على مر السنوات الماضية كان تصاعد الحديث عن الأفلام العربية مرتبطًا بالترشح لجوائز السينما العالمية ومهرجاناتها بشكل كبير. بدأ الأمر مع الفيلم الجزائري «Z» سنة 1969، وهو الفيلم العربي الوحيد الفائز بجائزة الأوسكار. تمويل الفيلم كان جزائريًّا فرنسيًّا، لكن الإخراج كان فرنسيًّا خالصًا للمخرج «كوستا غافراس». جاء من بعده فيلم جزائري آخر هو «وقائع سنوات الجمر»، أول الأفلام العربية التي حازت على جائزة السعفة الذهبية لمهرجان «كان» عام 1975، للمخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة.
في 2018 كان الأمر مختلفًا كثيرًا عن الأعوام الماضية. لم يبدأ الحديث مع ترشح فيلم «قضية رقم 23» للمخرج اللبناني-الفرنسي زياد دويري إلى القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار، بل بدأ في سبتمبر 2017، بعد توقيف السلطات اللبنانية لدويري في مطار بيروت الدولي في أثناء عودته، وتزامنًا مع فوز كامل الباشا بجائزة أفضل ممثل في مهرجان «فينسيا السينمائي» في دورته الـ74 عن، دوره في فيلم دويري «قضية رقم 23».
تعرض دويري للتوقيف وسحب جوازات سفره تمهيدًا لإحالته إلى القضاء العسكري بتهمة التعامل مع إسرائيل في أثناء تصويره فيلمه «الصدمة» في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 2011، وبالتحديد في مدينة تل أبيب التي أقام فيها لشهور عدة ليصور الفيلم، الذي استعان فيه بطاقم عمل إسرائيلي.
استمر الحديث حول شخص دويري، لكن الجدل القوي بدأ مع عرض فيمله الأخير «قضية رقم 23» في قاعات السينما العربية. ومؤخرًا وصل الفيلم إلى القائمة القصيرة لجائزة الأوسكار في دورته الـ90 قبل أن يخسر لصالح الفيلم التشيلي «A Fantastic Woman» في فئة أفضل فيلم أجنبي.
بعد أن خمدت نيران المعركة التي دارت بين جميع الأطراف مع بداية عرض الفيلم وحتى خسارته للأوسكار، حول خلفية دويري وإمكانية عرض أفلامه في البلدان العربية، نحاول هنا فهم أسباب الخلاف التي قد يكون لها علاقة بماضٍ قديم من الخلافات السياسية والمجازر الإنسانية في لبنان، وقد يكون عدم معرفة بعض الناس بهذا الماضي جعلهم يتخيلون أن الصراع هنا كان مجردًا من الخلافات السياسية والطائفية والإنسانية.
نحاول تحليل المشروع السينمائي الذي قدمه دويري في أفلامه الأربعة، وفهم الخط التاريخي المرتبط بتاريخ الحرب الأهلية اللبنانية والقضية الفلسطينية، وإذا ما كان لتغير آراء دويري تأثير في مشروعه السينمائي.
بيروت الغربية: الحرب بعيون مراهق
في مشهد افتتاح فيلم «بيروت الغربية»، نرى «طارق» يتمرد على ترديد النشيد الفرنسي في طابور المدرسة الصباحي، فنفهم طبيعة التوجه السياسي للمخرج.
يُعدُّ المخرج اللبناني زياد دويري من أهم مخرجي السينما اللبنانية وأكثرهم شهرة. دويري الذي سافر إلى أمريكا عام 1983 لدراسة السينما، تخرج بعد ثلاث سنوات في جامعة سان دييغو حاصلًا على شهادة في السينما. بعدها عمل مصورًا في لوس أنجلوس لسنوات عدة، وأهم محطاته كانت مع المخرج العالمي «كوينتن تارانتينو»، إذ عمل معه مساعد مصور في ثلاثة أفلام.
عاد دويري إلى لبنان مع نهاية التسعينيات حاملًا أحلامًا سينمائية رُسِمَت في لوس أنجلوس. عرض أول فيلم من كتابته وإخراجه «بيروت الغربية» عام 1998. دويري، الذي ولد إبان الحرب الأهلية اللبنانية، حاول في فيلمه الأول استعادة بعض مشاهد مراهقته خلال الحرب الأهلية.
