الحكومة الصينية مثال ممتاز للمركزية في الحكم، تفرض السيطرة على مجريات الحياة، وتتحكم في كل ما يمس المواطن الصيني. من التفاصيل التي تتحكم فيها الحكومة الصينية، ما يشاهده المواطن على التلفاز أو في السينما، إذ لا يُسمَح بوجود فكر معارض أو تيار مغاير للحكومة أو الرئيس، أو حتى دُب ينتمي إلى عالم الرسوم المتحركة، ظهر لأول مرة في كتاب أُنتِجَ في عشرينيات القرن العشرين، وتحول إلى كارتون للأطفال، وكل المشكلة أنه يشبه الرئيس بشكل أو بآخر.
«ويني الدبدوب» واحد من أشهر شخصيات شركة «ديزني»، الدب الكسول المحب للعسل، والذي ينخرط مع أصدقائه في مغامرات كثيرة وممتعة برفقة الصبي الصغير «كريستوفر روبن». لا تلميحات سياسية، ولا إيحاءات عنصرية، ولا شيء. مجرد سلسلة أفلام كارتون للأطفال.
لكن بوجود الرقابة الصينية المعروفة بعدم تهاونها في ما يُعرَض على الشاشات، وتاريخها المليء بحالات المنع لمختلف المنتجات الإعلامية من مسلسلات وأفلام، وحتى رسوم متحركة، كان من المتوقَّع حجب فيلم «Christopher Robin»، من إخراج «مارك فوستر»، عن الجمهور الصيني، وبخاصة أن شخصية «ويني الدبدوب» ممنوعة من الظهور على الشاشات الصينية منذ فترة.
«ويني الدبدوب».. صديقك المفضل
«ويني الدبدوب» هو الشخصية المناسبة للأطفال، وفاؤه وقدرته على حل المشكلات ونشره للحب والضحك على الرغم من ذكائه البسيط، يجعلك تثق في المحتوى المقدَّم لطفلك. ظهر «ويني» لأول مرة عام 1926 في كتاب من تأليف الكاتب والروائي «آلان أليكسندر ميلن»، لكنه لم يتوقع حجم النجاح الذي سيحققه الدُّب.
أنتجت «ديزني» أول فيلم لويني في 1966، بعنوان «ويني الدبدوب وشجرة العسل»، وحقق نجاحًا كبيرًا، فتم إنتاج مزيد من الأفلام عن الدب وأصدقائه.
تسمية «ويني» كانت عن طريق ابن آلان ميلن الطفل «كريستوفر روبن». فبعد رحلته لحديقة الحيوان ورؤيته الدب ويني القادم من كندا، أطلق كريستوفر اسم ويني على دبه المحشو بالقطن. وفي 2015، كتبت «ليندسي ماتيك» كتابًا للأطفال بعنوان «البحث عن ويني: القصة الحقيقة لأشهر دب في العالم». حصل الكتاب على «وسام كالديكوت»، الوسام الأعلى في الكتب المصورة بالولايات المتحدة.
في 1930، اتفق آلان ميلن مع «ستيفن سلازنغر»، المنتج السينمائي الشهير وقتها، على أن يروِّج لويني الدبدوب، مقابل 66% من الأرباح وألف دولار لميلن، ليحقق الدب في العام التالي أرباحًا تكاد تصل إلى 50 مليون دولار. تمر السنين، ويُتوفى ميلن وسلازنغر، لترث زوجتاهما حقوق ويني. وفي 1961 تبيع أرملة سلازنغر (شيرلي) حقوق ويني الدب لشركة «ديزني»، مقابل 2% من الأرباح.
أنتجت «ديزني» أول فيلم لويني في 1966، بعنوان «ويني الدبدوب وشجرة العسل»، وحقق نجاحًا كبيرًا، ما دفع ديزني إلى إنتاج مزيد من الأفلام التي تدور حول الدب وأصدقائه. وإذا كان قد نجح مع سلازنغر، فإن ويني الدبدوب تحول إلى علامة من علامات «ديزني»، فتعلن مجلة «فوربس» في 2005 أنه قد حقق أرباحًا وصلت إلى ستة بلايين دولار.
