هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
على يد بعض الفنانين تحديدًا دون غيرهم نبدأ في تذوق الفن حتى نفتتن به، نشعر في كل مرحلة أن ما يقدمونه مناسب تمامًا لنسمعه الآن تحديدًا، وكأنه كُتب في هذه اللحظة. نتقدم في العمر وتتطور ذائقتنا وتختلف، وتبقى أعمالهم نفسها تتكشَّف لنا جوانب جديدة منها في كل مرة، لا تشيخ.
سيد حجاب، الشاعر المصري الذي رحل في 25 يناير 2017، هو واحد من هؤلاء الذين نجحوا بقصائدهم المكتوبة بإجادة فريدة في صناعة هذا النوع من الفن الخالد دائمًا.
1. الشاعر الذي قرر ألا يكون للمثقفين فقط
لم تكن بداية حجاب مع الأغاني مباشرة، بل كان يكتب شعر الفصحى ثم انتقل بعد ذلك إلى العامية.
يُحكى عن الشاعر الراحل أحمد رامي أنه تردد كثيرًا قبل أن يبدأ في كتابة القصائد بالعامية لتغنيها أم كلثوم. هناك اعتقاد سائد لدى معظم المثقفين بأن الشعر يجب أن يُكتب في دواوين ويُقرأ في الأمسيات الشعرية، على أن يكون مكتوبًا بالفصحى، وما خالف ذلك فهو درجة أقل من الشعر، وأحيانًا لا يطلقون عليه شعرًا. لهذا خاف رامي، شاعر الشباب، ولهذا جرى العرف بأن هناك «الشاعر» ثم بعده يأتي «الشاعر الغنائي».
الشاعر سيد حجاب، الذي بدأ يدرس علم العَروض والقوافي (القواعد الخاصة بكتابة الشعر) منذ كان في العاشرة من عمره، قرر الاستغناء عن الألقاب الخاصة ليصبح شاعرًا للجميع.
ربما لا يعلم الكثيرون أن حجاب لم تكن بدايته مع كتابة الأغاني مباشرة، بل كان يكتب شعر الفصحى ثم انتقل بعد ذلك إلى قصائد العامية، وتأرجح فترة بين كتابة كليهما ثم مال في النهاية إلى العامية لسبب سنذكره لاحقًا، وكل هذا قبل أن تُصبح قصائد سيد حجاب مغنَّاة.
«إيه معنى دنيتنا وغاية حياتنا
إذا بِعنا فطرتنا الجميلة الرقيقة؟
وإزاي نبُصّ لروحنا جُوَّه مرايتنا
إذا كنا عايشين هربانين من الحقيقة؟»
‒ من مقدمة مسلسل «المال والبنون»
على مسامع أسطورة أخرى في الشعر هي صلاح جاهين، ألقى سيد حجاب قصائده العامية، ليقفز جاهين بعد انتهائه قائلًا: «كده بقينا كتير»، في إشارة إلى جودة الشعر الذي كتبه حجاب، والذي يؤهله لأن ينضم إلى الأساتذة في كتابة الشعر، وهي شهادة كافية لأي شخص كي يحصل على لقب شاعر وربما شاعر مهم أيضًا، لكن سيد حجاب، كما تمرد على الفصحى، قرر مواصلة التمرد.
بعد إصدار ديوانه الأول «صياد وجنيَّة»، جاءته ردود الأفعال رائعة من النقاد والمثقفين، وهو أقصى ما يتمناه أي فنان حقيقي، ولكن الشاعر الراحل كان له رأي آخر.
ربما قرأ شعر كثير من المثقفين، إلا أنه فكر في الكثير جدًّا من الأميين الذين لا يجيدون القراءة، وهم من استمدَّ منهم أفكاره من الأساس. كيف يمكن أن يكتب الشعر لأناس لن تقرأه؟ كيف يخرج بالشعر من الدواوين التي يجب أن تدفع لتقتنيها، إلى الشاشات الموجودة في كل بيت؟
هكذا كان قراره ألا يصبح شاعرًا للمثقفين، بل اتجه لكتابة القصائد لتصبح مقدمة (تتر أو شارة) المسلسلات، ويبدأ عصرًا جديدًا مع دواوينه المغناة، ويعيد تعريف الأغنية في الدراما.
