هكذا تغير «الصوابية السياسية» مسارات السينما والتلفزيون

لقطة من إحدى حلقات كارتون «توم وجيري» - الصورة: Metro-Goldwyn-Mayer

ضحى حمدي
نشر في 2018/03/13

ملحوظة: يحتوي هذا الموضوع على حرق لأحداث عدة أفلام سينمائية.


إحدى أكثر الكلمات ترديدًا اليوم على الساحة السياسية والثقافية هو مصطلح «الصوابية السياسية». لم يعرف التاريخ معنى واحدًا لهذا المصطلح، ففي ثلاثينيات القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي استُخدِم لوصف مدى مواءمة الأشخاص وولائهم لسياسات الحزب الشيوعي من عدمه.

ومنذ الستينيات حتى الثمانينيات أعيد إحياء المصطلح بعيدًا عن ذلك المعنى السابق في حرم الجامعات الأمريكية. الأمريكيون محمَّلون برعب مما آلت إليه الحضارة الأوروبية من صعود الفاشية والتمييز على أساس العرق واللون والدين وإبادات جماعية، ويسعون إلى أن يكون حاضرهم ومستقبلهم مختلفًا بأن يتأكدوا من تمكين المجموعات المضطهَدة والمهمشين: النساء وأصحاب البشرة الملونة والأقليات العرقية المختلفة.

للمصطلح أيضًا نسخته اليمينية، إذ الصائب سياسيًّا هو الشوفيني، والفاشي، والقومي.

اليوم يرتبط مصطلح الصوابية السياسية كثيرًا بفعل انتقاء الكلمات، بفعل التردد قبل أن تقول رأيًا مخالفًا أو غير مقبول أو له شعبية كبيرة، التفكير مرتين قبل أن تقول شيئًا لامباليًا، فيمكن اتهامك بعدها بأنك عنصري وكاره للمثليين ومُعادٍ للسامية ومتحيز جنسيًّا، إلخ.

تحت سيادة ثقافة الصوابية السياسية: أسود تصبح أمريكيًّا إفريقيًّا أو صاحب بشرة ملونة، فقير تصبح مهمشًا اقتصاديًّا، الاحتباس الحراري يصبح التغير المناخي، زوج أو زوجة تصبح شريك أو شريكة، وهكذا.

اليوم يرتبط المصطلح كثيرًا بمفاهيم التسامح والتقبل والحساسية والرقابة، والأهم بثنائية «تجريم ومنع خطاب الكراهية» في مقابل «حرية التعبير».

أحدث المصطلح، وما يمثله، استقطابًا بين الأحزاب الأمريكية، ومجالًا للصراع بين اليمين والليبراليين واليسار، ولعبت وسائل الإعلام المختلفة دورًا في التأثير السياسي، سواء مع أو ضد.

تاريخ الصوابية السياسية في هوليوود

إعلان فيلم «Song of the South»

استخدام السينما، الوسيط الثقافي الأقوى، بدا دومًا جذابًا للوصول إلى الجمهور العريض، وللبروباغندا والدعاية السياسية في السينما تاريخ طويل، استخدمتها ألمانيا النازية، وبريطانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية، الاتحاد السوفييتي في أوائل القرن العشرين، منذ فيلم «The Birth of a Nation» عام 1915، مرورًا بـ«Battleship Potemkin» في 1925، و«Triumph of the Will» عام 1934، وصولًا إلى «The Great Dictator» في 1940، وأفلام كثيرة بعدها.

ليس تاريخ البروباغندا في السينما موضوعنا، لكن كيف أثرت «الصوابية السياسية» في مسارات السينما والتلفزيون في هوليوود.

حددت شركة «الفنانين المتحدين» 11 فيلم رسوم متحركة منعت عرضها أو إصدار نسخ جديدة منها، بدعوى أنها أفلام غير لائقة للعرض، وعُرفت باسم «Censored Eleven» .

في عام 1946 صدر فيلم «Song of the South»، أحد كلاسيكيات ديزني والحائز على جائزة أوسكار أفضل أغنية أصلية. قصة الفيلم مأخوذة من «حكايات العم ريماس»، وهي قصص للأطفال من الفلكلور الأفروأمريكي تقع في الجنوب الأمريكي خلال مواسم الزراعة. في الفيلم يحكي العم ريماس (ويمثله شخص أسود) قصصه مُحاطًا بحيواناته: أرنب ودب وذئب، عُرضوا برسوم متحركة في الفيلم.

