«اترك الهاتف واجلس معنا قليلًا»، جملة لا تفارق أفواه الآباء والأمهات اليوم، فهم يرون أطفالهم في عزلة عن «العالم الواقعي»، ويشعرون بأثر سلبي لهذا السلوك في حياة أولادهم. لكن كيف يرى رواد التقنية الأمر؟ ربما تتصور أنهم، باعتبارهم رواد تقنية، يرحبون بكل ما تُحدِثه التكنولوجيا من تحولات في حياتنا الاجتماعية، لكن هذا غير صحيح.
أعاد بعض رواد التقنية في العصر الحديث النظر في العواقب غير المتوقعة التي رافقت عصر التكنولوجيا والهواتف الذكية، وهذا ما نقله لنا مقال منشور على موقع «Co.Design» على لسان أحد رواد الصناعة، طوني فاضل، أحد أهم من شاركوا في صناعة جهاز «آيبود»، ولاحقًا «آيفون».
التقنية أقوى من صانعيها
يفكر طوني فاضل في العواقب غير المقصودة لهذه التكنولوجيا التي شارك في انتشارها، إذ أسهم فاضل، مؤسس شركة «Nest» المعروفة بصناعة أجهزة ذكية للتحكم في حرارة المنزل، بنصيب كبير في تشكيل التكنولوجيا الرقمية الحالية، لكنه تحدث مؤخرًا بمزيج من الفخر والندم عن دوره في الرفع من شأن تقنيات الهواتف الذكية حتى سيطرت على حيوات الناس بالكامل.
العالم الحالي هو المكان الذي تنتشر الشاشات في جميع أرجائه، لتشتت البشر وتعيقهم عن كل ما هو مهم حقًّا.
عبَّر طوني فاضل عن قلقه قائلًا إنه يستيقظ خائفًا بين الحين والآخر مفكرًا: «ما الذي جلبناه إلى العالم؟» و«هل فجرنا قنبلة نووية من المعلومات، غيَّرت تفكير الناس وأعادت برمجة أدمغتهم، مثلما نرى في حالة الأخبار المفبركة مثلًا؟ أم أننا أضأنا أفق الناس الذين لم يملكوا المعلومات يومًا، وأصبح من المتاح تمكينهم بفضل التقنية؟».
قد يهمك أيضًا: كيف تؤثر إشعارات الهاتف في تركيزنا؟
كان خطاب فاضل جزءًا من برنامج متحف لندن للتصميم في معرضه الحالي بكاليفورنيا، ويستعرض المعرض تاريخ التكنولوجيا الرقمية والثقافة التي استحدثتها، بدايةً من نماذج آيفون البدائية حتى المدن اليوتوبية القائمة بالكامل على التقنية.
يذكر المقال أن فاضل شارك في ندوة بعنوان «بيع الحرية»، إذ طلب المنظمون من الضيوف مناقشة عواقب تلقِّي هذا الكم الهائل من التكنولوجيا الثورية في ثقافتنا وعقولنا، ولم يبْدُ فاضل متفائلًا تمامًا.
الإنترنت، المجتمع، الديمقراطية
تصميم المنتجات الذكية مثل آيفون يدعم احتياجات الفرد، بدلًا من النظر لما هو أفضل للأسرة والمجتمع المحيط.
في الندوة، وصف فاضل العالم الحالي باعتباره المكان الذي تنتشر الشاشات في جميع أرجائه، لتشتت البشر وتعيقهم عن كل ما هو مهم، وتروج لثقافة تعظيم الذات. وتتمثل المشكلة حسب وجهة نظره في الإدمان الذي يرافق تصميم هذه الأجهزة، ويضر بالأجيال الجديدة.
يقول فاضل إن زوجته تتعمد تذكيره كلما رأت أولادهما مستغرقين أمام شاشات الآيفون بأنه يتحمل بعضًا من الذنب في ما يحدث، ويؤكد أنه يعلم ماذا يحدث عندما يُبعد أطفاله عن التكنولوجيا، فهم «يشعرون، حرفيًّا، بأنك تقتطع جزءًا من ذواتهم بعيدًا عنهم، وهم حساسون جدًّا تجاه هذا، ويمرون بيومين أو ثلاثة من أعراض الانسحاب».
