حين كنت أغطي أخبار التقنية قبل بضع سنين، كانت الصين تتصدر كثيرًا من العناوين، وغالبًا ما كانت هذه العناوين ذات طابع سلبي، إما بسبب قرار الصين حجب خدمة غربية، أو تقديمها شروطًا صعبة للغاية، مثل مراقبة الحسابات وتسليم البيانات للحكومة والالتزام بسياسات الحجب، وهو شيء دفع غوغل إلى مغادرة البلاد لأنها لم تقدر على تلبية هذه الاشتراطات.
صحافة الغرب كانت تصيغ هذه الأخبار في قوالب «نضالية»، فالصين، عدوة «الحرية الغربية»، لا تريد للمعلومات أن تتدفق خارج البلاد، لأنها تريد أن تُبقي على الشعب في جهل وظلام. مثل هذه الادعاءات كانت تلقى رواجًا كبيرًا، وكنتُ أؤمن بها معتقدًا أن حكومة الصين رجعية، لا تريد لشعبها اللحاق بركب التقنية الجديدة، وحصد خيرات غوغل ويوتيوب وتويتر.
لكن عندما نظرت إلى الأمور بشكل مختلف، وفكرت في الموضوع من وجهة نظر الصين، أجد نفسي ميّالًا إلى ما تفعله، بل أشجع الحكومات على اتخذا مثل هذه الخطوة، ليس لأسباب سياسية بل اقتصادية.
لن أعيد عليكم خطبة «بياناتنا في يدهم»، فكثيرون سمعوا بهذا الطرح، وكيف أن الغرب يتحكم في بياناتنا. أظن أننا وصلنا إلى مرحلة من التبلُّد في الإحساس، بحيث أصبحنا لا نبالي. لكن لننتقل في الحديث إلى الجانب الاقتصادي قليلًا، وكيف «قد» يكون لتبنِّي النموذج الصيني في الحجب أثره المفيد في دفع صناعة التقنية المحلية.
الحجب في الصين: لنبدأ ببعض الأرقام
بلغ صافي ربح فيسبوك في الربع الثالث من عام 2017 أكثر من أربعة مليارات دولار. والفضل يعود إلى الإعلانات، وهي مصدر دخل الشركة الأول. لو نظرنا إلى عدد مستخدمي فيسبوك الفعالين في الربع الثالث، سنجد أنهم في أوروبا وأمريكا الشمالية يتجاوزون 600 مليون بقليل، بينما يتجاوز عددهم في قارة آسيا وبقية دول العالم مليار مستخدم.
لم أوفق في العثور على تفاصيل الدخل حسب القارة، لكن سأفترض بحكم أن آسيا وبقية الدول تشكل أكثر من 50%، أنهم يشكلون نصف الربح، أي نحو ملياري دولار. ولك أن تتخيل لو أن فيسبوك كان مفتوحًا في الصين لرأينا هذا الرقم يتضاعف بشكل كبير.
تلك الأرقام قد تكرر مع عديد من الشركات الأمريكية مثل غوغل ومايكروسوفت وأوراكل، وغيرها كثير. والأمر الذي لا نستطيع إنكاره هو وجود تدفق للأموال من الشرق إلى الغرب. هذا ليس مؤامرة، فالغرب يسبقنا في التقنية، ومنتجاتهم أفضل من غيرهم، لذلك نفضل استخدامها.
اقرأ أيضًا: حرب مجلس «الفضاء الافتراضي» في إيران: حجب وتشويه وإنترنت حلال
الصين: عودة إلى الحجب
الصين، حين حجبت المواقع الغربية، دفعت الشركات المحلية وسمحت لها بالنمو في بيئة مريحة.
حين حجبت الصين المواقع والخدمات الغربية، أتاحت المجال للشركات والبدائل المحلية لأغلب التطبيقات، التي نعتقد أنه لا غنى لنا عنها. ففي جانب برامج المحادثة يتربع «WeChat» و«QQ» على القمة، وشبكة «Sina Weibo» هي بديل تويتر، و«بايدو» هو غوغل الصيني.
بحسب هذه الإحصائية، يزيد عدد مستخدمي الإنترنت في الصين على 730 مليونًا، وهذا الرقم سيزيد مع مرور الوقت، لأن تعداد سكان الصين الحالي يزيد على 1.3 مليار نسمة.