قد يعجبك أيضًا: فهد العسكر: الشاعر التنويري الذي سبق عصره وحارب التقاليد في زمن مظلم
2. وكأنك أنت تكتب القصيدة
يقول سيد حجاب إنه تلقى نصيحة غالية من أحد مدرسيه في طفولته. قال له هذا المدرس، بعد أن قرأ قصائده، إن القصائد تدور بين تسع أو عشر عواطف فقط، هي عواطف حجاب نفسه بالطبع، وإنه لو استمر في الكتابة عن العواطف ذاتها سيتحول من شاعر إلى «صنايعي» أو حِرَفي.
كانت النصيحة أن يعبر إلى الصيادين الذين يعيش بجانبهم، لدى كل صياد من هؤلاء عشر عواطف أخرى، أي عشر قصائد لو نجح في كتاتبها سيصبح لديه آلاف القصائد غير المكررة. وهذا ما قد كان، وكان هذا أحد الدوافع الأخرى التي أدت بحجاب لاختيار العامية بدلًا من الفصحى.
«دنيا ولَّا صندوق الدنيا
فيها ناس ألماظ ناس ألمونيا»
‒ من مقدمة مسلسل «أبنائي الأعزاء شكرًا»
«فيه جلد كان جمل، وجلد كان حمل
وأهو كله بيتعمل جزمة وحزام وشنطة
فيه جلد مالوهش لون وجلد بألف لون
لو تغسله بصابون يطلع لونه أونطة»
‒ من أغنية «يلا بينا تعالوا» من فيلم «الكيت كات»
الأبيات السابقة تُبرز إلى أي درجة انخرط حجاب في استخدام مفردات الحياة اليومية التي يمكن أن ترددها في حوارك التقليدي، وهي ألفاظ كان من النادر استخدامها في الأغاني، إلا بعض المونولوجات الكوميدية مثل التي قدمها إسماعيل يس.
فـ«الألمونيا» تستخدم للتعبير عن الشيء غير الأصلي، و«الأونطة» تعبر عن الشيء المزيف، وهما أكثر صدقًا وتعبيرًا عن الحالة من الكثير من المفردات الأخرى؛ لأن هذه هي المفردات نفسها التي يستخدمها الناس في حياتهم اليومية.
«الغش طرطش رش ع الوش بُويه
ما دريتش مين بلياتشو أو مين رزين
شاب الزمان وشقيقي مش شكل أبويا
شاهت وشوشنا تُهنا بين شين وزين»
‒ من مقدمة مسلسل «أرابيسك»
مرة أخرى نجد مفردات مثل «طرطش» و«بويه»، ثم «شين وزين» أو سيء وصالح، وجميعها مفردات خاصة جدًّا بالبيئة والموقف.
لكن الميزة الأخرى هنا ليست فقط اختيار المفردات الدارجة؛ بل توظيفها وسط أبيات ومفردات أخرى تجعل وقعها موسيقيًّا على الأذن حتى دون أن تُغنَّى، لهذا نجد في الأبيات السابقة «الغش، رش، وش»، وجميعها مفردات بينها جناس (عدد الحروف نفسه مع تغيير حرف واحد لتعطي الكلمة معنى مختلفًا)، والجناس واحد من أشهر ألاعيب سيد حجاب الشعرية الساحرة.
كل هذا جعل لحجاب مدرسته الخاصة، ويكفي أن تسمع بعض الأبيات لتدرك فورًا أنها لسيد حجاب دون أن تقرأ اسمه، فمن يقدر أن يأتي بكل هذه المفردات بهذا الجناس وهذه الأريحية سواه؟
اقرأ أيضًا: حكايات ذاتية جدًّا: عمار الشريعي.. وآخرون
3. القصيدة جزء من الدراما
ضِمن ما أراده سيد حجاب في مشروعه الخاص لنقل قصائده للتليفزيون كان أن تصبح القصائد جزءًا من الدراما نفسها، تضيف إليها، وليست مجرد أغنية يمكن نسيانها بانتهاء العمل، أو، وهو الأصعب، أن تبقى القصيدة المغناة ناجحة وفي الوقت نفسه تتذكر من أي مسلسل أو فيلم كانت، وهكذا مارس سحره الخاص في هذا أيضًا.
«أيام ورا أيام
لا الجرح يهدا
ولا الرجا بينام»
«اسم الشهرة سيد أوبرا
فن الأوبرا هوايته الكبرى
والمهنة إنسان أفوكاتو
المحاماة والأوبرا حياته»
بمجرد قراءة الأبيات السابقة ستدرك فورًا اسم المسلسل، فالأبيات الأولى من مقدمة مسلسل «الأيام»، والثانية من مسلسل «أوبرا عايدة»، وفي الثانية تحديدًا نجد أنه عرَّفنا بالشخصية الرئيسية التي يدور عنها المسلسل سريعًا.
