أحزان مركزة: هل يعزز الفن أعراض الاكتئاب؟

لقطة من فيلم «The Virgin Suicides» - الصورة: American Zoetrope

آلاء عثمان
نشر في 2018/07/02

هذا الموضوع ضمن هاجس «النداء الأخير». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


نحو السابعة من عمري تعرفت إلى «سيسيل». كانت مراهقة نحيلة شقراء، ذات عينين زائغتين، تحملق دائمًا في الأفق. تنتظر شيئًا ما، لم أكن لأدركه حينها، إذ كانت تكبرني بنحو ست سنوات. لم أستطع أن أسألها كذلك عن ما إذا كان يكبدها تلك الحيرة العميقة، فقد كانت حبيسة شاشة منزلنا التلفزيونية، تظهر فقط وقت عرض فيلم «The Virgin Suicides» (انتحار العذراوات) للمخرجة «صوفيا كوبولا»، وفي بقية الأوقات تظل عالقة بذهني، تصيبني بعدوى الحيرة والحزن اليسير.

تقاطعتُ مع الصبية للمرة الأولى في مفهوم التخلص من الحياة، رغم عدم قدرتي على استيعابه، إذ قررتْ مع دقائق الفيلم الأولى أن تقطع رسغيها بنصل حاد، وتستقر في قاع حوض الاستحمام الدامي، محملقة أيضًا في انتظار الخلاص. لم أعِ شيئًا من نوايا الصبية في الرحيل، أدركت فقط معنى أكثر قسوة للحزن، لم أتمنَّ قط أن تعود إلى الحياة.

في الثانية والعشرين من عمري، بعد ما يقارب العقد ونصف العقد، شُخِّصْتُ بمعاناة ربما تشبة ما كابدته الصبية زائغة العينين: «اكتئاب».

هكذا واجهني الطبيب، بعد أن صرت زائغة العينين تمامًا مثل سيسيل، إلا أنني لا ألومها على معاناتي الجسمية، فخلف الكآبة تقبع بالضرورة أسباب بيولوجية، ووراثية، واجتماعية مرتبطة بالتنشئة والمناخ المعيشي العام. لا يمكن أن يُصيبك التلفزيون بالكآبة، لا يمكن للعدوى أن تنتقل عبر الأثير، يمكن رغم ذلك للمواد الفيلمية، ذات الجرعات الشعورية المكثفة، أن تحفِّز الأفراد ذوي الميول والاستعدادات الاكتئابية السابقة على الدخول في نوبات مرضية، ولقد تأكد لي الأمر، في أثناء المرحلة الإعدادية، عن طريق الطبيب محمد جمال، مختص الطب النفسي.

«سكيما الاكتئاب»، أو الاستعداد المسبَق لتطوير نوبات اكتئابية تترسخ وفقًا للتنشئة الاجتماعية، والصورة الراسخة عن الذات لدى المصاب منذ السنوات الأولى من العمر، ومدى إيمانه بالاستحقاق والجدارة للمعيش المستقر والآمن، إضافة إلى العوامل البيولوجية والوراثية. «سكيما مفعَّلة» وفقًا لجمال، تعني تأثر ممكن بالتعرض للمواد الفيلمية شديدة الوطأة المتعلقة بالحزن والفقدان والفشل، وبالتالي حدوث «مواجدة» بين المُشاهد المصاب/ المستعد للإصابة بالاكتئاب وبطل العمل، وإسقاط إخفاقاته الدرامية المعبأة سابقًا على تلك الواقعية النابضة للمُشاهد المذكور، فتتحول المشاهدة الآمنة إلى «عامل محفز» (Trigger) للأعراض الاكتئابية.