لو تَركَت الصين الباب مفتوحًا أمام الشبكات الاجتماعية الأجنبية، لك أن تتخيل كم من مواطنيها سيذهب إلى فيسبوك ويوتيوب وتويتر بحكم أنها «الأفضل». وحتى مع وجود البديل المحلي، فإن غالبية الناس لن تعبأ به، لأنها تريد أن تكون «مثل بقية الناس»: جزءًا من العالم. يرجع ذلك إلى أن الإعلام الغربي، عبر أفلامه ومسلسلاته وأخباره، يصور لنا أن وجودنا على مواقعهم أمر أساسي كي نعيش حياة هانئة (وصدق أو لا تصدق: أنت تتأثر بالإعلام).
كيف تؤثر فيك وسائل الإعلام دون أن تدري؟ يحدث هذا بوسائل عدة، يمكنك أن تعرفها هنا. |
حين حجبت الصين هذه الخدمات، لم تحمِ خصوصيتها فقط، بل أسهمت في منع تدفق مليارات الدولارات سنويًّا إلى خارج البلاد، على شكل رسوم خدمات وإعلانات على هذه المواقع. وفي نفس الوقت، دفعت الشركات المحلية وسمحت لها بالنمو في بيئة مريحة بعيدًا عن الضغوط، حتى صارت قادرة على منافسة الشركات الأجنبية، بل والتفوق عليها كما في حالة «WeChat»، الذي يتفوق على عديد من تطبيقات المراسلة بمراحل.
الحجب.. الاقتصاد.. الوظائف: كيف نفعلها في المنطقة العربية؟
المتابع للتكنولوجيا في المنطقة العربية يعلم أن أكثر الشركات العالمية التي تعمل هنا تكتفي بفتح مكاتب تمثيل محلية في عديد من الدول العربية من أجل «المبيعات» فقط. لم أسمع بشركة تستثمر مبالغ كبيرة في مراكز بحث محلية مثلما فعلتْ في دول أخرى. هذا إن دل على شيء، فهو يدل على عدم اهتمامٍ بتطوير صناعة التكنولوجيا المحلية، والاكتفاء بالبيع والبيع والبيع فقط، وهو ما يتسبب في خروج الأموال إلى الخارج وعدم تطوير الكفاءة المحلية، مما سيضعف القدرة على المنافسة أمام الشركات العالمية، ويؤدي إلى هجرة العقول.
يجب التشديد على أن دور الحكومة سيقتصر على التشريعات، وضمان عدم وجود احتكار من شركات معينة، وتوفير الدعم في حالة الحاجة فقط، ومن الأفضل أن تبتعد عن دخول السوق عبر أيٍّ من شركاتها، بحيث تتيح الفرصة لشركات القطاع الخاص التي ستتنافس بشدة لإثبات نفسها.
حين تنضج الشركات والشبكات الاجتماعية المحلية، يمكنها أن تنتقل من سوقها المحلية إلى الأسواق المجاورة.
لو حُجب يوتيوب وفيسبوك وتويتر، سنشجب ونمتعض، لكننا في الوقت نفسه سنبحث عن بديل. وهنا يأتي دور الحكومة وشركات الاستثمار المحلية في دعم البدائل المحلية لتنمو. سينتج عن هذا استثمار وخلق لكثير من الوظائف، فهذه الشركات سوف تحتاج إلى تلبية حاجة السوق وما يصاحبها من نمو، الأمر الذي سيجعلها في حاجة إلى الاستثمار والموظفين بشكل أكبر من ذي قبل.
قد يهمك أيضًا: لماذا قد نحتاج إلى بدائل لفيسبوك؟
ظهور شبكات اجتماعية محلية مدعومة لن يكون الشيء الوحيد الذي سيحرك صناعة التقنية وسوق الوظائف، فهذه الشبكات غالبًا ما تكون منصات كبيرة بحد ذاتها، وسنرى شركات صغيرة عدة تؤسس أعمالها عليها، في ظاهرة تسمى اقتصاد المنصات «Platform Economy».