ترجع هذه المشكلة في الأصل إلى عيب في التصميم، في رأي فاضل، إذ أن تصميم المنتجات الذكية مثل آيفون يدعم احتياجات الفرد، بدلًا من أن يضع في اعتباره ما هو أفضل للأسرة والمجتمع المحيط.
اقرأ أيضًا: كيف تحولت العلاقات في عصر «الشات»؟
اعتقد كثير من الناس أن الإنترنت سيكون قوة داعمة للديمقراطية، وسيفتح الطريق لتمكين الجميع عبر المشاركة الحرة للمعلومات، وكانت هذه آمال معظم مصممي التقنية الأوائل، خلال شيوع الأفكار المثالية في ستينيات القرن الماضي، لكن الشركات تجاهلت الاهتمام بالمجتمع لاحقًا، وباعت منتجاتها باعتبارها قوى تحررية تقدمها التكنولوجيا للفرد وحده.
يقول فاضل: «كان كثير من المصممين والمبرمجين في العشرينيات من عمرهم حينما صنعوا هذه الأشياء، ولم يكن لديهم أطفال، والآن أصبح لديهم أطفال ويرون ماذا يحدث»، ويبدأ هؤلاء المبرمجين بعد ذلك في إعادة تقييم قراراتهم وتصميماتهم.
لم يحظ مبرمجو وادي السيليكون الشباب بأبناء في هذه الفترة من حياتهم، ولم يختلطوا بسيدات أو أقليات أو عجائز في عملهم، ولم يرحب هذا الوادي بالتالي بأي قيم عائلية، بحسب أستاذة علم الاجتماع «جودي واجمان»، وبالتالي ساءت سمعة وادي السيليكون بسبب امتلائه بالمصممين الذكور الشباب، الذين عكست تصاميمهم أحيانًا تصوراتهم الثقافية المحدودة.
تتساءل واجمان عمَّا إذا كان باستطاعتنا إنشاء مجتمع تكنولوجي مختلف يضم الرجال والنساء من جميع الأعمار، كيف ستبدو التصاميم التقنية حينها؟
التكنولوجيا الأخلاقية
ترفع كثير من الشركات التقنية أيديها عن التكنولوجيا التي تصنعها، وتعتبر أنفسها مجرد منصات رقمية غير مسؤولة عن طريقة استعمال المستخدم لمنتجاتها، لكن نقد هذا الموقف تصاعد بحدة، خصوصًا عندما سمحت خوارزميات فيسبوك للأخبار المزيفة بالانتشار على نطاق أوسع من الأخبار الحقيقية وقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
يشير فاضل إلى جانب آخر، هو التعديلات التي أجرتها غوغل على موقع يوتيوب. ففي البداية، ترك المبرمجون للمستخدمين حرية رفع المحتوى أيًّا كانت طبيعته، لكن المديرين أدركوا أثر هذا المحتوى العشوائي في صغار السن عندما صاروا آباء، فأنشؤوا منصة خاصة بالأطفال على يوتيوب لتلافي هذا الخطأ.
يحدِّثنا فاضل عن وجود عواقب كثيرة غير مقصودة لهذه التكنولوجيا، لكن هذا لا يعفي المبرمجين من المسؤولية، ويرغب في وضع «قَسَم أبقراط» خاص بالمبرمجين ومصممي التكنولوجيا، ليقسموا على الالتزام بأخلاق العمل وعدم التسبب في الأذى مثلما يفعل الأطباء.
قد يعجبك أيضًا: صور إنستغرام المعدلة تهدد صحتنا النفسية
يظن فاضل أن اكتشاف مساوئ هذه الصناعة سيساعد في تلافي العيوب غير المقصودة واستبعادها، وإصدار تكنولوجيا أخلاقية، فهل يحلم بعالم مثالي لا سبيل إلى تحقيقه؟ وهل سيتخلى المبرمجون الشباب عن إبداعاتهم التي ستهدد دائمًا بخرق «قَسَم أبقراط»؟