ولا يمنع حجاب صعوبة اسم مسلسل مثل «مَن الذي لا يحب فاطمة؟» مِن أن يكتب:
«أهي ماشية وبتعدي
صدمة في قطمة في لطمة
وفي وسط الصراعات دي
مين مايحبش فاطمة؟»
هكذا بمنتهى البساطة.
وإن كان المسلسل يدور في الصعيد، فستتحول القصيدة فورًا إلى اللهجة الصعيدية، مثل:
«ع الليل وآخره الخُطا يابا
تايه وراكبنا الخَطا يابا
إحنا الطياب زادنا طيابة
جرحنا روحنا ولا طيابة»
وهو ما قد يبدو طلاسم لمن لا يجيد اللهجة الصعيدية تحديدًا، فالمقصود بـ«الطياب» نضوج الثمار، و«طيابة» في المرة الأولى تدل على الطيبة وفي الثانية تعني المداواة من الجروح، وما سبق من أبيات من نهاية مسلسل «الليل وآخره» الذي كان أبطاله من الصعيد، ولهذا جاءت الكلمات في المقدمة والنهاية باللهجة الصعيدية.
نجح حجاب في فِعل ما يحلم كثير جدًّا من الشعراء والمبدعين بالوصول إليه؛ أن يعرف الناس اسمه.
فعل سيد حجاب هذا وكأن الإتيان بمفردات تحمل أكثر من معنى أمر غاية في البساطة، في حين أن الحقيقة هي أن هذا ليس سهلًا على الإطلاق، لكن حجاب هو من جعله يبدو هكذا.
قد يهمك أيضًا: حافظ الشيرازي: الشاعر الصوفي الذي يأخذك لحياة أفضل
4. الشاعر الذي نعرف اسمه
ما قدمه سيد حجاب خلال فترة نشاطه، الممتدة منذ منتصف الستينات حتى قبل رحيله في 2017 بأعوام قليلة، كان أكبر من مجرد مشروع خاص به، أو كتابة قصائد تشتهر من خلال الدراما وتزيد شهرتها في الوقت ذاته.
نجح حجاب في فِعل ما يحلم كثير جدًّا من الشعراء، وغيرهم من المبدعين ممن يقفون وراء الكاميرات، في الوصول إليه؛ أن يعرف الناس اسمه، ليس في مصر فقط، بل في كل الدول العربية بحكم انتشار الدراما المصرية، خصوصًا مع وجود الفضائيات المخصصة للمسلسلات التليفزيونية، إذ صار ممكنًا مشاهدة اسمه أكثر من مرة في اليوم الواحد.
عزَّز من هذا أن معظم الأعمال التي كتب سيد حجاب أشعارًا لها كانت مميزة بالفعل، ولهذا فإن كانت القناة التليفزيونية تذيع مسلسلات قديمة فسنجده مع «ليالي الحلمية» و«أبنائي الأعزاء شكرًا» و«الشهد والدموع»، وإن كانت تذيع أعمالًا أحدث فهناك «المصراوية» و«كناريا وشركاه» و«الليل وآخره»، ثم هناك الفوازير التي لها مكانة خاصة باستعراضاتها وأشعارها لدى الجميع، وفيها برع حجاب كعادته أيضًا مع «حاجات ومحتاجات».
كتب شعراء عِظام لأم كلثوم كلمات رائعة، وظل المستمعون في النهاية يقولون: «تقول الست»، في حين إن الست ليست صاحبة الحكمة بل الشاعر. شعراء قليلون فقط نجحوا في الإفلات من هذا الفخ، كان منهم سيد حجاب.
ومع كل ما قدمه في المسلسلات، وظهور اسمه بشكل متواصل طَوَال 30 حلقة يوميًّا، أصبح الاسم مرتبطًا لدى المشاهد بالمسلسل وبالشعر، وهي أفضل دعاية ممكنة لأي شاعر.
وأضافت حالة العزلة التي كان يفضلها الشاعر الراحل كثيرًا لوهج الاسم، فلقاءاته الإعلامية كانت محدودة، وفي هذه اللقاءات يتسم بالهدوء الشديد بحيث يبقى في النهاية الاسم فقط، اسم سيد حجاب، والصفة، الشاعر، ونبقى نحن نستمع الآن ولاحقًا، نندهش في كل مرة من هذه التفاصيل، ونحلم أن نصبح بمثل هذه العبقرية، مع إيماننا الكامل بأن العباقرة لا يتكررون كثيرًا.