بأنهما «وقعا في الحب» عبر «خطابات فاتنة» بهدف حثه وتشجيعه على التخلي عن الأسلحة النووية. وقد يشارك ترامب جميع المتابعين بالألفة الشخصية التي قد يشعر بها تجاه بعض القادة، مثل تعليقه على الرئيس الفرنسي، «إيمانويل ماكرون»، بأنه «عظيم وذكي وقوي ويحب أن يمسك يده».
هكذا ينعت ترامب علاقات الولايات المتحدة مع بعض قادة الحكومات الأجنبية بمصطلحات شخصية للغاية، قد تعكس أحيانًا مشاعره الداخلية تجاه قادة العالم أكثر من العلاقات الحقيقية بين الدول. في الوقت نفسه، لسان ترامب ليس معتادًا على التشجيع فحسب، بل يتطرق إلى التقليل من شأن القادة الذين تتجمد بينهم المشاعر.
لم يستطع ترامب تَفهُّم سياسات المستشارة الألمانية، «أنغيلا ميركل»، التي تخلتف مع رؤيته، مثل اقتناعها بمبادئ التجارة الحرة وفتح الحدود أمام الاجئين، في مقابل عدم استيعابه سوى مزيد من الرسوم الجمركية وبناء الجدران لتحصين حدود بلاده.
لذلك، لم يشعر ترامب بالألفة والدفء ناحية ميركل، فرأى أن سياساتها «مخبولة»، وتسعى إلى تدمير ألمانيا، لأنها تستورد 70% من الوقود اللازم لبلادها من روسيا التي صارت تتحكم في مصير أمتها، وأن ألمانيا مديونة للولايات المتحدة بأموال كثيرة، لأنها فشلت في تقاسُم الأعباء المادية التي تتشارك فيها الدول الأعضاء بمنظمة الدفاع المشترك في حلف شمال الأطلسي، التي ينتمى إليها البلدان. ولم يتوقف ترامب عند إطلاق لسانه عليها، بل لم يصافح ميركل بالأيدي عندما زارت واشنطن لأول مرة بعد تنصيبه على رأس الإدارة الأمريكية عام 2016.
من النقيض إلى النقيض
لم يصل ترامب إلى مرحلة الوقوع في حب رئيس كوريا الشمالية، إلا بعد عام كامل من التلاسن اللفظي البذيء بين الطرفين.
بعد ساعات من اتهامه المستشارة الألمانية ميركل بأنها سبب تحكُّم روسيا في بلادها، أكد ترامب أن العلاقة بينهما جيدة جدًّا جدًّا، بعدما ناقشا النفقات العسكرية والأُطر التجارية بين البلدين، في أثناء مؤتمر مجموعة الدول الصناعية السبعة، الذي أقيم في كندا يونيو 2018.
بكل منطقية، أخذت ميركل تعليقات ترامب، التي بدت لها غير منطقية، على محمل الجد لترد عليها فُرَادى: بداية من فخرها بتوحيد ألمانيا التي كان جزء منها واقعًا تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي السابق، وكذلك باستقلال سياسات بلادها، نهاية إلى اعتزازها بقرار التدخل في حرب أفغانستان، حين دافعت عن مصالح الولايات المتحدة كذلك.
في الوقت نفسه، لم يسلم صديقه الحميم، رئيس وزراء كندا، من لسان ترامب الذي ما لبث أن وصفه بـ«الخَنوع الناعم»، عندما أظهر ترودو امتعاضه من الرسوم الجمركية الأمريكية، مهددًا برسوم انتقامية مماثلة.
تبدُّل الحُكم الشخصي لترامب، سواء على رئيس وزراء كندا أو المستشارة الألمانية، لم يكن ظاهرة فريدة تخص قادة تلك الدول. فلم يصل ترامب إلى مرحلة الوقوع في حب رئيس كوريا الشمالية، إلا بعد عام كامل من التلاسن اللفظي البذيء بين الطرفين. وفقًا لجونغ أون، ترامب مُصاب بالخرف ومختل عقليًّا وكلب مرتعد، ويراه ترامب قصيرًا وبدينًا وجروًا مريضًا، ولقَّبه بـ«رجل الصاروخ الصغير».
