عندما جلس الشاعر الإنجليزي «تي إس إليوت» لتناول الغداء لأول مرة مع شاب يُدعى «ستيفن سبندر»، الذي يصبح في ما بعد واحدًا من أهم الوجوه الشعرية في جيله، جرى الحديث بينهما هكذا:
إليوت: إذًا، ما الذي تنوي فعله سيد سبندر؟
سبندر: أريد أن أكون شاعرًا
إليوت: أستطيع أن أفهم أنك تريد أنت تكتب قصائد شعرية. لكني لا أعرف تمامًا ما تعنيه بأن تكون شاعرًا
للحظات، ارتاب إليوت من هذا التعبير. هناك عدد من المتواترات التي تسرد رد فعله العنيف بعض الشيء، مع أشخاص يدخلون عالم الشعر، من باب تصوراتهم عن حياة الشعراء والصورة التي يبدو عليها الشاعر، أكثر من اهتمامهم بالشعر نفسه.
فكرة الفنان المُعذَّب المُثقَل بشيء ما يعاني منه طيلة الوقت، أحد الأفكار التي تجد طريقها دائمًا إلى تصوراتنا عن المبدعين، وتمتد إلى العملية الإبداعية نفسها. لكن ما مدى صحة هذا الارتباط بين الإبداع والمعاناة بمختلف أشكالها؟
تقترح دراسة في عام 2015، أن فكرة الفنان المُعذَّب والفنانين الذين يُنتجون أفضل أعمالهم عندما يكونون مُثقَلين بالاضطرابات العاطفية، ربما تكون خرافة. فبعد دراسة تأثير موت شخص عزيز لدى فنانين مثل «إدغار ديغا» و«إدوارد مانيه» و«كلود مونيه» و«بابلو بيكاسو»، من خلال تحليل ما يقرب من 15.000 لوحة، استنتجت «كاثرين غرادي»، بجامعة برانديز في ماساتشوستس، أن الأعمال التي رُسمت خلال تلك الفترات الصعبة، تباع بسعر أقل بكثير في المزادات مقارنة بالأعمال الأخرى للفنان نفسه، واحتمال إدراجها في المجموعات الرئيسية يكون أقل.
وفقًا لغرادي، فإن نتائج البحث تتوافق مع أدبيات علم النفس حول المزاجية والإبداعية، لكنها لا تتفق إطلاقًا مع الفكرة الشائعة بأن المعاناة تزيد بالضرورة من الإبداع الفني. موضحة أن «نتيجة البحث ليست مؤسفة، إنها نتيجة سعيدة، لأنه سيكون أمرًا سيئًا للغاية أن تضطر إلى أن تختبر المعاناة كي تكون مبدعًا».
ليس بالضرورة أن نعاني لنبدع
«لم يخلُ أي عبقري من لمسةٍ خاصة من الجنون»، مقولة تُنسَب إلى أرسطو في عام 350 قبل الميلاد. فالفكرة التي تزعم وجود علاقة بين المبدعين والأمراض العقلية، موجودة منذ وقتٍ طويل.
لا يصعب على أحد ذكر أكثر من مثال لمبدعين عانوا بالفعل من أمراض نفسية. ولا شك في أن فكرة الاستثناء الإبداعي التي تقترح أن الكتاب والرسامين والملحنين يختلفون عن بقية البشر، وأنهم يشعرون بالألم بطريقة فريدة، ويعملون بصورة أفضل حينها، ظهرت مع ظهور الفن لأول مرة وما زالت مستمرة حتى الآن. لكن من ناحيةٍ أخرى، يربط بعضهم فكرة الاستثناء الإبداعي بالعصر الرومانسي، الوقت الذي صارت فيه شخصية «الفنان» في مكانةٍ طوطمية (كيان يمثل دور الرمز للقبيلة)، ويزداد تقديره عندما ينمِّي صفات لا تشبه صفات الأشخاص العاديين.
