نحن الآن عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى بعامٍ واحد، ألمانيا جريحة بعد خسارتها الحرب: اقتصاد متدهور، والألمان في حالة إنكار للخسارة وذنب التسبب في اندلاع الحرب، لكن ما يضطرم في الصدور لا يهم. فقد وقَّعت ألمانيا معاهدة فرساي في الثامن والعشرين من يونيو 1919، حين أقرت رسميًّا بمسؤوليتها عن نشوب الحرب واستعدادها لتعويض الأطراف المتضررة ماديًّا، وتنازلها عن بعض أراضيها.
الألمان محبطون، وبخاصة في ظل جمهورية «فايمر» الديمقراطية التي قامت بعد سقوط النظام القيصري وإعلان الجمهورية في العام نفسه. لم يعتد الشعب الألماني سماع كلمة ديمقراطية أو استيعاب ما ترمز إليه، وبدت كأنها مجرد كلمة أخرى دخيلة، عليهم احتمالها بعد هوان خسارة الحرب.
لكن ماذا عن السينما؟
تضررت أيضًا صناعة السينما في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ما سمح للولايات المتحدة الأمريكية بالهيمنة على دور العرض بأفلامها الخفيفة التي تتراوح بين الكوميديا والدراما والرومانسية. أفلام لاقت اعجابًا جماهيريًّا، وإن لم يكن لها وزن حقيقي. لم يستمر هذا الوضع كثيرًا، فالشعب الألماني بفنانيه ومفكريه جريح، ولديه كثير من الأفكار والمشاعر ليعبر عنها.
بميزانية قليلة لا تضاهي تلك التي تنفقها استديوهات هوليوود على أفلامها، نشأت حركة سينمائية جديدة، هي «التعبيرية الألمانية»، بأفلام فيها قدر كبير من الذاتية والسوداوية والشاعرية، تعكس آثار الحرب على الشعب الألماني، والاضطراب السياسي لجمهورية فايمار. إذا قررت الذهاب إلى إحدي دور العرض في الوقت الممتد بين العشرينيات والثلاثينيات، ستشاهد أفلامًا مثل: «From Morn to Midnight» أو «The Cabinet of Dr. Caligari»، وربما «The Last Laugh»، وهي أفلام يقول عنها الكاتب «إيان روبرتس»، في كتابه «السينما التعبيرية الألمانية: عالم الضوء والظلال»:
«تكشف من خلال صورها مفاهيم الواقع والهوية، تُحيي الماضي ومفاهيم التاريخ، الخرافة والأسطورة، تُظهر المخاوف القديمة والمستعادة؛ تُلقي الضوء على الحاضر، وتجرؤ في النهاية على التنبؤ ببعض مفاهيم المستقبل».
السينما في أيدٍ نازية
إذا كانت السينما في ظل جمهورية فايمر تؤدي دورها المعتاد في ترفيه الإنسان وتوعيته وكشف التغيرات التي تطرأ على مجتمعه، إذا كانت تطرح الأسئلة، وأحيانًا تقدم بعض الأجوبة، إذا كانت مثل جميع الفنون، تنشد الحقيقة، ولا شيء سواها، فهي قطعًا لم تؤد ذلك الدور بعد سقوط جمهورية فايمر وصعود الحزب النازي بقيادة «أدولف هتلر».
فهتلر المحب للسينما، الذي كان شديد الإعجاب بأفلام «غريتا غاربو»، أدرك قدرة السينما على التأثير في الإنسان، لكنه قصر دورها على الترويج لحزبه والتحريض على اليهود، مستعينًا بوزير دعايته «جوزيف غوبلز» الذي أشرف على كثير من أفلام «البروباغاندا السياسية»، في عهد النازية، وأيضًا أنتج بعضها، واستغل قدراته الخطابية وقوة تأثيرها في غسل أدمغة الشعب الألماني.
استخدم فيلم «Lowlands» ممثلين من معسكرات اعتقال الغجر، أُبيدوا جميعًا بعد الانتهاء من تصوير الفيلم مباشرة.