اقرأ أيضًا: سياسة التلويح بالأعضاء: لماذا تفاخر ترامب بحجم زره؟
اتبع ترامب نفس ذلك السيناريو نفسه في التعامل مع الرئيس الإيراني، حسن روحاني. بعد شهرين من تحذير ترامب له مباشرة بتجنب كلماته المعتوهة المرتبطة بالعنف والموت، أكد أن روحاني رجل محبب إلى القلب، ويتوق إلى لقائه في وقت ما في المستقبل.
أما مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فاتبع ترامب عكس السيناريو، أي مدحه في البداية ووصفه بـ«الرجل الذي يطبق ما يريده بالطريقة الصحيحة»، في أثناء مؤتمر منظمة حلف شمال الأطلسي في يوليو 2018، في العاصمة البلجيكية بروكسل، مكررًا عبارات الحب لأردوغان بعد انتهاء المؤتمر.
بعدها بأقل من شهر، شن ترامب حربًا اقتصاديًّا ضد تركيا بفرض ضعف الرسوم الجمركية على الواردات التركية من الحديد، واصفًا العلاقات الأمريكية-التركية بأنها «ليست على ما يرام في الوقت الحالي».
بتلك الطريقة يحمل ترامب ميزانًا لمشاعره الداخلية، مُشخصنًا علاقاته مع قادة الدول. العلاقة الشخصية كميزان ترامب في تصنيف القادة، سواء كانت جيدة أو سيئة، قد تُفسَّر بأنها تهدف إلى حثهم على اتخاذ قرار ما أو منعهم من المضي في طريق ما.
وقد تكون إحدى التفسيرات أن ترامب اعتاد على تكوين شبكة علاقات في خلال رحلته العملية باعتباره رجل أعمال. وقد تضم قائمة التفسيرات رغبته الشخصية في بناء علاقات جيدة مع النخبة السياسية في البلدان الأجنبية، خصوصًا تلك التي تضم بعضًا من أبراجه المزينة باسمه، أو أن غروره يكفل له الحق في الحكم على الأشخاص والتعامل معهم من منطلق تصنيفه الذاتي، بغض النظر عن شغله منصب رئيس دولة كبرى، ويجب أن يتبع بروتوكولًا محددًا في العلاقات الدولية، أو أنه متعطش للمديح هو الآخر، فيمدح من حوله ليستقبل بدوره الكلمات المعسولة.
من المؤكد أنه يمكن الاقتناع ببعض تلك تفسيرات مجتمعة أو إحداها، لتؤطر سبب شخصنة ترامب لعلاقاته مع قادة الدول، بشرط وضوحها وصرامتها. لكن بمجرد تغيير الحكم الشخصي لترامب، يجب تغيير التفسير مباشرة، إذ تتحول معظم علاقاته وحكمه على هؤلاء القادة من النقيض إلى النقيض.
قد يهمك أيضًا: هجوم وتصيُّد أخطاء: حرب تكسير العظام بين ترامب والإعلام
الانفلات من الصوابية السياسية
ترامب لا يُصنِّف الأشخاص فحسب، بل يتعدى ذلك إلى شخصنة فئات بعينه. على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، يعج حسابه الشخصي بصفات مسيئة للنساء في مواقف عدة، مثل الخنازير البدينة والسذج والكلاب والحيوانات القذرة.
وعندما واجهته الإعلامية الأمريكية، «ميغين كيلي»، في مناظرة متلفزة على قناة «فوكس نيوز»، قبيل الانتخابات الأمريكية عام 2016، بسؤال عما إذا كان يبدو له أن تصرفاته تليق برجل من المحتمل اختياره رئيسًا للبلاد، فما كان منه إلا أن بدَّل دفة الحديث، ليعلن عن مشكلات الولايات المتحدة الاقتصادية مع الصين والمكسيك، وأنهى إجابته بأن الصفات المذكورة ليست سوى مزاح، وإذا لم يعجبها ذلك المزاح، فهو آسف.
في نوفمبر عام 2017، على حسابه الشخصي على تويتر، نشر ترامب ثلاثة فيديوهات: الأول يظهر فيهم مسلمون يرتكبون أعمال عنف، من بينها تدمير أحد تماثيل السيدة العذراء، والثاني يهاجم فيه مسلم مهاجر طفلًا هولنديًّا على عكازين، أما الثالث، فيعرض مراهقًا يضربه إسلاميون حتى الموت. ليُعلن ترامب بطريقة أو بأخرى، أن المسلمين إرهابيون. المفهوم الذي عُزِّز من خلال قراره بمنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة: إيران والعراق وسوريا واليمن والصومال والسودان وليبيا.