بعض الفنانين يحبون أن يروا الجمال ضعيفًا وممزقًا، ولا يستطيعون التعامل مع الجمال إلا في شكله الهش، وهذا يؤثر في رؤيتهم الشخصية للفن.
نسمع كثيرًا تعبيرات مثل «المعاناة أمر مثير للاهتمام، ومفيدة كذلك»، ما يغذي الفكرة الشائعة التي لا تملك أي دليل يؤكدها، بأن أمرًا صعبًا مثل المرض النفسي أو الاضطراب العاطفي، أمر رومانسي لأن الواقع يبعد كل البعد عن ذلك.
هذه الفكرة واحدة من أسوأ خرافات البشرية. تلاحظ «سوزان سونتاغ»، في كتابها «المرض كمجاز»، كيف تعامَل الكُتاب الذين ينتمون إلى الحقبة الرومانسية مع الموت على أساس أنه فكرة أخلاقية بمعنى ما: فالموت بمرض السل ينحل الجسد المادي ويسمو بالشخصية ويُوسِّع الوعي.
كان السل في القرن التاسع عشر مرضًا غامضًا يرتبط بالفقر البوهيمي بسبب الروايات والمسرحيات.
تعكس هذه التصورات الرومانسية لمرض مثل السل في القرن التاسع عشر، سلوكيات التراكم الرأسمالي المبكر. إذ يحدث أن يكون لدى الشخص كمية محدودة من الطاقة التي يجب استخدامها بحذر، تمامًا مثل المدخرات التي يمكنها أن تنفد من خلال الإنفاق المتهور، وخلق الفن طريقة من طرق استخدام تلك الطاقة. فالمعاناة والموت من أجل الفن أصبح فعلًا أخلاقيًّا وجميلًا. إذ أجازت المعاناة القيمة المكتسَبة من الفن.
قد يهمك أيضًا: هل تعمل أدمغة المبدعين بشكل مختلف؟
في كتابه «Duty Free Art»، يرى الكاتب «هيتو ستيريل» أن بعض الفنانين يحبون أن يروا الجمال ضعيفًا وممزقًا، ولا يستطيعون التعامل مع الجمال إلا في شكله الهش، وهذا يؤثر في رؤيتهم الشخصية للفن.
يمكن أن يمثل الجمال أحيانًا مشكلة واضحةً، بالنظر إلى عارضات الأزياء مثلًا، يبدو أن تصنيفهن على أنهن أكثر جمالًا يتعلق بأنهن أكثر جوعًا. يتحقق الجمال المثالي في نظر الرأسمالية، عندما يكون جسم الإنسان قادرًا على العمل والإنتاج، يومًا بعد يوم: الفائدة توازي الجمال.
رؤية مشوَّهة للفن والمعاناة
يُعتقد أن المرض العقلي يُلهِم بالإبداع الفريد، على الرغم من أن العلم لا يدعم هذه الفكرة دائمًا.
تعرضت «مايا أنغلو» لاعتداءٍ جسدي وتمييز عنصري، وعاصر «جون ر. تولكين» حربين عالميتين خسر بسببهما عددًا من أصدقائه المقربين، وعانت «ج. ك. رولينغ» من الفقر المدقع. وتمتلئ المكتبات بعدد من السير الذاتية الملهمة التي تحكي قصصًا مشابهة للمرات التي خُلق فيها الإبداع من رحم المعاناة.
عندما شُخِّص «هيث ليدجر» بالأرق والاكتئاب، كان من الشائع أن يتحدث النقاد عن أن هذا التشخيص أسهم بشكل كبير في إبداعه في عرض شخصية الجوكر في فيلم «The Dark Knight Rises»، ويربط الخيال الشعبي معاناة «بيتهوفن» مع «اضطراب ثنائي القطب» بقدرته على التأليف وبعده الصمم الكلي، لا لأنه موسيقار عبقري. يميل الفكر الشعبي إلى افتراض أن المعاناة الشخصية تحفِّز ازدهار الفن.