تهرول نوال مبتعدة عن القصر الفسيح، تشق الظلام منفردة، باكية، بينما يتردد صوت صغيرها الوحيد هاني في أذنيها، ينادي دون انقطاع، يتوسل إليها ألا تتركه، لكنها تفعل. تركض إلى أن تصل إلى إشارة القطار، حيث تختفي توسلات الصغير، وتحل محلها صفارة قطار. تنعكس أضواء الإشارة على وجه الأم الشابة، لكنها تبدو ضئيلة أسفلها. لا تبالي، تستدير، وتتوجه إلى قضبان السكة الحديدية، بوجه ثابت وخطوات بطيئة، تلتفت لرؤية القضيب ممتدًا إلى اليمين واليسار، والقطار قادم على امتداد البصر، قبل أن تعاودها رؤية خاطفة لصغيرها الباكي. يصل القطار، «صرخة» - فيلم «نهر الحب»

قبل نهاية النصف الأول من أحداث فيلم «انتحار العذراوات»، كانت سيسيل قد أسلمت الروح.

لم يُتِح لنا السياق الدرامي معرفة كل المحفزات التي أسهمت في زيادة أعراضها الاكتئابية إلى هذا الحد، إلا أنها باتت (مع أخواتها الأربعة اللاتي أسلمن الروح، وصرن متخلصات من حيواتهن لاحقًا في الأحداث) بين أكبر محفزات كآبتي على الإطلاق. ربما اليأس في العيون الشابة يدفعني إلى الانحدار نحو السوداوية السحيقة. حقيقة أن أيًّا منهن لم تستطع إكمال المسير، لم تنعم بالأمل الكافي، لِمَ قد أنال دونهن نصيبًا من الأمل المزعوم؟

ينفي جمال أن تكون محفزات الكآبة متشابهة بين شخص وآخر، إذ إنها تختلف وفقًا لاختلاف قدرة كل شخص على التأقلم مع الظروف الحياتية والضغوط اليومية، إلا أنها في النهاية تندرج أسفل المصطلح ذاته «Triggers»، سواء تعلقت بالأوضاع المهنية أو الاجتماعية أو المادية للشخص المصاب.

خرجت «راء» في رحلة إلى السكة الحديدية بغية إلقاء ذاتها في أحضان النيل أسوة بـ«نوال» في فيلم «نهر الحب»، إلا أنها راجعت القرار، وأحجمت عنه.

للتحقق من ما إذا كانت الشاشة تضفي سوداويتها على جميع الناس أو على شخصي فقط، لجأت إلى عدد من الأصدقاء.

«راء» أولى هذه الشخصيات، معلمة وفتاة عشرينية، وافقت أن تشاركني حديثًا قصيرًا عن كآبتها الخاصة، وعلاقتها بالشاشة الصغيرة بالمنزل وشاشات السينما وغيرها من أشكال الفنون التي كادت في إحدى اللحظات تودي بحياتها خلال متابعة كلاسيكية عائلية شهيرة (حسبما عهدنا في منازلنا)، لـ«نهر الحب».

لم تكن «راء» حينها مُشَخَّصة باضطراب الاكتئاب، لم تنعم كذلك بالحد الأدنى من المعرفة التي تتيح لها الاشتباه في إصابتها باضطراب نفسي. لذلك أكملت الفيلم الكلاسيكي إلى نهايته، شاهدت «نوال» وهي تخطو ببطء تجاه قضبان السكة الحديد، سمعت صرختها حين دهمها القطار بغتة، وانتهت متاعبها مع الحياة، أو هكذا ظنت «راء».

خرجت «راء» بدورها في اليوم ذاته، في رحلة إلى السكة الحديدية، وتوجهت إلى العاصمة بغية إلقاء ذاتها في أحضان النيل أسوة بـ«نوال»، إلا أنها راجعت القرار، وأحجمت عنه.

تخطت «راء» محاولة الانتحار لاحقًا، إلا أنها لم تتخط سائر أعراضها الاكتئابية، وشُخِّصت بالاضطراب لاحقًا على يد طبيب نفسي شهير. تخبرني الصديقة السمراء بأنها ما تزال حتى اليوم متحفظة بشأن التعرف إلى أصدقاء خياليين جدد على شاكلة سيسيل، فتعزُف دائمًا عن مشاهدة أي عمل يتضمن مشهدًا لمحاولة أحدهم التخلص من حياته، وتتعامل بحذر مع المواد المتقاطعة مع الفشل والإحباط. فمَشاهد الفشل تصيبها، بما عرَّفه محمد جمال، بالمواجدة مع الشخصية الرئيسية للأحداث، تُسقِطها على إخفاقاتها الخاصة.