أعيد عرض الفيلم عدة مرات، وحقق نجاحًا تجاريًّا قياسيًّا حتى ذكرى صدوره الـ40 عام 1986، حين منع الاستوديو صدور أي نسخ فيديو أو DVD من الفيلم داخل الولايات المتحدة وخارجها من وقتها حتى الآن، لتعرضه إلى دعاوى تتهمه بالعنصرية والتصوير اليوتوبي للجنوب الأمريكي، والوقوع في فخ التصوير الرومانسي للعبودية، لأن العم ريماس راوي الحكايات بدا سعيدًا جدًّا بما يتناقض مع حقيقة كونه خادمًا/عبدًا وقتها، وظهر في الفيلم بشكل خاضع وتابع لسيده الأبيض.

حتى يومنا هذا، يطالب كثيرون ديزني بعرض نسخ من الفيلم للجمهور ودارسي السينما لقيمته التاريخية، وحتى يتسنى للجميع دراسة الفيلم وتأثيره، وتعد الشركة بإلغاء قرار التحفظ على الفيلم وإتاحته للجمهور كل عام، لكن لا جديد حتى الآن.

قد يهمك أيضًا: عنصرية «علاء الدين»: المشكلة أكبر من ممثل بني البشرة

«أغنية الجنوب» ليس الفيلم الوحيد الذي مُنِعَ عرضه بعد سنوات من صدوره، ففي عام 1968 حددت شركة «الفنانين المتحدين» 11 فيلم رسوم متحركة صدرت بين ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين من إنتاج «Warner Bros.»، ضمنها فيلم من سلسلة الكارتون الشهيرة «Looney Tunes»، ومنعت عرضها أو إصدار نسخ جديدة منها بدعوى أنها أفلام غير لائقة للعرض، وبها تصوير نمطي للأقليات العرقية والملونين. عُرفت الأفلام باسم «Censored Eleven».

بعض الأفلام التي مُنع إعادة عرضها بسبب التصوير النمطي للأقليات العرقية

تطول قوائم منع عرض الأفلام، سواء محلية الإنتاج أو الأجنبية، وعلى مراحل مختلفة زمنيًّا.

في عام 1915 قامت مظاهرات لحركات مدنية عدة لمنع عرض فيلم «The Birth of a Nation»، ورغم كونه فيلم بروباغندا عنصرية يُظهِر السود مغتصبين أشرارًا وينادي بتمجيد العرق الأبيض، فإن بناءه السردي وتطويره للشخصيات والمونتاج والإضاءة يمثل علامة فارقة في تاريخ السينما إلى الآن، ومخرجه من رواد هوليوود الأكثر تأثيرًا.

في 1932 مُنع عرض فيلم «Scarface» في خمس ولايات لأنه يحض على العنف والجريمة، وفي 1979 مُنع عرض الفيلم الألماني «The Tin Drum» في ولاية أوكلاهوما لاحتوائه مشهدًا جنسيًّا بين طفل صغير وسيدة بالغة، وفي 1988 مُنع عرض «The Last Temptation of Christ» للمخرج «مارتن سكورسيزي» في بعض الولايات عدة أسابيع، لاختلافه عن السرد الإنجيلي بشأن طريقة موت المسيح.

كلاسيكيات السينما في مواجهة الصوابية السياسية

مقطع من فيلم «Pulp Fiction» تحت ثقافة الصوابية السياسية

الآن، ومع تصاعد وتيرة الصوابية السياسية، ما الذي يمنع أفلامًا أخرى ضمن كلاسيكيات السينما من الوصول إلى المصير نفسه؟

مجرد تخيل كلاسيكيات السينما وقد صُنِعَت في وقتنا الحالي تحت ثقافة الصوابية السياسية يصيب بالضحك. سلسلة «The Godfather» كان سيلزم إخضاعها لكثير من التعديلات حتى لا تسيء إلى مشاعر الأمريكيين من أصل إيطالي. وفيلم «The Idiots» سيكون مجرد فيلم آخر يسخر من أصحاب الإعاقات الذهنية والجسدية.