كانت أفكار هذا النوع من الأفلام مباشرة تمامًا، مثل «The Eternal Jew» (إنتاج 1940) الذي يُحرض بشكل صريح على اليهود من خلال استعراض حياتهم اليومية ومنازلهم القذرة المليئة بالحشرات وعدم إسهامهم في نهضة ألمانيا. فهم في رأي مخرج الفيلم «كائنات ليست لها فائدة»، إذ استنكر أساليبهم غير الإنسانية في ذبح الحيوانات، وتعاليم دينهم التي، وفقًا له، تحثهم على خداع الآخرين، وقول كل شيء إلا الحقيقة، وشبههم بالجرذان التي لا تحمل سوى الأمراض.
ربما يُذكِّرك هذا التشبيه بالمشهد الأول من فيلم «Inglourious Basterds»، إذ عرض الكولونيل «هانز لاندا» الشهير بـ«صائد اليهود»، فلسفته عن اليهود وشبههم أيضًا بالجرذان التي، حتى إذا لم تحمل مرضًا، فهي تُثير داخلك كراهية ورغبة شديدة في التخلص منها.
أفلام أخرى كانت أقل مباشرة، مثل «Leni Riefenstahl: Triumph of the Will»، للممثلة والمخرجة الألمانية المثيرة للجدل «ليني ريفنشتال»، ذلك الفيلم الذي مجَّد هتلر وحزبه. وفيلم «Lowlands»، الذي استخدمت فيه ممثلين من معسكرات اعتقال الغجر، أُبيدوا جميعًا بعد الانتهاء من تصوير الفيلم مباشرة.
أحد أسباب الغموض الذي يلف حياة ريفنشتال أنها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وحتى وفاتها في الثامن من سبتمبر 2003، استنكرت تمامًا تأييدها للنازية، وقالت إنها كانت توثق التاريخ فقط، نافية علمها بما حدث للغجر بعد انتهاء تصوير فيلمها. أيضًا في فيلمها «Olympia» الذي وثقت فيه أوليمبياد برلين عام 1936، والتي فاز فيها الأمريكي من أصل إفريقي «جيسي أوينز» بأربع ميداليات ذهبية، أصرت ريفينشتال على إعادة تصوير مشهد «الوثب الطويل» لجيسي بعد انتهاء الأولمبياد، فأثارت الحيرة بين أنها تنتقد بطريقتها الخاصة أسطورة التفوق الآري، أو أنها تضيف بُعدًا جماليًّا لفيلمها لا أكثر.
اقرأ أيضًا: الثقافة الهوليوودية: من الكود المسيحي إلى سياسات الهوية
هوليوود التي لا يُحركها سوى مصالحها
وضع مديرو استديوهات هوليوود سياسات تُحرِّم استخدام كلمة «يهود» في الأفلام، وللمفارقة، كانوا هم أنفسهم يهودًا.
كل ما تعرفه عن ألمانيا النازية وأفكار هتلر التي بثها في شعبه، يجعلك تتساءل عن موقف السينما الأمريكية من هذا كله، وتبدأ في البحث عن أفلام مُعادية للنازية أُنتِجت في الثلاثينيات، فلا تجد. فقط هذه الأفلام بداية من الأربعينات وحتى وقتنا هذا، لكن هل يُعقل ألا يصدر فيلم واحد مُستنكرًا سياسات النازية الفاسدة منذ توليها الحكم؟
في كتابه «التعاون: اتفاقية هوليوود مع هتلر»، يستعرض الكاتب «بن أرواند» العلاقة الطيبة التي جمعت بين هوليوود وهتلر منذ توليه الحكم. فهوليوود لم ترغب في تصوير ألمانيا بصورة غير محببة حتى لا تخسر حليفًا قويًّا لها، وبخاصة في فترة صعبة، وهي «الكساد العظيم»، في وقت انهار اقتصاد معظم دول العالم، عدا ألمانيا التي بدت أكثر تماسكًا وازدهارًا.
المفارقة، كما يقول «أرواند»، أن كثيرين ممن كانوا يُديرون استديوهات هوليوود في ذلك الوقت، وممن وضعوا سياسات صارمة تُحرِّم استخدام كلمة «يهود» في الأفلام، كانوا أنفسهم يهودًا.