في ظروف أخرى تستطيع أن ترى تقدمها وثباتها على طريق التعافي عند التقاطع مع مادة درامية تعرض قصة شخص في مراحل أولية للإصابة بالاكتئاب، يُشعرها الأمر بالأمتنان لقوتها، ويزيد إيمانها بطاقتها الشخصية.

لا تعارض صديقتي، بشكل قطعي، مشاهدة متعلقة بالاضطراب النفسي أو محاولة التخلص من الحياة على الشاشات. ورغم تجربتها، لا تزال ترى الأمر نقلًا مباشرًا عن الواقع، وقد يضيف إلى أحدهم قليلًا من الوعي.

إضافة إلى ذلك، تعترض على حصر المادة المقدَّمة عن اضطرابها النفسي في قالب نمطي، يسكنه شاب وحيد طويل اللحية شَرِه التدخين، ينتهي الأمر به زائرًا أو مقيمًا في مستشفى العباسية للصحة النفسية بعد قطع رسغيه. «الصورة حقيقية» كما تؤكد لي. لكنها تستطرد قائلة إنها ليست الوحيدة، فالاكتئاب يشمل آخرين، بينهم عمال وربات منازل وأطفال صغار يستحقون جميعًا الرعاية الصحية الملائمة، دون إرهاب أو إقصاء. يستحقون كذلك مشاهدة تلفزيونية آمنة.

«أهلًا، أنا هانا بيكر، ترقَّبْ وانتبه، فأنا على وشك إخبارك بقصة حياتي، أو على وجه الدقة، كيف انتهت حياتي. وإذا كنت تستمع بالفعل لذلك الشريط، فأنت أحد أسباب موتي» - مسلسل «Thirteen Reasons Why»

اتهمت بعض الأسر مسلسل «13 Reasons Why» بأنه أحد أسباب انتحار أبنائهم المراهقين.

مشاهدتي الآمنة للتلفزيون تحتم عليَّ البقاء بعيدة، بأمر الطبيب، عن بعض العناوين الساحرة الأكثر شهرة، من بينها مسلسل أمريكي عُرِضَ موسمه الثاني في 2018، «Thirteen Reasons Why»، وسبق أن أثار الجدل طوال 2017 باعتباره مُحفزًا قويًّا يدفع بعض الشباب والشابات، من المُشخَّصين بالاضطرابات النفسية المختلفة، إلى اقتراف الفعل نفسه: «قتل الذات».

عادةً لا أتبع الأوامر، لذلك اتخذت خطواتي الأولى للمشاهدة عبر المرور على الإعلان التشويقي. باختصار، تدور الأحداث بعد أن توفيت هانا بيكر إثر محاولة التخلص من حياتها، لكننا نعرف أنها أرسلت حقيبة تحوي مجموعة من أشرطة الكاسيت المسجلة بصوتها إلى صديقها «كلاي»، تخبره خلالها بـ13 سببًا دفعها إلى الإقدام على الانتحار.

ما إن بدأ عرض المسلسل على شبكات «نتفليكس» حتى أثار جلبة في المجتمع الأمريكي، خصوصًا بين الفئات الأكثر قربًا واحتكاكًا بالمراهقين المتعايشين مع الاضطرابات النفسية. وكانت شرائط هانا ومعاناتها القصيرة أقرب ما تكون إلى محفز فعلي للإقدام على الانتحار بين الشباب الأصغر سنًّا.