بالفعل تنهال صناعة قوائم من ذلك النوع متضمنة عشرات من الأفلام غير اللائقة سياسيًّا، ويمكنها الإساءة إلى مشاعر مجموعة من الناس، أو تمثيل مجموعة أخرى بشكل غير مناسب «طبقًا لهم».

اتُّهم فيلم كوميدي قديم بأن محتواه عنصري بسبب احتوائه على شتائم مسيئة للسود لم تعد مقبولة اليوم، مثل «Nigger».

اقرأ أيضًا: عنصرية هوليوود: أين قصص الحب بين البيض والسود في السينما؟

ما يحتويه كثير من القوائم سيدهشك، إذ تتضمن بعضًا من كلاسيكيات السينما وأفلام ترشحت أو حازت جوائز عدة، وأخرى كانت بمثابة ثورة على تقنيات السينما وقت صدورها أو حققت أرباحًا عالية وتصدرت شباك التذاكر ، والتالي أمثلة لهذه القوائم:  

فيلم الدراما الرومانسي التاريخي الحائز على ثماني جوائز أوسكار، قد يصنف كغير لائق سياسيًا لوقوعه في فخ القوالب النمطية بتصويره الخادم/العبد الأسود السعيد.

فيلم الدراما الرومانسي الشهير يصور الجار الآسيوي بشكل ساخر ومسيء.

الفيلم الكوميدي، برغم طابعه الساخر في تصويره الحياة في الغرب الأمريكي قديمًا، فإنه اتُّهم بأن محتواه عنصري بسبب الشتائم المسيئة إلى السود التي لم تعد مقبولة اليوم، مثل «Nigger»، وأعلن مخرجه «ميل بروكس» أن الحساسيات الناتجة عن الصوابية السياسية تخنق الكوميديا، وأن فيلمه لم يكن ليُصنَع في يومنا هذا.

لتصويره «جودي فوستر» في دور عاملة جنس صغيرة السن، إذ كان عمرها 12 عامًا وقت التصوير.

لأن مجتمع الـ«LGBTQ» يدَّعي سوء تصويره للمثليين والعابرين جنسيًّا.

لتصويره بعض الكائنات الفضائية، مثل «جار جار بينكس» و«واتو»، بهيئة وملابس بدت مشابهة، وربما تسخر من بعض الأقليات العرقية.

وتطول القوائم والأفلام...

قد نضطر إلى تغيير فيلم «الحي الصيني» بثقافة الصوابية السياسية إلى «منطقة في لوس أنجلوس معظم سكانها أمريكيون من أصل آسيوي».

يمكننا تخيل شركات إنتاج هذه الأفلام اليوم وهي مدفوعة برؤيتها الجديدة، أو تحت ضغط منع عرض هذه الأفلام مجددًا، فتقتفي أثرها، وتمحو نسخها من على الإنترنت في المستقبل القريب، أو تطرح نسخًا معدلة منها بعد حذف بعض المقاطع.

في إطار ساخر، شجع موقع Cracked مرتاديه على تعديل بوسترات أفلام كلاسيكية بعد تخيلها وقد صُنِعَت اليوم تحت ثقافة الصوابية السياسية، ونتج عن هذا تحويل فيلم «Fight Club» (نادي القتال) إلى «انتقِ كلماتك»، بينما يصير فيلم «12 Angry Men» إلى «12 إنسانًا غاضبًا»، وسنكون ملزَمين بتمثيل كل فئات المجتمع ضمن الـ12 شخصية للحصول على أكبر تنوع ممكن.

أما فيلم «Aliens» (فضائيون) فسيتغير اسمه ليصبح «مواطنين غير موثقين في السجلات»، ويتغير اسم فيلم «Chinatown» إلى «منطقة في لوس أنجلوس معظم سكانها أمريكيون من أصل آسيوي»، وهكذا.

كيف يُعاد تشكيل السينما على المعايير الجديدة؟

في مقابل هجمات المنع، تظهر سياسات جديدة لتفعيل أجندة الصوابية السياسية، فماذا كانت النتيجة؟

  • 1. الجوائز

في يناير 2016، أعلنت أكاديمية الأوسكار نيتها إجراء سلسلة واسعة من التغييرات في عدد أعضائها ليصبح ضعف العدد الحالي من النساء والأقليات العرقية والملونين بحلول 2020، وذلك بهدف زيادة التنوع بين الأعضاء، وبالتالي الأفلام المرشحة.