لذلك، توقع ظهور شركات صغيرة مثل شركات الألعاب التي تعمل على فيسبوك، وشركات التطبيقات، وشركات الإحصاءات التي تَوَدُّ شراء البيانات، وشركات البِنَى التحتية التي ستنشط هي الأخرى، وهلم جرّا، وكل هذه الشركات ستكون محلية، وستكون بحاجة هي الأخرى إلى كثير من الموظفين.
الوظائف ليست الجانب الإيجابي الوحيد، فحين تصبح لديك عدة شبكات اجتماعية محلية يستخدمها ملايين، فإن من يرغب في الوصول إلى هؤلاء سيحتاج إلى التعامل مع تلك الشبكات، وهي فائدة أخرى. والآن، بدل ذهاب الأموال إلى الخارج، أصبح المال يأتي إلى الداخل، وهذا سيكون له أثر إيجابي وسيسمح للشركات بالنمو.
لاحقًا، حين تصل الشركات المحلية إلى مرحلة النضوج وتصبح قادرة على المنافسة العالمية، يمكنها أن تنتقل من سوقها المحلية إلى الأسواق المجاورة، وقد تكون لها الأفضلية لأنها ستفهم تلك الأسواق أكثر، بحكم قرب المسافة وتشابه الثقافة.
«يا عدو الحرية»
أمريكا، التي تصدع رؤوسنا بالحرية، سبق أن فرضت رسومًا إضافية على بعض المنتجات الزراعية، وتسببت في خسارة المزارعين.
ستُرفع شعارات كثيرة عن الحرية والرقابة الحكومية، والحجة التي سوف تتكرر هي أن الحكومة ستصبح المتحكمة في كل شيء وأننا سنرَاقَب بشكل مستمر. مع ذلك، نحن شبه مُسَلِّمين بأن الحكومات الغربية تراقب الكثير مما نفعله عبر الشبكات الاجتماعية. وعديد من الشبكات الاجتماعية تتعاون مع الحكومات حين يُطلب منها تسليم بيانات المستخدمين.
لذلك، فإن فكرة الخصوصية والهروب من الرقابة باستخدام مواقع أجنبية مجرد وهم لا أكثر. ونحن نرى يومًا بعد يوم كيف أن الحكومات الغربية تحارب من ينتقدها وتكشف عن جانبها السيئ، ولنا في «إدوارد سنودن» مثال.
اقرأ أيضًا: الأخ الأزرق يراقبك: كيف تثق في من يعرف عنك كل شيء؟
هناك أمر آخر، فالغرب الذي صدع رؤوسنا بالحرية يحجب ويمنع كثيرًا من الشركات التي يرى أنها تهديد لأمنه. وهذا المقال يستعرض بعض الشركات التي مُنعت من العمل في الولايات المتحدة بحجة «المخاوف الأمنية»، مثل «هواوي» و«كاسبرسكاي».
هذه الأمور ليست جديدة، ففي عام 1930 فرضت أمريكا رسومًا إضافية على بعض المنتجات الزراعية التي كانت تُباع بأرخص من الإنتاج المحلي، وتسببت في خسارة المزارعين الأمريكيين. أما عن علاقة الولايات المتحدة بالصين، فقد سبق للدولة التي تحمل شعار الحرية وفتح الباب للجميع أن أغلقت الباب في وجه المهاجرين الصينيين عام 1882، بحجة الضرر الذي أحدثوه في سوق الوظائف، والأمر لم يخلو من بعض المجازر.
حلول تقنية، ولكن...
ربما توجد حلول أخرى مثل شراء حصص في الشركات العالمية، أو الاستثمار المباشر في الشركات المحلية دون حجب.
الخيار الأول لا يساعد الصناعة المحلية بأي حال، والثاني مكلف للغاية، ولن تجد من يتحمس للاستثمار في منافس محلي لفيسبوك وتويتر، لأن الأمر سيحتاج إلى كثير من الوقت والمال والجهد، في حين أن الحجب يسهل القرار ببساطة، لأن المحلي سيكون الخيار الوحيد، وبالتالي سينمو رغم كل شيء، وهذا ما سيجعل المستثمرين يتحمسون لضخ المال فيه. الخيار الصيني صعب وقد تكون له تبعاته، لكنه ربما يكون خيارًا علينا التفكير فيه بجدية.