 اقرأ أيضًا: مسلسل «Thirteen Reasons Why»: كيف تستخدم نقاط ضعفك لتقديم دراما جذابة؟

لاحقًا، اتهمت بعض الأسر المسلسل بأنه أحد أسباب إقدام أبنائهم المراهقين على الانتحار، وبأن صغارهم أنهوا حيواتهم بعد الانتهاء من مشاهدة العمل. لم ينف ذلك مرورهم بمتاعب نفسية مستقلة عن تأثير «هانا بيكر»، إلا أن بعض الأسرات رأت المسلسل دعوة صريحة إلى عدم وجود أمل أو مفر من التخلص من الحياة.

في مقالها على موقع «Psychology Today»، تحلل «ديبرا سيراني»، البروفيسورة المختصة في علم النفس، أثر هانا بيكر إلى مكونات صغيرة أقل تعقيدًا، فتؤكد أن المسلسل حمل آثارًا إيجابية وأخرى سلبية، من أهمها خلق مساحة من التعبير والمناقشة عن قضايا الصحة النفسية وقضية الانتحار بشكل خاص، إضافة إلى نقل صورة مكثفة عن ما يعانيه مراهقو العصر الحديث من مضايقات ومتاعب معيشية لذويهم عبر الشاشات، وبالتالي تحقيق قدر أكبر من التفاهم بين الطرفين.

أما الجانب السلبي، فاحتوى على أكثر من عنصر، أهمها عدم تطرق مادة العمل لأي تفاصيل مرتبطة بالمسبب الرئيسي للانتحار، وهو الاضطرابات النفسية، وتحديدًا اضطراب الاكتئاب، ما لم يتح للمشاهدين معرفة وسائل السيطرة على الأفكار الانتحارية وكيفية التعافي منها.

الرغبات الانتحارية يقبع خلفها سبب واحد ليس أكثر: المرض.

نَقْل الانتحار بصورة «رومانسية» كذلك كان من بين خطايا سيرة هانا بيكر من وجهة نظر ديبرا. فتصوير الانتحار بوصفه عملًا بطوليًّا قادرًا على قلب الأحداث، وحث الأفراد على إعادة النظر في مواقفهم الإنسانية، وتحسين أنفسهم، كل ذلك يفتح الباب على مصراعيه لتقديم شهداء جدد مقابل تحسين سلوكيات آخرين من ممارسي التنمر المدرسي أو الإلكتروني.

قتل الذات ليس رومانسيًّا على الإطلاق، بل يحمل في طياته فقط حرمان شخص من حقه في الحياة، وتبديل حياة ذويه 180 درجة دون عودة، وليس تحسين سلوكيات أحد.  

لم يعد من الممكن أن يصاب أحدهم بالصدمة بعد مشاهدته أولى حلقات الموسم الجديد من المسلسل، سواء لحدة المَشاهِد، أو لكثافة محتواه. إذ تبدأ حلقاته بتحذير مصوَّر يقدمه أبطال العمل. يؤكد التحذير أن أحداث العمل خيالية، وتتطرق لبعض المشكلات الحساسة في ما يخص المراهقين والشباب. وينبه من يعانون من مشكلات مشابهة لمشكلات أبطال الأحداث إلى أن العمل ربما يكون غير ملائم لهم، أو يُفضَّل مشاهدته مع أحد أفراد الأسرة الأكبر سنًّا. مشددًا على أهمية مشاركة المشكلات مع الأصدقاء والأبوين، أو المختص الاجتماعي بالمدرسة لجعل أثرها أقل وطأة.

على نحوٍ شخصي، لم أكن بحاجة، في أي مرحلة، إلى أن يخبرني مسلسل تليفزيوني عن 13 سببًا للانتحار. لديَّ ما يكفيني، ولدى أي مصاب باضطراب نفسي ما يكفي من المعاناة لجعل التحمل عبئًا ثقيلًا يود لو يتخلص منه لساعة أو نحوها، إلا أن التجربة جعلتني يومًا تلو الآخر أؤمن بأن الرغبات الانتحارية يقبع خلفها سبب واحد ليس أكثر: المرض.