الفيلم يحكي قصة مراهقين يحاولان تصوير أول أفلامهما بكاميرا «8 ملي» تزامنًا مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تتصاعد الأحداث وينخرط المراهقان في عدة أزمات نرى من خلالها التغير الذي صنعته الحرب. حاول دويري في فيلمه الأول إعادة ترتيب مشاهد الحرب.
منذ مشهد الافتتاح نرى «طارق» الذي يقوم بدوره رامي دويري، شقيق زياد، يتمرد على ترديد النشيد الفرنسي في طابور المدرسة الصباحي. مع تلك اللحظة يمكن أن نفهم طبيعة التوجه الفكري والسياسي للمخرج، فمن المعروف أن الاعتزاز بالنشيد والطباع الفرنسية أمرٌ يرجع إلى الطائفة المارونية في لبنان، واعتزازها باللغة الفرنسية.
في المشهد التالي نرى حادثة «البوسطة» في عين الرمانة، والتي تعد أول شرارة لاندلاع الحرب الأهلية، وراح ضحيتها أكثر من 27 شخصًا من المواطنين الفلسطينيين. كانت العملية ردًّا على محاولة اغتيال رئيس حزب الكتائب اللبنانية ذي الأغلبية المسيحية بيار الجميّل. بعدها اندلعت اشتباكات في منطقة عين الرمانة بين مسلحي الكتائب اللبنانية والفصائل الفلسطينية.
بدا أن دويري يحاول عن طريق الفيلم رؤية الحرب من خارجها، لكن من اسم الفيلم يمكن استنباط إلى أي جهة كان انحيازه. بيروت الغربية هي الجزء الذي كان يسكنه المسلمون واليسار واليمين المسلم وعدد من الفصائل الفلسطينية.
حاول دويري رصد التغيرات التي طرأت على سكان المنطقة الغربية، وبالتحديد في المشهد الذي يشكو فيه عمر لصديقه طارق أن والده يريد منهم أن ينتظموا في الصلاة بعد توقف الدراسة تمامًا حتى لا يخسروا دينهم، ويطالبهم بأن يتوقفوا عن سماع «بول آنكا» و«الروك آند رول» لأنهم يغنون للسكس. ممنوع الاستماع في البيت سوى لأغاني أم كلثوم، ولحظتها يقول عمر مستنكرًا الجملة الأشهر في الفيلم: «أم كلثوم ما بتغني إلا للسكس».
توقف دويري عند مشاهد معينة أراد من خلالها رصد التغير الذي يحدث في المجتمع اللبناني لحظتها، مجتمع ترك الرقص وأغاني بول آنكا من أجل حرب طائفية لا يعرف أحد مصيره داخلها. لكن يبدو أن دويري لم يكن لديه رؤية حقيقية في كل هذه التغيرات، كان يشاهد الحرب من خارجها، غير مشتبك مع أي من أطرافها المتنازعة سوى مع التيار اليميني المتدين.
قد يهمك أيضًا: المتعاطفون مع الفلسطينيين مُدانون في هوليوود
قالت ليلى، ولم يسمع أحد عنها أو عن الفيلم
يعود زياد دويري بفيلمه الثاني «قالت ليلى» بعد ست سنوات، وبالتحديد في عام 2004. لم يلقَ الفيلم نجاحًا كبيرًا في الأوساط النقدية أو حتى لدى المشاهد العربي، وهو فيلمه الوحيد الذي لا يثير أي ضجة سياسية. تدور أحداث الفيلم عن علاقة تنشأ بين صبي مراهق لديه موهبة في الكتابة، وهو في الـ19 من عمره، يعيش في مارسيليا، ويدخل في علاقة جنسية مع فتاة سيئة السمعة، ما يسبب له كثيرًا من المشكلات في محيط حياته، ومع أصدقائه.
الصدمة: حليب فلسطيني مخفوق بالدم في تل أبيب
يصور فيلم «الصدمة» الفلسطينيين باعتبارهم متطرفين يمارسون القتل، بينما المجتمع الإسرائيلي متفتح ومتقبل.