في حين أن صورة «العبقري المجنون» أو «الفنان المعذَّب» متأصلة في الوعي الجمعي، فإن إضفاء رومانسية على المرض النفسي أو محاولة تلوينه، يمكنه أن يسهم في رؤية خطأ ومشوهة للصحة العقلية.
يُعتقد أن المرض العقلي يُلهِم بالإبداع الفريد، على الرغم من أن العلم لا يدعم هذه الفكرة دائمًا. إذ حدث بالفعل ربط الحالات الحادة لاضطراب المزاج وانفصام الشخصية، بخفضٍ في الإدراك والإبداع. والاكتئاب والقلق المزمن يؤديان في كثير من الأحيان إلى إضعاف قدرة الفرد على العمل والتركيز. واقع المرض العقلي نسبي للغاية، وتأثيره في الناس متفاوت.
هل الفوائد الإبداعية المفترَضة للاضطراب ثنائي القطب، تجعل الكتَّاب أكثر ميلًا إلى اختيار تلك المهن الإبداعية؟
عند مراجعة 29 دراسة أجريت قبل عام 1998 حول العلاقة بين الإبداع والمرض النفسي، فإن 15 دراسة منها لم تعثر على أي رابط بينهما، ووجدت تسع دراسات صلة، بينما وجدت خمسٌ فقط أن العلاقة غير واضحة.
إحدى الدراسات التي غالبًا ما تُستخدَم لإثبات وجود رابط، كانت تلك الدراسة الشهيرة التي أجرتها «نانسي أندرياسن»، ونُشرت في عام 1987، إذ قارنت بين 30 كاتبًا وعدد مماثل من غير الكتَّاب. كانت نتيجة الدراسة أن الكتَّاب أكثر عرضة للاضطراب ثنائي القطب مقارنة بغير الكتاب.
رغم الاستشهاد بها على نطاق واسع لسنين طويلة، فإن هذه الدراسة تعرضت للانتقاد، الذي لا يظهر للنور بنفس القدر دائمًا، لأن نانسي في الواقع اعتمدت على عينة صغيرة جدًّا، إضافة إلى أن الاضطرابات العقلية التي جرى تشخصيها كانت في أثناء المقابلات، ولم تتضح المعايير المستخدَمة، والشخص الذي أجرى المقابلة كان يعرف مسبقًا مَن الكتَّاب ومَن غير الكتاب، ما يجعل الأمر كله عرضة للتحيز.
لو افترضنا أن نتائج التجربة صحيحة، فإنها تخبرنا قليلًا جدًا من الأمور عن السببية. بمعنى أننا لا نعرف ما إذا كانت الفوائد الإبداعية المفترَضة للاضطراب ثنائي القطب، تجعل الكتَّاب أكثر ميلًا إلى اختيار تلك المهنة، أم إن تلك الأعراض تعني أنه كان من الصعب عليهم أن يشغلوا وظائف تقليدية؟ من الصعب تحديد ذلك.
قد يهمك أيضًا: كل من يقترب من الحقيقة يحترق: لِمَ يؤثر فينا الفن؟
هناك دراسة مشابهة غالبًا ما يُشار إليها لدعم وجود علاقة بين المرض العقلي والإبداع. أجرت التجربة «كي ريدفيلد جايمسون» التي حازت شهرة كبيرة بعد كتابها «عقل غير هادئ». لكن البحث الذي أجرته كان مرةً أخرى، مستندًا إلى المقابلات، هذه المرة مع شعراء وروائيين وكاتبي السير والفنانين، وكان إجمالي المشاركين في التجربة 47 شخصًا.
وجدت جايمسون مستويات مفاجئة من المرض النفسي. على سبيل المثال، نصف الشعراء لجأوا للمساعدة الطبية في وقت ما، وبينما يبدو أن «النصف» عدد كبير، إلا أنهم في النهاية تسعة أشخاص فقط كما أشار النقاد.
