هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
في فيلمه الأول «بيروت الغربية»، الذي عُرض عام 1994، صوَّر لنا المخرج اللبناني زياد دويري الحرب الأهلية اللبنانية بعيون ثلاثة مراهقين، رأوا في التجوال بين أحياء بيروت التي قسمتها الحرب مغامرة ممتعة.
وفي 2017، في فيلمه الرابع «قضية رقم 23» الذي رُشِّح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي، يعود دويري إلى تراجيديات الحرب الأهلية اللبنانية، لكن هذه المرة بعيون الكبار الذين لم تنتهِ معاناتهم النفسية والعاطفية بانتهاء الحرب، وأثرها الذي تمخض عن نظام سياسي هش في استقراره، كالسلام الذي يقوم عليه.
شجار الكبار في بلد هش
الكبار هنا هم «طوني»، رجل مسيحي لبناني، و«ياسر» اللاجئ الفلسطيني المسلم. يبدأ الفيلم بشجار صغير جدًّا يسبُّ فيه ياسر طوني. قد يبدو للوهلة الأولى أن الإهانة الموجهة إلى طوني، والتي يأخذ عنها الفيلم اسمه الفرنسي «L'insulte» (الإهانة)، هي محرك الأحداث، ولكن سرعان ما تصبح تلك الإهانة غير ذات صلة بمحركات الأحداث في الفيلم، ويراها كل المحيطين بالرجلين غاية في الصغر.
لكن معظم النار من مستصغر الشرر، فوراء الإهانة والشجار الصغير الذي قيلت فيه، يقبع تاريخ طويل من المعاناة والدوافع الأيديولوجية والسياسية التي تحرك بطلي الفيلم. فطوني ينتمي إلى حزب القوات اللبنانية الذي كان طرفًا فاعلًا في أحداث الحرب الأهلية، وتحركه خُطَب القائد الراحل لحزب القوات بشير الجميل. لا يستمع طوني إلى الراديو أو الأغاني اللبنانية الراقصة في ورشته، بل يترك خطب بشير تصدح من تلفزيون قديم، لتلهب فورته وغضبه من وضع سياسي واجتماعي يرى أنه يفضل اللاجئين الفلسطينيين على أبناء لبنان المسيحيين.
وياسر لاجئ فلسطيني تحمل قسمات وجهه تاريخًا طويلًا من المعاناة والارتحال، وتشعل غضبه أيضًا خطب بشير الجميل. فما إن يذهب إلى ورشة طوني على مضض ليعتذر له عن إهانته، إذ به يغير رأيه بعد أن صادف وصوله استماع طوني إلى إحدى خطب بشير التي تلقي بلوم الحرب على الفلسطينيين. يخبره طوني بأنه يتمنى لو أن «شارون محاكن عن بكرة أبيكن»، فيرد ياسر بلكمة، ويترك طوني بضلعين مكسورين.
يتعاظم الأمر من شجار صغير إلى محاكمة أولية أمام محكمة صغيرة، ثم أخرى أمام محكمة أكبر، ويتعاظم معها الاهتمام الإعلامي والسياسي والاجتماعي، ويتطور الأمر من شجار بين رجلين إلى وضع ينذر بالانفجار بين طوائف المجتمع اللبناني.
اقرأ أيضًا: قضية رقم 23: عندما تصبح مقاطعة إسرائيل «وجهات نظر»
أزمة التاريخ عبر شخصيات دويري
تنجح طريقة تقديم الشخصياته ودوافعهم في إبقاء المُشاهِد مهتمًّا حتى النهاية، وينجح تفكيك الشخصيات في تقريبهم من المُشاهِد.
يأخذنا دويري في تلك الرحلة المحملة بالتاريخ والسياسة والحروب والجروح التي لم تلتئم، بسيناريو محكم لا يخلو من المفاجآت، ولا ينسيه ما يحمل من معالجات سياسية ودينية واجتماعية أن يعطي أبطاله عمقًا ودوافع تحركهم. تنبع قوة السيناريو من أنه لا يكشف كل شيء مرة واحدة، فهو يفكك أبطاله في مشهد تلو الآخر. على سبيل المثال، قد يحتار المُشاهِد في أمر طوني، ويتساءل عن الذي يجعله بهذا التطرف في انتمائه لدرجة أن يفضل خطب بشير الجميل كخلفية صوتية لعمله في الورشة، بينما يفكك لنا الفيلم شخصيته حتى نحصل على إجابتنا قرب النهاية.
وفي المقابل أيضًا، ربما يحتار المُشاهِد في شخصية ياسر، وما الذي يجعله يفقد أعصابه مرتين وهو الرزين ذو الملامح الهادئة، وأيضًا نحصل على إجابتنا من ماضي الشخصية قرب نهاية الفيلم.
