هذا الموضوع ضمن هاجس «كيف تشكِّلنا الحرب». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
يقول الروائي الأمريكي «جيمس بالدوين» إن «الواحد منا يكتب عن شيء واحد فقط، هو التجربة الشخصية. كل شيء يعتمد على مدى مثابرة الشخص في استخلاص الحلو والمر من التجارب حتى آخر قطرة». يدفعنا هذا الرأي إلى التساؤل: كيف يكتب الواحد منا عندما يعيش 10 سنوات حصادها كله مر؟
سؤال ربما طرحه المثقفون الجزائريون في تسعينيات القرن الماضي خلال «العشرية السوداء»، عندما كان الزمن زمن الإرهاب، أو ربما لم يسألوه لأن القضية كانت وقتها قضية وطن لا قضية كتابة.
في تلك الفترة، عندما كان الأديب والصحفي ودكتور الجامعة وإمام المسجد ومغني الراي أعداءً للمجتمع من وجهة نظر المتشددين الذين استهدفوا كل هؤلاء، بقيت بعض الأقلام الجزائرية تقاوم هذا الفكر المتطرف تصريحًا أو تلميحًا، وهي التي كانت مهددة في حياتها حتى داخل بيوتها التي ضاقت جدرانها بأصحابها، في بلد أودت الأزمة الأمنية فيه بحياة آلاف الأشخاص. وهنا نتساءل: كيف كان الإبداع؟ وماذا خَطّ القلم في زمن الإرهاب؟
شهادات على العشرية السوداء
يقول الدكتور أمين الزاوي، المدير الأسبق للمكتبة الوطنية في الجزائر، والذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية، إن إنتاج العشرية السوداء يميل إلى الشهادات أكثر منه إلى الرواية، لأن روّاده كانوا في الغالب قادمين من الصحافة، فحاولوا في كتاباتهم ملاحقة الحدث أكثر من الاهتمام بالجوانب الفنية المتعارَف عليها للرواية، لذلك سُمِّي هذا الإنتاج أدبًا استعجاليًّا.
يلفت الزاوي، في حديثه مع «منشور»، إلى أن أغلب هؤلاء الكُتاب الجدد نقلوا شهاداتهم من خارج البلاد، فقد سافروا إلى فرنسا وكندا وبلجيكا وأمريكا، وكان إصدارهم يُعبِّر في الغالب عن حالة شخصية عاشوها، فقد كان همهم التعبير عن هول الوقائع الذي صدمهم.
يطلق الكاتب الجزائري على هذا الإنتاج أيضًا لقب «أدب الحواجز المزيفة» الذي يحتاج أغلبه إلى إعادة بناء أدبي، لافتقاره في كثير من المرات إلى القواعد الأساسية المتعارف عليها في كتابة الرواية، لكنه يرى ذلك أمرًا طبيعيًّا، لأن من كتبوا أدبًا في زمن الإرهاب لم يكن همهم تخليد نصوصهم، وإنما تسجيل شهادة للتاريخ.
لكن رغم هذا الانتقاد الموجّه لِما كُتِبَ خلال سنوات العنف التي عاشتها الجزائر، لا يقلل أمين الزاوي من أهمية أدب الاستعجال، لأن الشهادات التي يحملها تبقى ذات قيمة، لأنها تعبِّر عن فترة مهمة عاشتها الجزائر، رغم المؤاخذات الأدبية عليها.
يوضح الزاوي أن هذا الإنتاج، حتى ولو بدا أدبيًّا، ليس ذا قيمة كبيرة، لكن تبقى له أهمية بالنسبة إلى المؤرخين وعلماء الاجتماع. هذه الظاهرة أيضًا لم تقتصر على الأدب، بل مست الأغنية والسينما والفن التشكيلي وبعض المسرحيات.
اقرأ أيضًا: 3 أفلام وثائقية من الجزائر: مكان مفتوح على هامش العشرية السوداء
أما الناقد محمد ساري، فيلفت إلى أن هذه الكتابات التي اصطُلِحَ على تسميتها بـ«أدب الاستعجال» تنقسم إلى صنفين:
- الصحفيين الذين تحولوا إلى كُتّاب بسبب العنف الذي عاشته البلاد، وكانوا في أغلبهم ممن يكتبون بالفرنسية، وإنتاجهم تُوجّه إليه ملاحظات
- كتابات من كانوا أدباء بالفعل قبل هذا التاريخ، واستطاعوا أن يوفقوا في محاولاتهم، ومنهم مثلًا آسيا جبار عند إصدارها «وهران لغة أخرى» في 1995
يعتقد أمين الزاوي أن من كتبوا في زمن الإرهاب، أو عنه، نقلوا في الحقيقة تجاربهم الشخصية، لذلك غلبت النرجسية على بعض الإصدارات، وكان البطل هو المثقف نفسه، وغابت صورة «الآخَر»، من شعب ومجتمع ومكان، لأن الأنا كان سيد كل شيء.