يمكن تخطي المرض بجهد (وإن كان بالغًا)، وبعض المساعدات الطبية والدوائية، بينما خلقُ مسببات ودوافع اجتماعية أخرى للانتحار لم تجعلني إلا أكثر بؤسًا وإصرارًا على التخلص من حياتي حقًّا، وأكثر بعدًا عن وسائل طلب المساعدة والحماية الفعلية لحقي في الحياة.

«لا يعجبني الوضع هنا. لقد أصابني الإرهاق من الشعور بالخوف طوال الوقت، لذلك قررت الرحيل، وأشك أن يُحدِثَ أحدهم أي جلبة على محتال عجوز مثلي». يصعد بروك، عبر كرسي صغير، إلى طاولة مربعة، وبيده خنجر، يحفر شيئًا على القائمة الخشبية للسقف، ويبتسم. لم نعد نرى سوى حذائه أعلى الطاولة، يبدأ في تحريك الطاولة يمينًا ويسارًا حتى تسقط، لكنه يبقى معلقًا من القائمة، يتسع الكادر كي نرى عبارته المكتوبة «بروكس كان هنا»، بينما يترنح أسفلها جسد العجوز مشنوقًا - فيلم «The Shawshank Redemption»

نعم، أكافح من أجل انتزاع حقي في الحياة، من ذاتي (للغرابة)، إلا أنه كفاح عالمي حسبما أظن. فالاكتئاب، وفقًا لـ«منظمة الصحة العالمية»، يؤثر بالسلب في 300 مليون شخص، ويمكن تصنيفة سببًا رئيسيًّا للعجز. والمقصود العجز عن أداء مهمات العمل الرئيسية، والعجز عن التفاعل مجتمعيًّا بطريقة جيدة، وضعف التركيز، وسهولة التشتت، واضطراب النوم والشهية، وفقدان الاستمتاع بالأنشطة التي كانت محببة في السابق، وربما أخيرًا فقدان الرغبة في الحياة، والاختباء في الخزانة خوفًا من تحول الأمنية إلى واقع. فالانتحار ثاني سبب رئيسي للوفيات بين الشباب من 15 إلى 29 عامًا.

يرى كريم انعكاسه خلال مشاهدة الأفلام، فيتبع «كود» خاصًّا، الأكشن والكوميديا متاحان على الدوام، الدراما متاحة فقط عند اطلاعه على أحداث الفيلم ومجرياته.

في المرحلة بين العشرين والخامسة والعشرين، راودت فكرة الانتحار صديقي «كريم» (اسم مستعار) لأول مرة.

كريم فتى عشريني يعمل في الإدارة، ويعاني متاعب نفسية شتى منذ الطفولة، إلا أنه لم يحصل على تشخيص طبي دقيق إلا منذ عام أو بعض عام. كان قد أنهى دراسته الجامعية، وواجه بعض المتاعب العاطفية والمهنية، فبدأ يشعر بالانعزال التام عن محيطه الاجتماعي.

يقص عليَّ قصته القصيرة مع الكآبة وانعكاساتها على الشاشات، بينما نجلس في مكان عام، إلا أن نبرته وانفعالاته تبدو أكثر هدوءًا من الصخب والمزاح المعتاد.

تبدو معاناة صديقي جلية للمرة الأولى، إذ انضم بعد التشخيص إلى قائمة 300 مليون مُصارع للكآبة القاتمة. سابقًا كان قد تقاطع مع فكرة الانتحار الأولى، ويستطيع تصنيفها بسهولة على أنها محاولة لجذب الانتباه والإشارة إلى معاناته ليس أكثر، فيما كانت الفكرتان التاليتان أكثر رسوخًا وتحديدًا، بل أقرب إلى الخطة منها إلى فكرة انتحارية.

رغم ذلك تمكن من تخطي الأمر والالتزام بمشوار علاجي قصير قطعه بقرار عدم الإكمال. ويمكن لكريم أن يرى بسهولة انعكاسه خلال مشاهدة الأفلام السينمائية، لذا يتبع «كود» شخصيًّا في التعامل مع المواد الفيلمية.