تنجح طريقة تقديم الشخصيات ودوافعهم في إبقاء المُشاهِد مهتمًّا بالشخصيتين حتى النهاية، بدلًا من أن يتيه وسط الجدالات السياسية والطائفية في المحكمة. وينجح تفكيك الشخصيات في تقريبهم من المشاهِد، ومن بعضهم أيضًا. فسرعان ما ندرك أن بطلي الفيلم يحملان من التشابهات ما هو أكثر من الاختلافات، فكلاهما يُظهِر اجتهادًا في عمله، وكلاهما زوج جيد، ويحمل من العناد والكرامة ما قد يدفعه إلى تحمُّل كثير من الأمور، وكلاهما لم يُرِد للأمر أن يتعاظم إلى تلك الدرجة.
قرب النهاية، ندرك أيضًا أن اختلافهما الإثني والديني قد خلَّف وراءه معاناة مماثلة لمعاناة الآخر، شكلت جزءًا كبيرًا من هويته ومحركات شخصيته، وينتج عن إدراكنا هذا وإدراكهما تفهمنا وتفهمهما التدريجي لمعاناة الآخر.
تأتي أيضا قوة الفيلم من قيامه على ثلاثة محاور أو حلقات متداخلة للصراع:
- المحور الشخصي: يبدأ به الفيلم مُمَثَّلًا في شخصيتي البطلين والشجار الذي تؤججه سمات العناد والشعور بالكرامة عندهما.
- المحور الجماعي/القومي: يأخذنا الفيلم مع الوقت إليه من منظور أبعد، فالشجار بين البطلين يولِّد صراعًا طائفيًّا يشغل البلاد، وينذر بقيام حرب أهلية أخرى، ويجعل الوضع خطيرًا للدرجة التي تستدعي تدخل رئيس الجمهورية. يحمل هذا المحور أيضًا نظرة ناقدة لاستغلال بعض اللبنانيين تلك الحساسيات التي ورثها لبنان من الحرب الأهلية لإشعال مزيد من النار، إما للمصلحة وإما للتعصب، الأمر الذي يدفع الوضع إلى الخروج من يدي طرفي المحاكمة، ويُشعرهم بالعجز عن إنهائه رغم أنهما طرفاه الأساسيان.
- المحور الجندري: يحمل الفيلم نظرة ناقدة (قد لا يدركها المُشاهِد إلا عند استرجاع الفيلم بعد مشاهدته) للذكورية المهيمنة على المجتمع اللبناني، والمؤججة للتعصب الطائفي. فالتهور والتسرع ومزاج طوني الحاد، ولجوء ياسر إلى العنف واستخدام يديه، من الأسباب الرئيسية لوصول الشجار إلى قاعة المحكمة. لم يُثنِهما عن ذلك صوت العقل مُمثَّلًا في زوجتيهما، خصوصًا زوجة طوني، التي كان شعورها بالانزعاج والضيق واضحًا عندما استخدمها حجة لعدم سماحه لعمال شركة الإصلاحات التي ينتمي إليها ياسر بدخول بيته لإجراء تصليحات.
هناك أيضًا أصدقاء طوني وشباب اللاجئين الفلسطينيين الذين أضفوا على المحاكمة نوعًا من العنف اللفظي والفوضى، وكانوا طرفًا رئيسيًّا في الاشتباكات التي اندلعت في الشوارع كرد فعل على المحاكمة. حتى المحامي المخضرم لطوني، الذي يترافع أمام محامية صغيرة السن تمثل ياسر، نراه يفقد أعصابه ويشتبك مع شاب صغير داخل المحكمة، وهو المحامي ذو الباع الطويل في قاعات المحاكم.
لا يدع كل هذا المُشاهد إلا ويشعر بأن الفيلم يحمل من النقد تجاه المحركات الذكورية للصراع ما يحمله تجاه المحركات الطائفية. يقفز الفيلم بين تلك المحاور بسلاسة ويسر، ويمزج بينها بمهارة مستعينًا بصورة متقنة الصنع.
قد يهمك أيضًا: زياد دويري: من «بول آنكا» إلى سمير جعجع، ما الذي تغير؟
الصورة كمُعبر محترف عن المعنى
دويري له باع كمصور في هوليوود، نجح في صناعة صورة متقنة ساعدت سيناريو الفيلم على الظهور بقوة على الشاشة. فجاءت تحركات الكاميرا سريعة وديناميكية في مَشاهد الشجار، وجاءت اللقطات قريبة في مَشاهد البطلين خارج المحكمة، لتعطينا نظرة ذاتية مقربة على بطلي الفيلم وشخصيتهما، واتسمت ألوان تلك المَشاهد بالقوة والتشبع، بينما اتسمت الكاميرا ولقطاتها وتحركاتها بموضوعية أكبر في مَشاهد المحاكمة، وجاءت ألوانها أكثر هدوءًا، وكأننا طرف بعيد عن المحاكمة ينظر إليها بحثًا عن الحقيقة مثله مثل القضاة.
أسهم كل هذا في إيصال الأبعاد الشخصية والجماعية للصراع بشكل فعال ومؤثر، لنصل بنهاية فيلم «قضية رقم 23» إلى تفهم متساوي المقدار لمعاناة البطلين ودوافعهما، وندرك ما جاء على لسان محامي طوني من أن «المعاناة ليست حِكرًا على أحد».