أحصى أمين الزاوي في دراسة 370 رواية جزائرية تناولت زمن الإرهاب، القليل منها حمل جمالية وبناء أدبيين حقيقيين.
يشير الزاوي إلى أن بعض الإصدارات اهتمت بالتحليل النفسي لأبطال الرواية، مثلما اعتمد رشيد بوجدرة في روايتي «يماهو» و«تميمون» الصادرة منتصف التسعينيات. لكن اختلفت أساليب التعبير من كاتب إلى آخر، فبوعلام صنصال في كتاب «قسم البرابرة» قدم نقدًا للعنف والإرهاب، بينما اعتمد أمين الزاوي نفسه في الكتابة على منطق آخر، فقد بحث في رواية «الخنوع» عن خلفيات الإرهاب وثقافة الدم والعنف وظاهرة اللاتسامح، ليظهر أن غياب فلسفة العيش معًا هو ما أوصل إلى ظاهرة الإرهاب.
وفي رواية «يصحو الحرير»، تناول الإرهاب من باب البحث عن سيكولوجية البطل التي تشبه حالة مرضية يعيشها في مجتمع غير متوازن وغير منفتح على الآخر. وأحصى الزاوي في دراسة 370 رواية جزائرية تناولت زمن الإرهاب، يقول إن القليل منها فقط يحمل جمالية وبناء أدبي حقيقي.
الجزائر: أين تكتب وقت الإرهاب؟
اضطر أمين الزاوي إلى الهجرة لفرنسا عام 1995، فقد تعرضت سيارته قبلها للتفجير، وأطلق المتشددون الرصاص عليه مرتين.
اختلفت ظروف الكُتاب الجزائريين في تسعينيات القرن الماضي من روائي إلى آخر، فبعضهم استطاع المقاومة والبقاء حيث كان، منهم رشيد بوجدرة المعروف بشيوعيته التي لا يحبذها المتشددون.
بدوره، كان أحميدة العياشي يقطن في مدينة بوفاريك بولاية البليدة، التي صُنِّفَت وقتها ضمن ما سُمي «مثلث الدم»، بالنظر إلى الوضع الأمني الخطير الذي عاشته البلاد، بل ذهب العياشي بعيدًا في عناده حين حاور مدني مزراق، أمير الجيش الإسلامي للإنقاذ، الجناح المسلح للمتشددين.
ولأن العشرية السوداء أتت على حياة الجلالي اليابس وأبو بكر بلقايد والطاهر جاووت، اضطر آخرون إلى الرحيل لمواصلة الإبداع، واختاروا النجاة من الموت، منهم الحبيب السائح، الذي اضطر إلى التوجه جنوبًا نحو ولاية أدرار هروبًا من ملاحقة الإرهابيين، بعدما وصلت إليه تهديدات في مدينته سعيدة، ثم وهران. أما عمارة لخوص، فقرر الهجرة إلى إيطاليا لمواصلة الإبداع الأدبي.
أما أمين الزاوي، فقد اضطر إلى الهجرة لفرنسا عام 1995، وبقي هناك أربع سنوات، فقد تعرضت سيارته قبلها للتفجير، وأطلق المتشددون الرصاص عليه مرتين، ما جعله يغير مكان إقامته عدة مرات، لكن ذلك لم يُجدِ نفعًا، فوجوده لم يعد خطرًا على نفسه فقط، بل حتى على من كان قد يضطر إلى الإقامة عندهم، لذلك لم يكن الحل الأخير إلا الرحيل إلى ما وراء البحر، حتى وإن بقي القلب والفكر في بلد الموطن.
العشرية السوداء كمحظور أدبي
يبقى موضوع العشرية السوداء إلى اليوم ملفًّا حساسًّا في الجزائر، ومحل صراع سياسي واتهام متبادَل بين السلطة والإسلاميين.