الأكشن والكوميديا متاحان على الدوام، الدراما متاحة فقط عند اطلاعه سابقًا على أحداث الفيلم ومجرياته، لا يخشى حرق الأحداث (Spoilers)، يُشفق فقط من مواجهة مشهد درامي محتدم بالمشاعر، يسهل إسقاطه على الذات، لا تُحتمَل مادته الخانقة، يُعيد إليه شيئًا من كآبته الأولى. في غالبية الأحيان لا ترتقي المشاهد المباغته إلى منزلة محفز لنوبة اكتئاب جديدة، بل تبدو في نظر كريم أقرب إلى تذكرة مزاج سيء مجانية، ويظل لفترة قلقًا ومتوجسًا بشأن مصير البطل كما لو كان هو البطل داخل القصة.

بعودة سريعة إلى الطبيب محمد جمال، يذكرنا بأن «الخطة» مكون رئيسي يُفضَّل ألا تتضمنه المواد الإعلامية المتطرقة لقضايا الصحة النفسية، أو محاولات إيذاء الذات والانتحار: «عادةً ما تتشكل الرغبة الانتحارية داخل المُصاب بأيٍّ من الاضطرابات النفسية، في صورة أمنية يود لو تتحقق، فيما يجهل معظم الأوقات السبيل إلى  تحقيقها، ويزداد الوضع سوءًا إذا قدم له التلفزيون الطريق المختصرة إلى تنفيذ أمنيته، فيعمد إلى محاولة محاكاة مشهد انتحارٍ شاهده في أحد الأعمال الفنية، أو قرأ عنه، أو يلتمس السبل إلى عَدِّ إخفاقه في المحاولة، ما يؤدي إلى نتائج قاتلة».

تقف «حياة» ساكنة أمام الموقد، يبادرها صغيراها بالسؤال: «الغدا هيخلص امتى؟»، تجيب الأم بتوتر: «لمَّا بابا يرجع». يجادل الصغيران: «بس بابا بييجي لما القمر يطلع، ولسه فيه شمس». تعود الأم للحديث: «لمَّا بابا يرجع يكون القمر جه». يظل الصغيران بالباب رغبةً في الحصول على وجبتهما. تقول الأم بحماس، بينما ترفع غطاء إحدى الأواني: «بُصوا، عملت لكم الكشري زي ما بتحبوه من غير مكرونة». يرد الفتى: «ينفع تعمليه بمكرونة بس ناكله دلوقتي؟». تستشيط الأم: «لو فضِلت تزِن كدا يا كريم لا هتاكله بمكرونة، ولا من غير مكرونة». يتراجع الصغيران تدريجيًّا، ويقتنعا بعرض الذهاب إلى اللهو حتى يحين موعد ظهور القمر. وبينما يلعبان في الخارج تضيف الأم مسحوقًا أبيض إلى وعاء الصلصة، وتقلب المسحوق فيما ترتفع أصوات اللعب في الخارج - مسلسل «سجن النسا» 

قتلت حياة صغيريها وزوجها، وتجرعت طبق الكشري المليء بالسم، لكنها ظلت على قيد الحياة لتقاسي ما تبقى لها من معاناة مع المرض أولًا (الوسواس القهري حسبما استنتج المُشاهد من حلقات سابقة) والفقدان أخيرًا، فقدان جميع أفراد أسرتها دون أن تحظى بأمنيتها الأخيرة: الموت.

خلال إعداد مَشاهد محاولة الانتحار لم يُشِر المستشار المختص إلى إمكانية تأثر المشخَّص بالاكتئاب، ما جعل الفكرة لا تخطر على ذهن مريم نعوم.

وتمامًا كسيسيل، لدى حياة أم روحية أخرجتها إلى صفحات النص التلفزيوني تُدعى مريم نعوم، الكاتبة والسيناريست. تَحدَّث «منشور» إلى مريم عن حياة، وعن غيرها من الشخصيات التي تقاطع رسمُها مع حدود الاضطراب النفسي والرغبة في التخلص من الذات، فقالت إنها لم يخطر على بالها يومًا أن يتسبب مشهد من مشاهدها الفنية في تحفيز أحدهم على الرحيل.