في 2018، أصدرت «ديزني» فيلم «Christopher Robin»، الذي يتناول قصة «كريستوفر روبن» بعد أن كبر وتحول إلى رجل عامل بائس فقد لذة الحياة، ليقابل كريستوفر صديق طفولته «ويني الدبدوب» وأصدقاءه، ويعيد اكتشاف السعادة. حقق الفيلم في أول أسبوع له في دور العرض، نحو 25 مليون دولار.
قد يهمك أيضًا: عنصرية «ديزني» التي تمنعها من تقديم «الآخَر»
«ويني الدبدوب».. عدوك اللدود
قررت الحكومة الصينية استخدام كلمة «جون أوليفر» على موقع «Weibo» بعدما انتقد «حساسية شي المفرطة».
في 2013، أجرى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، آخر زيارة له كرئيس للولايات المتحدة، وكانت وجهته جمهورية الصين الشعبية، استقبله الرئيس «شي جين بينغ» بحفاوة. لكن ظهرت صورة على مواقع التواصل الاجتماعي حوَّلت هذه الزيارة إلى مصدر للسخرية من الرئيس شي.
الصورة كانت للرئيسين وهما يمشيان بجوار بعضهما. تداولها بعض المستخدمين، وقد وضعوا بجانبها صورة «ويني الدبدوب» يمشي بجوار صديقه النمر «تايغر». من هنا بدأت العداوة بين الحكومة الصينية وشخصية ويني الدبدوب. فالحكومة الصينية المعروفة بالصرامة، لم تتقبل مزحة مثل تشبيه رئيس الدولة بشخصية كارتونية، وقررت إنهاء وجود ويني على الأراضي الصينية.
رغم رفض الحكومة لتشبيه الرئيس شي بالدب ويني، ففي 2014، وفي صورة جمعت بين الرئيس شي ورئيس الوزراء الياباني «شينزو آبي»، وجد مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صورة مشابهة تجمع الدب ويني بصديقه الحمار المتشائم «إيوري».
أما في 2015، ووفقًا لموقع «Global risk insight»، فإن صورة الرئيس «شي» خارجًا من سقف سيارته، وبجوارها صورة الدب ويني في سيارة، أكثر صورة حُظِرَت في ذلك العام. وقد علقت الحكومة على هذه الصورة بأن هناك جهودًا جادة للتقليل من كرامة مكتب الرئيس، ومنه شخصيًّا.
قررت الحكومة الصينية حظر كل الصور التي تحتوي على «ويني الدبدوب»، وبدأ الحظر منذ بداية 2017. وفي يونيو من نفس العام، حظرت الحكومة موقع شبكة HBO، بعدما انتقد مقدم البرامج «جون أوليفر» «حساسية شي المفرطة» تجاه موضوع ويني الدب. كذلك حظرت استخدام كلمة «جون أوليفر» على موقع التواصل الاجتماعي الأول في الصين «Weibo».
لذلك كان من البديهي أن تحجب الرقابة الصينية الفيلم القائم على الشخصية. وعلى الرغم من أن الفيلم لا يحتوي على أي رسائل أو تلميحات سياسية، ومناسب جدًّا لتأخذ عائلتك ليلة الخميس وتشاهده في السينما، فإن اللغط المتصاعد حول هذه المسألة، جعل مشاهدة الفيلم في الصين مستحيلًا.
لكن «ويني الدبدوب» ليست الشخصية الوحيدة المحجوبة عن أطفال الصين، فهناك شخصيات كارتونية أخرى غير مسموح ظهورها على التلفاز الصيني أو حتى على الإنترنت الصيني.
«بيبا بيغ».. رمز العصابات
عادةً ما اتخذت العصابات في الصين رموزًا وشعارات تميزها، تظهر قوتها وتبين سطوتها. لكن في الآونة الأخيرة اتخذت الأمور منحى غريبًا في الصين، فاتخذت العصابات «بيبا بيغ» رمزًا لها، وصارت وشمًا على أذرع رجالها.
«بيبا بيغ» شخصية كارتونية للأطفال أقل من سن السادسة، خنزيرة صغيرة تعيش مع أسرتها، تلعب في الوحل، وتخوض مغامرات كثيرة. وصلت إلى الصين في 2015، وحققت شهرة وانتشارًا بين الأطفال بشكل واسع للغاية، لكن في أواخر 2017 انتشرت بيبا بين الشباب.