بدأ الأمر بحذف كثير من مشاهد فيلم «All Quiet on the Western Front» الذي كتبه الكاتب الألماني «إريك ماريا لامارك» عن تجربته الأليمة في الحرب العالمية الأولى، ثم نقطة التحول في العلاقات الأمريكية الألمانية بمنع عرض فيلم «كلب أوروبا المجنون» الذي كتبه «هيرمان جيه مانكيفيتس»، والذي سيكتب لاحقًا سيناريو فيلم «Citizen kane»، ويحكي عن تدمير أسرة يهودية في عهد هتلر، وكُتِب عنه مذكرة رسمية توضح سبب منعه، تقول:
«بسبب وجود عدد كبير من اليهود المشتغلين بصناعة السينما في هذا البلد، أصبح واضحًا أنهم وراء أي فيلم مُعادٍ لهتلر، ولذلك يستغلون شاشة العرض للترويج لأغراضهم الشخصية. ولهذا، فإن الصناعة كلها أصبحت مهددة بسبب حفنة قليلة من البشر».
ظلت هذه الاتفاقية قائمة منذ عام 1933 حتى 1939.
أول فيلم أمريكي عن الهولوكوست
انتشرت شائعات عن اضطهاد اليهود في العالم كله، لكنها ظلت في حيز «الشائعات» حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكشف معسكرات إبادة اليهود، أشهرها «أوشفيتز». لكن هناك فيلمًا تعامل مع هذه الشائعات باعتبارها حقائق حتى قبل الكشف عنها، أو ربما في هذه الظروف، يمكننا أن نقول إنه تنبأ بها، وهو فيلم «None Shall Escape» عام 1944.
تدور أحداث الفيلم في المستقبل، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، وخسارة ألمانيا وسقوط الحزب النازي، وخضوع أحد أعضاء هذا الحزب للمحاكمة.
يبدأ الفيلم بعضو الحزب ذاك وقد فقد إحدى ساقيه في الحرب العالمية الأولى، ويعود ذليلًا إلى بلدته ليباشر عمله فيها معلمًا، يعود رجلًا آخر ممتلئًا بالكراهية والمرارة، فتنفر منه خطيبته البولندية التي لا يجد حرجًا في أن يُظهر احتقاره لشعبها، وينفر منه تلامذته ويسخرون من إعاقته، فيغتصب إحدى تلميذاته ويفلت دون عقوبة.
يختفي لعدة سنوات، ثم يظهر كأحد أعضاء الحزب النازي الجديد، مبشرًا به وبأهدافه، ومحتقرًا لما عداه. نجده من خلال هذا الحزب يرتكب عددًا من الجرائم، منها إرسال أخيه المعارض للنازية إلى أحد معسكرات الإبادة، ثم قتل أبن أخيه عند اتخاذه قرار الخروج من الحزب النازي، وانتهاء بقتله أعدادًا مهولة من اليهود عند رفضهم الذهاب لأحد معسكرات الإبادة.
ينتهي الفيلم بأحد القضاة وهو ينظر إلى الكاميرا مخاطبًا المُشاهد بعد استماعه لشهادة الضابط النازي الذي أنكر جميع ما نُسِب إليه، وشكك في شرعية هذه المحكمة من الأساس، قائلًا إن ما خسروه مجرد معركة أخرى، وسيعودون مرة أخرى. يترك القاضي إصدار الأحكام للشعوب المتضررة، قائلًا: «أنتم من ترثون العالم بعد الحرب، لذلك أترك لكم الحكم».