جاء ذلك ردًّا على النقد الحاد الذي تلا نتائج توزيع جوائز أوسكار عام 2015، إذ افتقرت إلى التنوع العرقي. لعامين على التوالي، خلت قائمة مرشحي التمثيل (أفضل ممثل وممثلة، أي 40 مرشحًا في العامين) من ممثلين ذوي بشرة ليست بيضاء.

لمَّح بعض الممثلين، منهم «ويل سيمث» و«سبايك لي» وآخرون، بمقاطعة حفلات الأوسكار، وأطلقوا هاشتاغ «OscarsSoWhite#».

جاء ذلك بتوابعه على ترشيحات وجوائز عام 2017، فقد رُشح ولأول مرة في تاريخ الأكاديمية سبعة من ذوي البشرة الملونة في أقسام التمثيل الأربعة بالجائزة، ووصلت ثلاثة أفلام تناقش قضايا السود إلى القائمة النهائية لجائزة أفضل فيلم، وثلاثة مرشحين من السود في جائزة أفضل سيناريو. واختتم الترشيحات فوز فيلم «Moonlight» بجائزة أفضل فيلم، وتحكي قصته بلوغ شاب أسود مثلي الجنس ومراهقته.

من ضمن النقد الذي وُجِّه إلى فيلم «La La Land»، وربما حرمه من جائزة أفضل فيلم لصالح «مونلايت»، أن الفيلم يخلو من التنوع العرقي والجنسي، باعتبار بطليه الرئيسيين من ذوي البشرة البيضاء ومغايرا الجنس (Heterosexual)، بغض النظر عن أن قائمة الممثلين الكلية للفيلم احتوت بالتأكيد على ممثلين من مختلف الألوان والأعراق.

  • 2. التمثيل المتنوع للشخصيات

بسبب ثقافة الصوابية السياسية، تحولت الفتاة التي يحبها «سبايدر مان» في كل النسخ السابقة من الكوميكس والأفلام إلى فتاة سمراء من عِرق مختلط في الفيلم الأخير.

في عالم الأفلام المقتبسة من كوميكس، شهد عام 2017 عدة أحداث لتطويع القصص في سيناريوهات بشخصيات متنوعة عرقيًّا، بشكل بدا دخيلًا ومصطنعًا وبعيدًا بشكل كبير عن القصص الأصلية التي يصورونها.

مثال على ذلك فيلم «Spider-Man: Homecoming». المشهد الافتتاحي للفيلم يخبرنا بما سيجري لاحقًا، يحمل النسر/الشخصية الشريرة ورقة عليها رسم طفولي لأبطال خارقين من «الأفنجرز»، ينظر إليها بأسى ويحدث زميله: «لقد تغير الوضع كثيرًا. الآن أصبح لدينا فضائيون وعمالقة قادرون على تهشيم المباني. في صغري، اعتدت أن أرسم صورًا لرعاة بقر وهنود حُمر، وليس لأبطال خارقين». فيرد زميله بأن «اسمهم حاليًّا الأمريكيون الأصليون، ليسوا هنودًا».

يتحول «بيتر باركر»، صديق سبايدر مان المفضل في المدرسة، من «هاري أوزبورن» الأبيض إلى شخص آسيوي سمين ضليع في الكمبيوتر. تتحول شخصية «فلاش» من ذكر أبيض، الألفا، الرياضي الأشهر في المدرسة، إلى آسيوي آخر. الفتاة التي يحبها سبايدر، الشقراء في كل النسخ السابقة من الكوميكس والأفلام، تصبح سمراء، ومن عِرق مختلط. عمة سبايدر مان، الأرملة العجوز، تصبح أصغر سنًّا، ومن عرق مختلط أيضًا.

هكذا تُدفَع جميع الشخصيات الأساسية إلى ممثلين من أعراق مختلفة بأمر الصوابية السياسية.