لكن هل ما كُتِبَ خلال زمن الإرهاب في الجزائر يمكن أن يصنف في خانة الأدب، وهو الذي لم يراعِ في كثير من الأحيان القواعد المتعارف عليها في كتابة الرواية، بل انتهج الأسلوب السردي في نقل الأفكار؟
يوجه الناقد محمد ساري ملاحظات ناقدة إلى ما كُتب في زمن الإرهاب، ويرى أدب الاستعجال مجرد «كتابات تقريرية تتصف بالتصوير الفوتوغرافي لوقائع وأحداث مرحلة الإرهاب، بعيدًا عن جماليات النص الروائي الجيد وتقنياته، وبخاصة من طرف الصحفيين الذين يكتبون بالفرنسية، الذين حاولوا وقتها خوض تجربة الرواية»، غير أنه يقر أن بعض المحاولات استطاعت أن تحقق نجاحًا لأنها احترمت الأساسيات المعروفة في كتابة الرواية.
يتفق مع رؤية ساري آخرون، منهم الأديب الراحل الطاهر وطار، وأمين الزاوي وواسيني الأعرج ورشيد بوجدرة وكمال قرور، والأخير يؤكد لـ«منشور» أن الكتابة في زمن الإرهاب وعن الإرهاب تبقى مجرد شهادات بعيدة عن الموضوعية، بالنظر إلى أن هؤلاء الكُتاب والصحفيين كانوا خارج الصراع الحقيقي، فلا أحد منهم كان بين صفوف الجيش، أو حاور أحد جنوده الذي واجه التشدد في الميدان، إضافةً إلى أن أحدًا منهم لم يعايش التجربة بين صفوف الجماعات المتشددة، ولذلك يبقى ما كُتب في زمن الإرهاب وعنه مبنيًّا على ما نقلته وسائل الإعلام، وكانت أغلب الكتابات عامة لا تحمل جزئيات وتفاصيل.
أما كمال قرور فيوضح أن الأدب تفاصيل ولا يتوقف عند الفكرة العامة، وما أُنتِجَ في زمن الإرهاب عبارة عن رد فعل عاطفي قُدِّمَ في بعض الحالات بطريقة ساذجة، لأنه اهتم بالفكرة العامة وأهمل التفاصيل، التي هي أساس الحبكة الأدبية.
لا يتردد قرور في القول إنه حتى اليوم لم يكتب الجزائريون عن زمن الإرهاب، وكل ما صدر عبارة عن ترويج لقناعات معينة.
يُرجِع محمد ساري هذا الوضع إلى أن موضوع العشرية السوداء يبقى إلى اليوم ملفًّا حساسًّا في الجزائر، ومحل صراع سياسي واتهام متبادَل بين السلطة والإسلاميين حول من كان وراء ظهور الإرهاب.
ساري وقرور يتفقان على أنه لا بد من كسر الجدران المحيطة بملف الإرهاب، الذي يظل يصنف على أنه «تابو»، ويقرّان كذلك بأن المحظورات التي حملها ميثاق السلم والمصالحة الوطنية هي التي تخيف كل من يحاول الاقتراب من هذا الملف.
تنص المادة 46 من ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، الذي يسمح بعودة المتشددين إلى المجتمع في حال تخلوا عن العمل المسلح، على أنه «يعاقَب بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات، وبغرامة من 250 ألف إلى 500 ألف دينار جزائري، كل من يستعمل، من خلال تصريحاته أو كتاباته أو أي عمل آخر، جِراح المأساة الوطنية، أو يعتد بها للمساس بمؤسسات الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، أو لإضعاف الدولة، أو للإضرار بكرامة أعوانها الذين خدموها بشرف، أو لتشويه سمعة الجزائر في المحافل الدولية، وتباشر النيابة العامة المتابعات الجزائية تلقائيًّا، وفي حالة العودة تُضاعَف العقوبة المنصوص عليها في هذه المادة».
اليوم، وبعد أن تحسن الوضع الأمني في الجزائر، ولم يبقَ من الإرهاب سوى بقاياه، يبقى موضوع الإرهاب نفسه جاذبًا للكتابة لأنه يلفت الانتباه. لذلك يواصل ياسمينة خضراء وكمال داوود الاهتمام بملف الإرهاب، لأنه الموضوع الأكثر صنعًا للحدث والجدل رغم الخطوط الحمراء التي وضعها القانون.