تحولت بيبا إلى رمز للعصابات. فقد اتخذها كثير من «أناس المجتمع»، وهو المصطلح الذي يُطلَق على العصابات والعاطلين شعارًا لهم، فحجبتها الحكومة الصينية من تطبيق الفيديو الصيني «Douyin»، ومسحت ما يقرب من 30 ألف فيديو للشخصية الكارتونية، وحجبت أي هاشتاغ يحمل اسم «بيبا».
«بيبا بيغ»، وفقًا لكثير من الأهالي، ليست الشخصية المُثلى ليقتدي بها أطفالهم. اشتكى بعض الأهالي أن بيغ تعلم الأطفال السلوكيات الخطأ، وتحرض الأطفال على الرد عليهم. بعض الأطفال يرفضون أكل الخضروات، بعضهم يلعب في الوحل، وبعضهم يتجاهل أوامر الأهل، كل هذا يجعل من بيبا شخصية محبوبة بين الأطفال ومكروهة بين الأهالي.
لكن الصين لم تعترض على سلوكيات بيبا بيغ أو أثرها في الأطفال، وإنما اعترضت على أنها تحولت من مجرد شخصية كارتونية للأطفال دون السادسة، إلى رمز لفئة مجتمعية مكروهة، وهي فئة «أناس المجتمع».
قد يهمك أيضًا: أبطالنا المضطربون: شخصيات كارتونية مريضة نفسيًّا
الصين ليست البلد الوحيد
الصين ليست الدولة الوحيدة التي تحجب كارتون معينًا أو تمنع ظهور شخصية كرتونية معينة على شاشاتها. دول كثيرة تحجب مشاهد أو حلقات أو حتى مسلسلات كاملة، وقد اختلفت أسباب الدول التي دفعتها لتحجب رسومًا متحركة من المُفترَض أنها تتسم بالبراءة.
«سبونغ بوب سكوير بانتس»، الكارتون الأشهر حول العالم، تعرضت كثير من حلقاته للحجب في أكثر من 120 دولة. سبب الحجب يختلف من حلقة إلى أخرى ومن دولة إلى أخرى، لكن كلها اتفقت على أن الكارتون يحتوي على كثير من المشاهد العنيفة أو الكلمات النابية التي تلجأ بعض الدول إلى تغييرها في الدبلجة.
منعت فنلندا ظهور شخصية «دونالد داك»، بسبب عدم ارتداء البطة الشهيرة بنطالًا.
حلقات كثيرة من الكارتون الشهير «توم وجيري» حُجِبَت حول العالم بسبب العنف المبالَغ فيه، والأذى الجسدي الذي يتعرض له القط «توم». كذلك، فالكارتون يجعل الأطفال تتعاطف مع الفأر «جيري»، وتتقبل أي أذى يتعرض له القط، ما يزرع داخلهم قناعات لا توافق عليها كثير من الدول.
الولايات المتحدة وكندا، ثم باقي دول العالم، لجأت إلى حجب كثير من حلقات مسلسل «The Simpsons». وعلى الرغم من سقف الحريات المرتفع في هذه الدول، فإن كثيرًا من حلقات هذا المسلسل تخطت الحواجز، وحملت إهانات لأعراق أو طوائف معينة.
فنلندا منعت ظهور شخصية «دونالد داك»، الذي نعرفه عندنا باسم «بطوط» على شاشاتها، والسبب في ذلك عدم ارتداء البطة الشهيرة بنطالًا. السبب قد يبدو غريبًا، لكن هيئة «هلسنكي» لشؤون الشباب قررت حجب الكارتون بسبب أنه يتجاهل القيم العائلية، ويهدد الأخلاقيات، ويشجع على الجشع، ولا يرتدي بنطالًا، وحدود العلاقة بين بطوط و«زيزي» (بطوطة) غير واضحة.
في المرة القادمة التي تشاهد فيها كارتونك المفضل، ربما يكون عليك أن تفكر في أنه يعيش بالفعل في نفس العالم الذي تعيش فيه، بل ويتعرض لنفس الأخطار.
الكارتون عمل فني، ينقل أفكارًا وآراء قد تتوافق مع بعض الناس، وقد لا تتوافق. بالطبع تحمل بعض الأعمال الفنية تحيزات عنصرية، وأفكارًا مربكة. الشخصيات الكارتونية ليست بريئة دائمًا، لكن ربما علينا أن نضع الأمور في نصابها.