مرت 15 عامًا منذ بداية ظهور أول فيلم «سبايدر مان» عام 2002، ولم يضف الفيلم كثيرًا باستثناء التنوع العرقي الدخيل على جميع شخصياته الرئيسية. لقي ذلك استياءً من كثيرين من محبي تلك الأفلام، لابتعادها عن الشخصيات الأصلية في الكوميكس التي تابعوها لسنوات.

قد يعجبك أيضًا: لا يا «دي سي»، النجاح لا يكون بملاحقة «مارفل»

أرجع مسؤول تنفيذي في «مارفل» انخفاض مبيعات الكوميكس في الآونة الأخيرة إلى أن الجمهور لم يعد يريد أجندة التنوع المفروضة بأبطال من شخصيات نسائية وأقليات عرقية.

بعيدًا عن عالم مارفل، وفي مسرحية «هاري بوتر والطفل الملعون» التي تكمل ما بعد الجزء السابع والأخير من سلسلة هاري بوتر، أدت شخصية «هرميون» الممثلة «نوما دوميزوين»، وهي ذات بشرة سوداء، نفس الشخصية التي أدتها «إيما واتسون» في ثمانية أفلام سابقة على مدار 10 أعوام هي عمر أفلام السلسلة.

أدانت المؤلفة «جيه كي رولينغ» اعتراضات الجمهور على اختيار الممثلة ووصفتهم بالعنصريين، وبأن اختيار الممثلة جاء لأنها الأنسب للدور.

في معظم الحالات نرى تنوع الشخصيات مقحمًا على شخصيات مكتملة البناء بالفعل في عدة أفلام وكتب سابقة. إدخال شخصيات جديدة لا يحدث بعمق وتاريخ ومعالجة خاصة بها، وإنما بشكل أشبه بإعادة تدوير للسلاسل دون أي إبداع، فقط لتوظيف أجندة الصوابية السياسية.

هاجم كثيرون أعمال مثل «Dunkirk» بأنها غير متنوعة على مستوى الشخصيات، متناسين أن تحقيق ذلك سيكون غير دقيق تاريخيًّا.

أحد الاتجاهات مؤخرًا أيضًا هو إعادة صناعة أفلام نجحت سابقًا، لكن بتمثيل كامل من شخصيات نسائية. في الفيلم الكوميدي «Rough Night»، تذهب مجموعة من أربع صديقات إلي ميامي للاحتفال بواحدة منهن قبل الزواج. يمكن للنساء أيضًا أن يفرطن في الشراب، يتصرفن بتهور، يتركن أطفالًا وحياة مهنية ناجحة ويسافرن للاحتفال بجموح، يفقدن السيطرة، يستنشقن الكوكايين، يستأجرن رجلًا يتعرى، لكن المقارنة تظل حاضرة، سيصبح الفيلم دائمًا «The Hangover» آخر، لكن هذه المرة بشخصيات نسائية.

في أثناء احتفالهن، بالصدفة يُقتَل المتعري بالخطأ، تمامًا كما حدث في فيلم «Very Bad Things»، لكن مع مجموعة رجال يحتفلون بتوديع عزوبية أحدهم، وهو تشابه يستدعي المقارنة.

في المقابل، يجلس العريس مع أصدقائه الرجال للاحتفال بهدوء في المنزل، يتذوقون أنواعًا مختلفة من النبيذ، ويصيبهم الهلع من احتمالية إلغاء حفل الزفاف لأنهم لن يتمكنوا من ارتداء ملابسهم الجديدة. بعد مكالمة هاتفية مع خطيبته، يشعر العريس بأن شيئًا غريبًا حدث في ميامي، ويرتعب من احتمال أن تتركه قبل زواجهما، يكاد يفقد وعيه، ينصحه أصدقاؤه بالذهاب إليها، فيسافر ليلًا إلى ميامي مرتديًا حفاضات طوال الطريق حتى لا يضيع وقتًا في التوقف لقضاء حاجته كل فترة.

الإفراط في تصوير الحياة على كلا الجانبين بين الرزانة والتخريب والسفاهة يستدعي المقارنة.

لامعقولية طرح ما يفعله الرجال للاحتفال وسخافته، وتصويرهم مثل تصوير النساء من قبل على الشاشة لسنوات، يبدو كأنه مجرد عكس للأدوار «الجندرية» المحددة مسبقًا، يوصل انطباعًا بخيالية القصة كلها من الأساس، يدعم فكرة أن هذا كله غير ممكن الحدوث وخيالي، بشكل يهدم ما حاول الفيلم تأسيسه سابقًا في معالجة شخصياته النسائية الرئيسية.