قد يهمك أيضًا: أفلام الحروب: تجنيد في قاعة العرض
سر هوس هوليوود بحرب انقضت منذ أكثر من 70 عامًا
فكرة النازية ما زالت حية، وخطرها ما يزال قائمًا، فما سر افتتنان بعض الأجيال الجديدة بهتلر وفلسفته؟
في مقال للكاتب والمؤرخ الإنجليزي «Richard J Evans»، بجريدة «الغارديان» البريطانية، يستعرض عددًا من أسباب هوس السينما الأمريكية بالحقبة النازية، وهوسنا نحن أيضًا بها. فيتحدث عن حركات سياسية تظهر في بعض المناطق الفقيرة في أوروبا، وتتخذ طابعًا مقاربًا للنازية، مثل حركة «الفجر الذهبي» اليونانية بأفكارها التي تدعو إلى العنف، أو حركة أخرى مشابهة في شرق أوكرانيا يقودها «Azov battalion» بأفكاره المعادية للسامية. حركات تنكر وجود أي صلة لها بالنازية، لكنها تتبع منهجها في التحريض ضد المهاجرين والمسلمين والأقليات الأخرى في المجتمعات الأوربية.
بعض هذه الأفلام توثق جرائم النازية تجاه اليهود، مثل فيلم «The Pianist» للمخرج «رومان بولانسكي»، وأخرى تستعرض حركات المقاومة التي نشأت في عهد هتلر، والتي قُضي على قادتها سريعًا، مثل فيلم «Sophie Scholl: The Final Days» الذي يحكي قصة «صوفي شول» وأخيها «هانز شول» اللذين أسسا أبرز حركات المقاومة السلمية ضد النازية «White Rose»، وأُعدما في فبراير 1943. وتناول بعض الفنانين شخصية هتلر نفسه من زوايا مختلفة، كان أولهم «تشارلي تشابلن» في فيلمه «The Great Dictator» (إنتاج 1940).
توالت بعد ذلك الأفلام التي تناولت سيرة هتلر، من أبرزها الفيلم التلفزيوني الإنجليزي «The Bunker» (إنتاج 1981)، بطولة «أنتوني هوبكنز». ثم زاوية مختلفة تمامًا تنظر بإنسانية إلى الإرث الثقيل الذي حمله الجيل الجديد من الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتعرُّض كثير من النساء والفتيات الألمان للاغتصاب والقتل على يد الجنود الأمريكان والروس. تجلت حقيقة «الفوهرر» لأعينهم، نكتشف كل هذا في الفيلم الألماني «Lore»، في 2012، والذي حاز على جائزة أفضل فيلم في مهرجان كان.
يبدو أنه رغم كل شيء نعرفه الآن عن النازية، ما زال هناك متعاطفون ومحبون لها في كل أنحاء العالم. فالفكرة ما زالت حية، وخطرها ما يزال قائمًا، لكن ما سر افتتنان بعض الأجيال الجديدة بهتلر وفلسفته؟
ربما لأن جرائمه جميعًا كانت عرقية في الأساس. فهو لم يسمح بالزواج إلا للمنحدرين من الجنس الآري، منع كل أشكال الفن الحديث لأنه يرى أنها مؤامرة من اليهود لتدمير الثقافة الألمانية. كان يعقم المجرمين والمعاقين والمرضى وذوي الأصول المختلطة خوفًا من انتقال عيوبهم إلى الجنس الآري، ويقتل المثليين جنسيًّا لخطرهم على العرق الآري. الغجر كانوا يُقتلون ظنًّا منه أن جيناتهم تجعلهم مجرمين بالفطرة. وما يحير العالم حتى الآن هو تأييد الشعب الألماني الأعمى لمثل هذه السياسات الفاسدة والسكوت عن جرائم شنيعة في حق الإنسانية.
ستظل تحيرنا سياسات النازية وجرائمها، وستظل هوليوود والسينما العالمية تصدر أفلامًا جديدة عنها، وسيظل كثيرون يقدمون تبريرات لتركيز الأفلام على قضية انتهت منذ 73 عامًا، وحوكم أبرز قادتها، وخُلِّدت جرائمهم إلى الأبد في أذهان أكثر من جيل.
سيظل أيضًا التساؤل عن تجاهل جرائم أخرى في حق الإنسانية، تُرتكب كل لحظة في العالم، ربما لا يكون لمرتكبيها الوجاهة الكافية للفت الانتباه، لكن الحديث عنها الآن لا يدخل فقط في باب التوثيق التاريخي، وإنما في باب إنقاذ حياة الآلاف من الأبرياء. كل هذا يجعلك تستعيد عبارة «التاريخ يكتبه المنتصرون»، وتعيد تأملها.