ونعت ترامب أصحاب البشرة السوداء بـ«الأغبياء»، والمهاجرين المكسيكيين بـ«المغتصبين»، وكأنه يطلق عليهم أحكامًا عامة وشخصية بحتة، ثم يتراجع عنها غالبًا، أو يفسرها أحيانًا في سياق آخر، أو يتهم الآخرين بالفهم الخطأ.
تحرُّر ترامب من التابوهات جذب كثيرين. فبدلًا من التعقيدات السياسية باختيار ألفاظ صعبة، كان قاموس كلمات ترامب أقرب إلى قلب المجتمع الأمريكي.
يبدو أن ترامب يتعمد تجنَّب «الصوابية السياسية»، أي اختيار الألفاظ المناسبة التي يستخدمها أمام شعبه كي لا يتسبب في الإساءة إلى مشاعر أقليات أو فئات بعينها، لأنه لا يرغب في إجراء مناقشات حقيقية فعالة، ساعيًا إلى كسب السلطة عن طريق شيطنة الأقليات أو فئات بعينها. وفي رأيه، أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى صوابية سياسية، بل يراها مشكلة كبيرة. فبلاده في مأزق حقيقي، وليس لديه الوقت الكافي للامتثال إليها.
أبناء بلاده في المأزق الحقيقي. فمعظمهم لا يرون في سلوك ترامب أي مفارقة، بل يرونه المستفيد الوحيد. إذ يتحرر من الحذر في تناول موضوعات يُعتقَد أنها تابوهات المجتمع. فبدلًا من تجنبها، يصرخ ضدها في كل مكان وكل حين، لأنه يبدو مقتنعًا بأن إعلام بلاده يميل إلى التعامل مع سلوكه بشكل سيئ، حتى لو أخذ حذره في انتقاد تلك التابوهات بالدرجة المناسبة من الصوابية السياسية.
يبدو أن التحرر من التابوهات جذب كثيرين، فبدلًا من التعقيدات السياسية باختيار ألفاظ قد يصعب على العامة فهمها، فمع بساطة قاموس ترامب، يبدو لهم أقرب إلى القلب.
من ناحية أخرى، يستقبل أبناء بلاده سلوك ترامب لشخصنة كل من حوله، لأنهم يشعرون بالحاجة إلى رمز للقوة، والاعتماد على قيادة سياسية حازمة. أشبع دونالد ترامب تلهُّف هؤلاء إلى الأفكار التقليدية للقوة، مثل الحرب والتدخل والعمل السري وتغيير النظام والتشدق بالأعراف.
هذا النوع من «القوة» قد يتحول إلى نقطة ضعف عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، لأن مهمة صياغة الدفاع عن المصالح الوطنية لا تُترَك لرئيس الدولة وحده، بل يُفترض أن تتشكل سياسة الأمن القومي من خلال مجموعة واسعة من الأفراد والمؤسسات ومجموعات المصالح.
بينما يكتسب ترامب مزيدًا من ثقة الأمريكيين بمهاراته الدبلوماسية، معتمدًا بشكل متزايد على غرائزه ومتجاهلًا مستشاريه، يشخصن السياسة الخارجية الأمريكية بدرجة تجاوزت بكثير أي رئيس سابق. فميزان مشاعر ترامب حاضر دائمًا في العلاقات الثنائية بين الدول، وتنقلب العلاقات بتقلبات مشاعره.
ربما تشرَّبت مشاعر ترامب من جذور تربية أبيه، «فريد»، رجل الأعمال الأمريكي وإمبراطور مجال العقارات، الذي كان يتمتم في أذن أبنائه قائلًا: «كن قاتلًا... كن ملكًا. معظم من حولك ضعفاء. القوي وحده هو الذي ينجو. يجب أن تكون قاتلًا، إذا كنت تريد أن تصبح ملكًا». قد تعكس تلك الكلمات ما يصدره ترامب من سلوكيات تسلطية تتسم بالفردانية وعدم الاعتراف بمسؤولياته تجاه المؤسسات، لأنه ببساطة يتعامل مع نفسه كملك، وليس كرئيس.