ألا يمكن عرض شخصيات نسائية بنصوص أصلية؟ أم أن استعارة أعمال سابقة وإعادة طرحها سيكون أقل مخاطرة على شركات الإنتاج؟ القصة نجحت من قبل، فلِمَ لا نعيد إنتاجها، لكن هذه المرة بشخصيات طالما فشلنا في تمثيلها على الشاشة؟

تتعالى أصوات مهاجمة أعمال حققت نجاحًا جماهيريًّا بأنها غير متنوعة على مستوى الشخصيات، مثل «Dunkirk» و«Game of Thrones» وغيرها، متناسين في الحالتين السابقتين مثلًا أن تحقيق ذلك سيكون غير دقيق تاريخيًّا. ربما لم تكن قوات الجيشين البريطاني والفرنسي في الحرب العالمية الثانية تحمل ذاك التنوع في لون البشرة، والأمر نفسه ينطبق على أوروبا العصور الوسطى في «لعبة العروش».

على صعيد التلفزيون، اتجه أيضًا عدد من المسلسلات إلى ذلك التنوع في الشخصيات. ففي مسلسل «13 Reasons Why»، نتابع طلاب مدرسة ثانوية أمريكية من خلفيات متعددة، المختلف هنا قليلًا هو بُعد تلك الشخصيات عن القوالب النمطية المعهودة لها دائمًا، يمكننا هنا أن نشاهد أمريكيًّا من أصل آسيوي بطلًا للرياضة في المدرسة، وليس مجرد «Geek» آسيوي آخر، متفوق ومهووس بالدراسة والإلكترونيات.

يقول المخرج الأمريكي «كريس إيري»: «لمئة عام من تاريخ السينما، جاء تصوير الأمريكيين الأصليين (Native Americans) بشكل ثابت وبأدوار محددة: إما وحوش ضارية، وإما روحانيون وصوفيون. وقد حان الوقت ليظهروا على الشاشة كأناس عاديين».

سخافة كيفية معالجة الصوابية السياسية في الأفلام لا تساعد الأقليات على الشاشة، ولا تدفع نحو كسب حقوقهم على أرض الواقع.

يعلق الناقد السينمائي «روجر إيبرت» بأن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن تمثيل شخصيات الأمريكيين من أصل آسيوي في هوليوود، فهم إما متمرسون في الفنون القتالية، وإما يحصدون كل الجوائز في المسابقات العلمية، وإما منغمسون في ممارسات جنسية غريبة.

يستطرد إيبرت: «لسنوات ظل صانعو الأفلام يتعاملون بحساسية وحذر عند طرح موضوعات الأقليات العرقية على الشاشة، لكن ربما التعامل بحذر ووضعهم في قوالب نمطية هو الإساءة الحقيقية إليهم، ربما حرمانهم من تصويرهم كأشخاص يُظهرون جميع المشاعر ويقعون في مختلف المشكلات والتعقيدات الأخلاقية الممكنة هو المسيء بحق».

يكتب إيبرت أن «مورغان فريمان» أخبره ذات مرة بأنه طالما أحب وأراد لعب دور الشرير النذل لأنها كانت الأدوار الأكثر إمتاعًا وإثارة بالنسبة إليه، (بدأ مورغان مسيرته أساسًا بعد ترشحه للأوسكار عن دور قواد في فيلم «Street Smart»)، لكن المنتجين أرادوا دومًا إعطاء تلك الأدوار لرجل أبيض، لأنهم خافوا أن يسيء إلى السود تصويرهم بهذه الطريقة في السينما، فنتج عن ذلك عشرات الأفلام اللاحقة في مسيرة فريمان التمثيلية وهو يؤدي دور الشخص الطيب، الحكيم، إلخ.

