لم يعد لشهر رمضان روحانيته المفترضة: وقت الصيام يُقضى في النوم، ويواجه مَن تسوِّل له نفسه المجاهرة بالإفطار تهديدًا بأشد العقوبات، وفي الليل نلتهم الطعام وكأن القيامة على الأبواب.
بدلًا من استشعار معاناة الفقير أصبح رمضان مساحة للاستعراض والتنافس في البذخ والمظاهر قدر المستطاع، في حين تستمر المسلسلات في العرض من طلوع الشمس إلى نهاية الليل، ممَّا يدعونا إلى التساؤل: كيف تحول شهر رمضان من فرصة لمراجعة الذات وتهذيبها إلى موسم للبذخ واللهو؟
بين رمضان والكريسماس
لا ينقصنا إلا الشجرة وبابا نويل العجوز ليصبح رمضان مهرجان تسوق مكتمل الأركان.
فَعَل الِفكر الاستهلاكي التجاري أفعاله بمجتمعاتنا وأفرغ الأشياء من محتواها، فكل شيء قابل للربح والاستغلال، وكل شيء يأخذ معناه وقيمته من سعره أو شكله.
غَدَا رمضان موسمًا تجاريًّا ينتظره الجميع، ويبدو وكأنه يتحول إلى النسخة الإسلامية من الكريسماس، ففي الغرب نجد عوامل تحويل الكريسماس إلى موسم تجاري ممثلةً في مظاهر عديدة، مثل الأشجار وما يعلَّق عليها من زينات، وتبادل الهدايا وبطاقات التهنئة، حتى أن الشركات والمحال التجارية تستعد للكريسماس قبله بشهر أو أكثر.
ليست هذه المظاهر ببعيدة عمَّا أصبحنا نراه في رمضان، فالتليفزيون هو الحاضر الأقوى، ومشروب «فيمتو» صار تقليدًا راسخًا في الخليج العربي، وكذلك الفوانيس والإكسسوارات الرمضانية، ولا ينقصنا إلا الشجرة وبابا نويل العجوز ليصبح رمضان مهرجان تسوق مكتمل الأركان.
اقرأ أيضًا: قصة «فيمتو»: كيف أصبح المشروب الأحمر طقسًا رمضانيًّا في الخليج؟
انتظرونا في رمضان
يُطلق الفنانون والمنتجون أقوى أعمالهم في رمضان، ويتركون باقي شهور السنة للمسلسلات التركية والكورية وكذلك العربية التي لم يحالفها الحظ أو منعتها الظروف من أن تُعرض خلال الشهر.
أصبح رمضان موسم الذروة للوسط الفني، ممَّا رفع أجور الفنانين إلى مستويات غير مسبوقة، حتى أصبحت الغَلَبة للمنتِج ذي السيولة ولو كان من خارج الوسط أساسًا. المعادلة تغيرت، ولم تعد القيمة الفنية أساس اختيار النصوص والممثلين، بل الرغبة في تحقيق الربح الأقصى عن طريق الوصول إلى أكبر شريحة من المشاهدين، للكسب من إعلانات الشركات الكبرى قبل وبعد وخلال كل مسلسل وبرنامج.
قد يصبح الأمر سباقًا إلى الهاوية، تقوده الرغبة في الكسب المادي لا الإبداع أو تقديم قيمة عالية للمتابعين، ويجعلنا هذا نرى بعض الفنانين في أكثر من عمل مختلف خلال رمضان فقط.
قد يهمك أيضًا: يحيى الفخراني: لن يظهر في رمضان، لن يغيب طَوَال العام
يا باغي «الخَصْم» أقبِل
تستعد الشركات كل عام لرمضان بحملات دعائية ضخمة، وتقدم عروضها «المميزة» للناس مستغلةً فرصة «شهر الخير»، وتتقاتل على منح خصومات وعروض للمستهلكين.