غاب زياد دويري عن الساحة اللبنانية والسينمائية ثمانية أعوام، ثم عاد بفيمله «الصدمة» عام 2012، وكان الفيلم اسمًا على مُسَمّى، إذ أثار عدة مشكلات للمخرج، ومُنِعَ عرضه داخل لبنان ومعظم البلدان العربية، وهو الفيلم ذاته الذي أُوقِف دويري على خلفيته في مطار لبنان، وصُودر جوازا سفره اللبناني والفرنسي، واحتُجِزَ ليحال بعدها إلى محكمة عسكرية على خلفية دخوله إلى «الكيان الصهيوني».
خالف دويري القانون اللبناني الذي ينص على تجريم أي تعامل أو زيارة لدولة الاحتلال الإسرائيلي. دويري، الذي أقام في إسرائيل لمدة تزيد عن 11 شهرًا، وتعاون في فيلمه مع طاقم عمل إسرائيلي، نفى عن نفسه تهمة التطبيع، وبررها أمام وسائل الإعلام بأنه «رضع حب فلسطين مع حليب أمه».
فيلم «الصدمة»، المقتبس عن رواية الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا، يروي قصة طبيب عربي إسرائيلي يكتشف أن زوجته نفذت عملية انتحارية داخل تل أبيب، ويحاول بعدها كشف الحقيق بعد أن احتجزته أجهزة الأمن الإسرائيلية.
يصور دويري في فيلمه الثالث مشهد التفجير الانتحاري والأطفال الإسرائيليين الغارقين في دمهم. ويأتي ذلك بعد مشهده الأول الذي يقف فيه الطبيب ليتسلم أرفع الجوائز الطبية في إسرائيل قبل أن يعرف ما فعلته زوجته. حاول دويري أن يرى المشهد من الجانب الآخر، لكنه في الحقيقة لم يرَ أي شيء، صَوّر المجتمع الفلسطيني ونابلس باعتباره متطرفًا يمارس القتل والعمليات الانتحارية، وفي المقابل، كان المجتمع الإسرائيلي متفتحًا ومتقبلًا.
اقرأ أيضًا: تستطيع أن تصنع السلام إذا اقتنعت أنك قد تكون الشرير
قضية رقم 23: عودة إلى لبنان ما بعد الحرب
يعود زياد دويري في فيلمه الأخير «قضية رقم 23» عام 2017 إلى لبنان، إذ يروي هذه المرة قصة شخصين هما «طوني حنا»، مواطن مسيحي ينتمي تنظميًّا إلى حزب الكتائب اللبناني، ويقوم بدوره الممثل والإعلامي اللبناني عادل كرم، والشخص الآخر «ياسر سلامة»، مهندس فلسطيني يؤدي دوره الممثل الفلسطيني كمال الباشا.
تدور أحداث الفيلم عن خلاف ينشب بين طوني حنا وياسر سلامة إثر تسرب مياه من شرفة طوني، فيصلح ياسر، المسؤول عن الصيانة في المنطقة، التلف ويركِّب «زاروب مياه». تتطور الأحداث سريعًا، ويشتد الخلاف بينهما لأنهما يحملان إرثًا من الخلافات القديمة بين الطائفة المسيحية المارونية والفصائل الفلسطينية خلال الحرب الأهلية.
طوني حنا، الذي خرج مع والده من قريته حينَ كان صغيرًا هربًا من الفصائل العسكرية الفلسطينية التي شنت حملات عسكرية عليها، مات على إثرها جميع أفراد عائلته وكثير من أهالي القرية، كان يحمل في ذاكرته مشاهد القتل والهرب.
يبدأ الفيلم بمشهد خطاب يلقيه رئيس حزب الكتائب اللبنانية في مؤتمر يحضره طوني وعدد من أفراد الحزب، ويصف طوني الرئيس بالحكيم، ما يشير إلى شخصية سمير جعجع، رئيس الحزب، الذي أدين في عدد من المجازر بحق اللبنانيين والفلسطينيين في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.
الخطاب السياسي المسيحي كان حاضرًا طوال الفيلم باستخدام مشاهد خطابات بشير جميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية عام 1976، كميليشيا عسكرية ارتكبت مجازر قاسية في حق اللاجئين الفلسطينيين، وتحالفت مع جيش الاحتلال في أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وقبل ذلك.