هل يفيد التعدد العرقي لشخصيات العمل الفني، بغض النظر عن طريقة عرضه، في أي شيء؟ ما الذي يجبرنا على وضع كل التمثيلات العرقية واللونية والجنسية الممكنة في عمل واحد، وربما مشهد واحد، بشكل إلزامي؟

سخافة كيفية معالجة الصوابية السياسية في الأفلام لا تساعد الأقليات على الشاشة، ولا تدفع نحو كسب حقوقهم على أرض الواقع. لا يعكس معظم تلك الأعمال أي عمق أو صدق لشخصياتها، فتظل مجرد أعداد على الشاشة، ما يكرس للإبقاء على الوضع الراهن لتلك المجموعات وتمييعه.

يبدو كأن هوليوود تحاول إزاحة إرث ثقيل بَنَتْه سابقًا من سوء تمثيل الأقليات والمهمشين في السينما، ويبدو أيضًا كأن الأمر في مجمله يحكمه سوء التقدير وخارج عن السيطرة.

بحسب «سلافوي جيجك»، الفيلسوف والناقد الثقافي، فإن الصوابية السياسية مزيفة، وكذلك الاحترام البارد المفروض للآخرين. سياسات الصوابية السياسية لا تفيد، فالكراهية تبقى بالداخل بينما نعدِّل مفرداتنا اللغوية. تُخفي ممارسات الصوابية السياسية علاقات القوة والسلطة الحقيقية، بل تجعلها غير قابلة للخرق أو التفكيك. تعيد الصوابية السياسية إنتاج العنصرية مرة أخرى وشروطها، لكن بطرق مختلفة.

  • 3. الرقابة وتصنيف الأفلام

طبقًا لإحصائية ترصد تصنيفات الأفلام منذ 1995 إلى 2018، فإن أفلامًا أقل تحمل تقييم «R» تصدر كل عام، هناك 25.7% عام 2017 مقابل 42.4% عام 1997، من إجمالي الأفلام المتصدرة شباك التذاكر في ذلك العام.

إذا كنت لا تعرف طريقة تصنيف الأفلام، يمكنك الاطلاع عليها هنا

حين ندفع الأفلام باتجاه محتوى أقل من العنف والجنس لتناسب كل الناس، وحين نقدم قصصًا ينبغي طرحها بتقييم «R» للبالغين إلى تقييم «PG-13» المناسب للصغار، بافتراض أن جميع المشاهدين حساسون ويجب اختزال ما يرونه وتطهير الأعمال وتعقيمها من كل ما يمكن أن يزعج أو يسيء، كل هذا يجعل واضعي التصنيفات يحددون لنا حساسيتنا.

في الوقت ذاته، يتهم كثيرون «جمعية الفيلم الأمريكي» المسؤولة عن وضع التصنيفات بالتساهل، وبأن محتوى العنف والجنس واللغة الخارجة في الأفلام تحت نفس التصنيف في ازدياد عبر السنوات وحتى اليوم، وبأن ما كان يمكن اعتباره مصنفًا للبالغين في الماضي صار يُصنَّف للأطفال، داعين إلى وضع مزيد من المعايير قبل وضع التصنيفات.

أحد الأسباب الأخرى لزيادة الأفلام المصنفة «PG-13» أن تلك الأفلام هي الأكثر ربحًا في شباك التذاكر، وربما تمثل ضعف أرباح أي تصنيف آخر في أي سنة لاتساع رقعة جمهورها، إذ يمكن للأطفال تحت 13 عامًا دخولها بإرشاد عائلي، رغم ذلك هناك ازدياد في عدد الأفلام المتصدرة شباك التذاكر والمصنفة «R» كل عام.

  • تصنيف «R» يعني محتوى جنسيًّا وعنفًا ولغة نابية واستعمال المخدرات، وبالتالي من هم دون 17 عامًا يحتاجون إلى مُرافق بالغ لدخول الفيلم.
  • تصنيف «PG-13» يعني إرشادًا عائليًّا لمن هم دون 13 عامًا، ومحتوى عنف ومخدرات ولغة نابية أقل، وعريًّا ليس ذا طابع جنسي.

من وجهة نظر ما بعد حداثية، نحن خاضعون للتشكيل في الفنون المرئية، تتحكم خطابات سلطوية متقاطعة عدة في مفراداتنا المستخدمة ورؤيتنا عن ذواتنا والآخرين.

يدرك فيلم «The Square» ذلك جيدًا، أن الفن الجيد لا ينتزع منا الاعتراف بالآخَر والتضامن معه، لكنه يطرح مفاهيم الاختلاف والتهميش والتشكيك، وكيف تتشكل هويتنا كـ«تابعين» تحت سيطرة خطابات عدة.