النظر إلى الناس على أنهم إمَّا زبائن أو زبائن محتملون توضح دافع الشركات وراء هذا التهافت، فماذا أفضل من أن يشاهد دعايتك أناس جَوْعَى عيونهم معلقة بالتليفزيون؟ هؤلاء يكونون في وضع مثالي لابتلاع رسالتك، حتى لو لم يكن المنتج الذي تقدمه غذائيًّا.
ذكرت صحيفة «الرياض» السعودية أن شركات المملكة تنفق 400 مليون دولار للإعلان على القنوات الفضائية خلال شهر رمضان.
لهذا تأثيرات طويلة الأمد تتعدى شراء الناس للمنتج فحسب، وتُسهم في خلق معنًى جديد لرمضان عن طريق محاولة تغيير سلوكيات الناس وعاداتهم، أو على الأقل توظيف هذه العادات لتشجيع الناس على الإنفاق ولو تعدى ذلك قدراتهم المادية، ففي السابق كان الاستعداد للعيد هو هاجس الأسرة وما قد يُثقل كاهلها، أما الآن فقد أصبح شهر الصيام نفسه مكلفًا.
لم تكتفِ الشركات بالإعلان في التليفزيون، بل انطلقت تكتسح وسائل التواصل الاجتماعي بمسابقاتها ودعاياتها، وهو ما أشارت إليه جريدة «المال» المصرية في موضوعها «كيف استغلت الشركات شهر رمضان على السوشيال ميديا؟»، إذ انتهزت شركة «نستله» مثلًا تزايد الإقبال على متابعة أهم وصفات الطبخ في رمضان ونشرت على صفحتها أفكارًا لوصفات رمضانية صحية أكثر.
اقرأ أيضًا: من إعلانات نانسي عجرم إلى الحملات الخيرية: كيف تغيرت استراتيجية الشركات الكبرى لجذبنا؟
لكن، ما المشكلة؟
صار البذخ في رمضان علامة من علامات الكرم.
قد يقول قائل: ما الضرر في ذلك؟ أليس هذا التنافس في سبيل تقديم الأفضل للناس؟
التنافس فعلًا قد يدفع إلى الإبداع، وكثيرًا ما يؤدي إلى الارتقاء بالمستوى وتقديم الأفضل للناس، لكن هذا ليس موضوعنا، موضوعنا هو رمضان وفقدان قيمته الدينية والروحية. أليس رمضان شهر جهاد النفس والابتعاد عن الملذات؟ أليس شهر الإحساس بمعاناة الفقير والانغماس في روحانيات الشعائر الدينية؟
قد يعجبك أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية
في رمضان هناك صلاة التراويح والاعتكاف في المساجد، وهي شعائر لا تُحيَى إلا في ذلك الشهر لما له من أهمية دينية طالما تربينا عليها، لكن هذا لم يعد رمضان، بل على العكس أصبحنا نتفاخر بالبذخ وننغمس في الملذات، ونكتفي بممارسة الشعائر الدينية بين مسلسل وآخر لا أكثر. وحتى الصيام، العبادة التي فُرضت على المسلمين في رمضان، أُفرغت من محتواها عن طريق موائد الإفطار التي لا تُبقِ طبقًا إلا وتضمه.
يقول الاختصاصي الاجتماعي الدكتور محمد الرشدان، متحدثًا لجريدة «المدينة» السعودية، إن «العادات والتقاليد جعلتنا نشعر بالخجل إذا كانت كميات الطعام بسيطة أو قليلة، حتى صار البذخ في رمضان علامة من علامات الكرم»، وهذا يشير إلى أننا اقتربنا من تحويل ذلك الشهر الديني إلى مهرجان موسمي للتسوق والتسلية والأكل والفن والسفر لا أكثر.
ماذا بعد إفراغ رمضان من محتواه؟ والأهم: ماذا بعد أن نستفيق من وهم الربح وشغف الحصول على الأشياء والبحث عن قيمتنا الذاتية في ما نقتنيه من سلع ومنتجات؟ أين ذهبت القيمة الروحية لما نقوم به؟