كانت وجهة النظر والرواية المسيحية المارونية للحرب الأهلية حاضرة بقوة في الفيلم. الرؤية التي يقدمها الفيلم أيضًا لطبيعة اللاجئ الفلسطيني داخل المخيم أو لبنان تبدو شديدة المارونية، وهو ما أكده دويري باستخدام خطابات بشير جميل، السياسي اللبناني وقائد ميليشيا القوات اللبنانية، الذي انتُخب رئيسًا للجمهورية اللبنانية، لكنه اغتيل قبل تسلم المنصب. يحاول دويري طوال الفيلم تأكيد منطقية الرؤية المارونية وقت الحرب، ومنطقية خطابات بشير جميل.
حاول دويري في فيلمه التأسيس لحاضر شخصياته انطلاقًا من الماضي، الأحداث لم تُخلَق مع تلك اللحظة الحالية، لكنها امتداد لأحداث قديمة ظن الجميع أنها انتهت، كجرح قديم مر عليه وقت طويل، لكن أثره لا يزول أبدًا.
قد نربط بين تاريخ شخصية طوني حنا التي أسس لها دويري في فيلمه، وشخصية إيلي حبيقة، أحد قادة ميليشيا القوات اللبنانية خلال الحرب الأهلية، وأحد المسؤولين عن مجزرة صبرا وشاتيلا. التشابه بين خلفية إيلي حبيقة وطوني حنا كانت حادثة «الدامور»، التي قُتِل فيها عدد من أهل حبيقة وخطيبته وقتها. لاحقًا، برر بعض الناس ما فعله حبيقة في مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها في حق لاجئين فلسطينيين عُزّل.
من تلك النقطة يحاول دويري رسم واقع شخصياته، وإعطاءها المبرر الكافي لكل هذا الغضب، الذي يتمثل في جملة قالها طوني لياسر في أحد المشاهد: «ياريت شارون مَحَاكُن عن بِكرَة أبيكن».
لم يخلُ السيناريو من مشاهد قد يراها كثيرون مطروحة بسذاجة شديدة، والمشهد الأخير ربما يكون واحد من «كليشهات» السينما العربية الأصيلة، ينقصه فقط أن يمسك طوني وسلامة يدي بعضهما ويرددان نشيد العروبة أو الهتاف الشهير «يحيا الهلال مع الصليب».
رأى دويري في النهاية أن ابتسامة طفيفة من الشخصيتين لبعضهم بعضًا كانت تكفي لإخماد كل النيران التي أعادا إشعالها.
اقرأ أيضًا: قضية رقم 23: عندما تصبح مقاطعة إسرائيل «وجهات نظر»
بدا زياد دويري في أفلامه كأنه لا يعرف شيئًا عن المجازر الإسرائيلية طوال الأعوام الماضية. لم يعرف شيئًا عن دير ياسين، أو صبرا وشاتيلا، أو حتى المجازر التي يرتكبها يوميًّا جيش الاحتلال، وعمليات الاغتيال التي دبرتها المخابرات الإسرائيلة خلال السنوات الماضية.
بدا أنه لا يعرف عن فلسطين سوى الحليب الذي أرضعته له والدته، ولم يعرف عن الحرب الأهلية اللبنانية سوى أن الجميع تركَ أغاني «بول آنكا». ويبدو أن حنينًا قديمًا تجدد لدى دويري، حنين كان لدى الطائفة المارونية نحو إسرائيل، التي رآها بعض المارونيين مثالاً قويًّا للدولة الدينية الحديثة المستقلة التي كثيرًا ما حلموا بمثلها في لبنان.
تغيير كبير حدث في أفكار زياد دويري منذ فيلمه الأول. دويري، الذي كان ينتقد آراء اليمين المتطرف، أصبح يدافع عنها ويرى أن الطائفة المارونية واجهت ظلمًا كبيرًا بعد الحرب الأهلية، كما أشار في أحد حواراته، ويبدو أنه في النهاية ترك بول آنكا مثل الجميع، واختار سمير جعجع بديلًا.