«المربع» فيلم سويدي فاز بسعفة مهرجان «كان» الذهبية لعام 2017، وقال عنه المخرج الإسباني «بيدرو ألمودوفار»، رئيس لجنة تحكيم المهرجان، إنه «فيلم عن ديكتاتورية الصوابية السياسية، السلاح الشنيع والمخيف الذي يقمع أي رأي مخالف».

إعلان فيلم «The Square»

في مَشاهد الفيلم الأولى، يسأل أمين متحف للفن المعاصر صحفية: «لو وضعت شيئًا في متحف، هل يصبح هذا الشيء قطعة فنية؟ مثلًا، لو أخذنا حقيبتك ووضعناها هنا (في المتحف)، فهل سيجعلها هذا فنًّا؟».

يتحدث الفيلم عن سلطة الفن متمثلة في المَعارض الفنية، لأنه إذا وضعنا الحقيبة هنا في المتحف فستصبح فنًّا، وسينهال عليها النقد من كل جهة، وإذا وضعنا أكوامًا من الحصى والتراب (الموجودة في إحدى قاعات المتحف فعلًا في الفيلم) في الشارع، ستصير مجرد قمامة وليست فنًّا.

في موقع آخر من الفيلم، يحاول رجلان من شركة تسويق عرض فكرة إعلان/فيديو ترويجي عن معرض فني سيقام لاحقًا في المتحف، يشرحان أنه طبقًا لبحثهما عما هو مشترك أكثر على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الأقليات المهمشة هي «التريند» الأكثر شهرة هذه الأيام. يقول أحدهما: «الناس تضع منشورات عن النساء والمعاقين، التمييز العرقي، مثليي ومزدوجي ومتحولي الجنس، إلخ، لكن هناك مجموعة واحدة تؤثر على الجميع: المتسولون».

لذلك يستخدمان متسولًا في الإعلان، أيضًا، ومن أجل تحويل الأمر إلى قضية يكون المتسول طفلًا، وذا شعر أشقر ليجسد شخصًا سويديًّا.

سيظهر الطفل المتسول في موقع المعرض المنوط الإعلان عنه بكل ما يحمل المعرض من قيم خير وجمال، وسيحدث العكس للطفل المتسول داخل الموقع، بأن يتعرض للتفجير لإحداث تأثير المفاجأة المطلوب بهدف جذب انتباه المُشاهد.

في إطار ساخر يُعرض الإعلان، وبالفعل يحقق نسبة مشاهدات عالية على يوتيوب، لكنه يخلق أيضًا حالة من النقد اللاذع من حُماة الصوابية السياسية، تدفع مدير المتحف إلى الاستقالة لتخفيف حدة الهجوم على المتحف وضمان بقاء الدعم والتمويل المادي له.

يجد صُناع الإعلان أنفسهم في دائرة مفرغة، بين الاستجابة لمتطلبات جمهور منجذب لقضايا معينة ستحقق نسبة مشاهدات عالية، والالتزام في الوقت نفسه بما يرغب نفس الجمهور في مشاهدته تحديدًا عن تلك القضايا، كل ذلك في إطار أن ذلك الجمهور نفسه مجرد تابع ومتلقٍّ ومستجيب لما يفرغه مصممو الإعلانات في عقله.

أحد أكثر مَشاهد الفيلم تعبيرًا وسخرية من ترويع فكرة الصوابية السياسية كانت عندما استضاف المتحف أحد الفنانين، وفي أثناء حديثه يقاطعه أحد الحضور مرارًا، وهو مصاب بمتلازمة توريت (اضطراب عصبي). يظل الرجل يردد شتائم وعبارات جنسية صريحة بشكل متكرر خلال الندوة، يقطع الفنان ومحدثته الحوار ولا يعرفان كيف يتصرفان، وبأمر الصوابية السياسية، يصيح فيهم أحد الحضور بأن الرجل مريض ولا يستطيع منع نفسه، لا يستطيعون بالتالي إخراجه من القاعة. يستمر الحوار بشكل متقطع، ويستمر الرجل في سبِّهم.

مواضيع مشابهة