لكن، إذا كانت الأدلة لا تدعم وجود علاقة وفقًا لبعض الدراسات، لم تظل هذه الفكرة مستمرة؟
عائق وليس محفِّزًا على الإبداع
أحد الأسباب التي تجعل هذه الفكرة منتشرة وعصيَّة على التغيير، أنه يبدو من البديهي لغير المختصين أن التفكير بطرق غير عادية أو اختبار الطاقة والعزيمة التي قد تجلبها نوبات الهوس، قد تساعد على الإبداع.
يجادل بعضهم بأن العلاقة بين المرض النفسي والإبداع أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه، ربما تساعدنا الاضطرابات النفسية على بالتفكير بطريقة أكثر إبداعًا من الآخرين. لكن هذا الإبداع ينخفض إلى مستويات متوسطة أو أقل خلال نوبات المرض الحادة. في بعض الأحيان، يمكن لمشكلة نفسية أن تمنع الأشخاص من القدرة على فعل أي شيء يريدون فعله. وكما يشير عدد من المصابين بالاكتئاب، فإن هذا المرض يمتص الحماس سريعًا، حتى لو كان لديهم أفكار يودون تنفيذها.
قد يهمك أيضًا: أحزان مركزة: هل يعزز الفن أعراض الاكتئاب؟
إذا شعر مَن يعانون من الاضطرابات النفسية بأن مرضهم يعزز من إبداعهم، فإن هذا سيثنيهم عن الأدوية خشية أن يختفي الإبداع باختفاء المرض.
ربما يعتقد كثيرون أن هناك رابطًا، لأن هذا الارتباط عند حدوثه، يكون ظاهرًا جدًّا.
يمكننا أن نفهم هذا من خلال التعامل مع خطأ منطقي في التفكير يُدعى «التوافر الإرشادي»، وهو متناقِضة عقلية تعتمد على أمثلة فورية تحضر للذهن عند تقييم موضوع معين. لأننا نميل إلى التركيز على ما هو أمامنا.
حكايات قطع «فان غوخ» أذنه في لحظة جنون، حاضرة في أذهاننا دائمًا، رغم أنها لم تحدث أصلًا. وليس لدينا حضور مماثل لحكايات عن الفنانين السعداء الذين يخلقون الفن وهم يستمتعون بحياتهم. لذلك إذا سألك أحدهم عما إذا كانت هناك علاقة بين العبقرية والمرض النفسي، فإن أول ما يتبادر للذهن هو انتحار الشعراء والكتاب ومعاناة الفنانين مع المرض النفسي.
هناك سلبيات محتملة كثيرة للاعتقاد بوجود علاقة. إذا شعر مَن يعانون من الاضطرابات النفسية بأن مرضهم يعزز من إبداعهم، فإن هذا سيثنيهم عن الأدوية خشية أن يختفي الإبداع باختفاء المرض. لكن ماذا عن الآخرين الذين يختبرون معاناة المرض النفسي، لكنهم لا يجدون في أنفسهم قابلية للإبداع؟ أظن أن هذا يخلق ضغطًا إضافيًّا لا حاجة له، لأنهم إن لم يبدعوا في شيء ما سيشعرون بالبؤس.
في النهاية، يبدو أن أحد أسباب استمرار هذه الفكرة في احتلال مساحات عند الناس، هي أنها فكرة مريحة، وتعد بشيء ما. مريحةٌ لمن يعانون من الاضطرابات النفسية لأنهم يشعرون بأن هناك جانبًا مضيئًا لآلامهم التي لن تذهب سدى، ومريحة كذلك لغير المبدعين لأن هذا يطمئنهم على أن العبقرية والإبداع لها ثمن باهظ يجب دفعه، وأنها بعيدة عن المتناول، ولا يمكن الحصول عليها إلا ضمن صفقة لها بعض السلبيات، هي المرض. وهي الفكرة التي يعود العلم هذه الفترة ليؤكد على هشاشتها الشديدة.