في أربعينيات القرن الماضي، صاغ عالم النفس «إبراهام ماسلو» نظريته الشهيرة عن التسلسل الهرمي للاحتياجات الإنسانية، التي باتت تُعرف الآن باسم «هرم ماسلو»، والتي حدد فيها الحاجات المؤثرة فينا والمتحكمة في سلوكنا حسب درجة إشباعها، وترتيب أهميتها، وتأثير إشباعها في سلامتنا النفسية والعقلية.
يضع التقسيم الذي حدده ماسلو «الحاجة إلى التقدير» في المرتبة الرابعة، بعد احتياجات «البقاء» و«الأمان» و«الاحتياجات الاجتماعية»، ما يبرز الأهمية التي يكتسبها سعي الإنسان إلى تحقيق مكانة اجتماعية مرموقة، تجعله محطّ اهتمام وتقدير بين الناس.
قد يفسر هذا النموذج رغبتنا، في مرحلة من حياتنا، في ترك أثر وراءنا، ومحاولتنا المستمرة لتغيير العالم إلى الأفضل. لكن هذا السعي ربما يكون خائبًا منذ البداية، ومبنيًّا في الأساس على توقعات لا ارتباط لها بالواقع الذي نتحرك ضمنه.
ربما لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم ولا تغييره إلى الأفضل، حسب قول الكاتب التشيكي «ميلان كونديرا». أي أن الحل قد يكون أن نضع نصب أعيننا أهدافًا واقعية تبتعد عن المثالية، فليست قاعدة ثابتة أن تحفل مسيرة حياتنا بإنجازات ضخمة مثل إنجازات المشاهير، بل ربما تخلو من كل هذا، ومع ذلك تبقى حياة جيدة ذات مغزى، وهي الفكرة التي يشير إليها مقال منشور على «النيويورك تايمز».
وهم صنعته وسائل التواصل الاجتماعي
التصور الذي يطابق بين الحياة الجيدة والاستثنائية تصور نُخبوي ومضلِّل، والشعور بالرضا عن الحياة يحدث حتى إن عشنا حياة عادية خالية من الإنجازات المبهرة.
يشعر كثير من الشباب برغبة عميقة في تغيير العالم، ودخول التاريخ من أوسع أبوابه، وتخليد أسمائهم، لكن المشكلة تكمُن في أن بعضهم يعتقدون أن عيش حياة ذات معنى يستلزم بالضرورة أداء أمور استثنائية ومثيرة للاهتمام، تمامًا مثل نمط حياة الشخصيات الشهيرة الذي تصوره مواقع التواصل الاجتماعي.
يحلمون بإنشاء شركة ناجحة تضاهي كبرى الشركات العالمية، أو إنهاء أزمات إنسانية لطالما أربكت حسابات دول بأكملها، أو رؤية دول العالم وتقريب المسافات بين الثقافات. هذه التطلعات مشروعة بالطبع، لكن المشكلة تكمُن في التغيرات النفسية التي تسببها في الأغلب وسائل التواصل الاجتماعي، وما نتج عنها من خلط كبير بين «المعنى» و«الشهرة».
يكفي أن نلقي نظرة خاطفة على هذه المواقع حتى يتبين لنا أن أسلوب الحياة الاستثنائي صار القاعدة، رغم أن التصور الذي يطابق بين الحياة الجيدة والحياة الاستثنائية نُخبوي ومضلِّل وبعيد عن الواقع، فالشعور بالرضا عن الحياة يحدث حتى إن عشنا حياة عادية خالية من الإنجازات المبهرة، والمهم أن نعيش حياتنا التي تناسبنا نحن، بقواعدنا، وبالشكل الذي يرضينا ويُشعرنا بالإنجاز والقيمة.
قد يهمك أيضًا: كيف غيَّر «سناب شات» مفهومنا عن الشهرة؟
لعل أفضل مثال يجسد هذه النوعية من الحياة هو «دوروثيا»، بطلة رواية «Middlemarch»، التي تصل مع نهاية القصة، وبعد مرورها بخيبات أمل متتالية، إلى التصالح مع أن حلمها بتغيير العالم لن يتحقق، وأن قبول هذه الحقيقة هو السبيل الوحيد للاستمرار.
فمع أن دور دوروثيا كأم وزوجة قد يبدو كأنه يكرس نفس الأدوار التي يشغلها الجنسين داخل المجتمع، فهي مع ذلك راضية عن هذه الحياة والصورة التي انتهت إليها، لأنها في النهاية اختارتها بمحض رغبتها الحرة، كإنسان مستقل، لا منصاعةً لما تمليه عليها الضغوط المجتمعية أو الأفكار السائدة.
حتى الحياة العادية لها قيمتها
تختتم الرواية بمقطع يصف كيف أن دوروثيا، رغم أنها عاشت حياة عادية متواضعة، بقي تأثير وجودها في من حولها محسوسًا ولو بصورة مبهمة، فمرورها في الحياة وتفاعلها مع الآخرين كان كفيلًا بإضفاء المعنى على مسيرة حياتها، حتى إن لفَّ النسيان ذكراها بعد ذلك.
تلخص تلك الفقرة معنى الحياة، وتربطه بالإسهام في تحقيق أهداف تتجاوز المصلحة الشخصية للفرد، كيفما كان الشكل الذي تتخذه.
أظهرت إحدى هذه الدراسات أن الإحساس بالهدف والمعنى يتعزز لدى المراهقين الذين يؤدون أعمالًا منزلية، لأنهم، كما يشير الباحثون، يُسهمون في شيء أكبر هو العائلة. ووجدت دراسة أخرى أن مواساة أصدقائنا تُشعرنا بالمغزى، فالناس الذين يشغلون وظائف تتيح لهم فرصة مساعدة الآخرين وخدمة مجتمعهم، يجدون مغزًى أكبر في ما يعملونه ويستمرون في أدائه.
لذلك، حتى إن لم تتحقق الأهداف الكبيرة التي وضعناها لأنفسنا، لا توجد مشكلة، فالحياة الاستثنائية قد تكون تلك التي نعيشها الآن، فبإمكاننا أن نُحدث التغيير في دائرة الناس الأقرب إلينا والذين نتفاعل معهم بصفة دورية. المعنى يمكن إدراكه في هذه الحياة العادية نفسها، فهي لا تفتقر إلى الأهمية التي تضفيها وسائل التواصل الاجتماعي على حياة المشاهير، ويمكن لأي واحد منا أن يجد المغزى الذي يبحث عنه في كنفها.
قد يعجبك أيضًا: كيف يتحول النجم إلى سلاح يدمر المجتمع؟
سعي الإنسان نحو ترك أثر في هذه الحياة قديم قِدم الإنسان نفسه، وظهور الحاجة النفسية لإحداث فارق وترك بصمة هي تجسيد لخوف الإنسان من الفناء، وهو الخوف الذي لازمه منذ قديم الأزل.
لدى شعب البوشمَن الإفريقي، إحدى أقدم القبائل على ظهر الأرض وأكثرها بدائية، أغنية تقول كلماتها:
«يوم نموت،
سيمحو النسيم الرقيق
آثار أقدامنا على الرمال.
تُرى من سيخبر البشرية
أننا مشينا هنا منذ فجر الزمان؟».