قبل العمل على فكرة درامية متقاطعة مع قضايا الصحة النفسية، تتخذ مريم مستشارًا مختصًّا في الطب النفسي يقدم لها النصح، ويراعي أن يظل العمل دائمًا متسقًا علميًّا وعمليًّا مع الواقع المعيش. وخلال إعداد مشاهد محاولة الانتحار التي قدمتها في مسلسلي «سقوط حر» أو «سجن النسا»، لم يُشِر مستشارها إلى إمكانية تأثر المُشاهد المشخَّص بالاكتئاب في المشهد، أو إمكانية تحفيزه للنوبات الاكتئابية والأفكار الانتحارية، ما جعل الفكرة لا تخطر على ذهنها إطلاقًا خلال تنفيذ العمل.

تظهر الحيرة على نبراتها بينما نتحدث، وتستطرد: «يمكن إحنا أغفلنا دا، والفكرة هتخليني أعمل مراجعة كتير».

في أثناء كتابة مشهد انتحار حياة، انصب تركيز مريم على كيفية إظهار حجم المعاناة التي تلاقيها الأم الشابة، في مجتمع بسيط يرى إصابتها بمرض نفسي محض أثر شيطاني، تتحمل مسؤوليته كاملة باللوم حينًا وبالانتهاك على يد أحد الدجالين حينًا آخر، فتفر رأسها في النهاية إلى حل التخلص من عبء الوجود. قبول الآخَر لحياة، وقبول معاناتها ومرضها، كان جُلَّ ما قصدته من مشهدها حسبما أوضحت لي.

كغالبية أعمالها، تستهدف إخراج بعض أبناء الظل والهامش إلى دائرة مضيئة، تسمح ببناء التعاطف والتفهم مع فئات المجتمع الأخرى. تؤكد تفهمها لاحتمال أن تبقى المَشاهد محفزة، لكنها تستطرد: «الموضوع شائك جدًّا، وصعب ننتبه له إلا لو سمعناه من أصحابه مباشرة».

جدلية شبيهة وقعت فيها الكاتبة إبان عرض مسلسل «تحت السيطرة» الذي اتُّهم آنذاك باحتمال تسببه في انتكاس بعض المدمنين المتعافين.

جاء رد مستشاري مريم نعوم النفسيين آنذاك، ليطمئن قلبها، بأن حجم الوعي الذي أثاره المسلسل حول الإدمان، وكذلك تحسين أنماط تفاعل أسرهم معهم، وتقبلهم لهم بشكل أكثر فاعلية، تخطى حجم الضرر المُحتمَل أن يتسبب به عرض الحلقات. ورغم ذلك لا تمانع أن يكون هناك بروتوكول ينص على أن يسبق عرض الأفلام أو الأعمال الدرامية تنويه بعدم ملاءمتها لبعض الفئات، خصوصًا للأعمال المختصة بعرض قضايا لها صلة وثيقة بالاضطرابات النفسية، وتخشى رغم ذلك أن يتجنب صناع الأعمال إضافة التنويه خوفًا من وصم أعمالهم.

قبل عدة أسابيع تزامن مروري بنوبة اكتئابية صُغرى مع مشاهدة مسلسل كوميدي عُرِضَ، لأول مرة، خلال شهر رمضان. أحيانًا ما تتخفى مخاوفي من الفقدان وعدم القبول والوحدة في ثوب ضاحك. مررت ببضعة أيام سيئة، ثم تمالكت ذاتي مجددًا. لم أكن على أرض الواقع مهددة كأيٍّ من شخصيات العمل، لم أتبادل الأدوار الحياتية مع أيٍّ منهم، وينبغي لي، ربما في مشاهدة قادمة، أن أحدد مشاعري تجاه زوار الشاشة الصغيرة بحاجز التعاطف، ولا أتطوع بالانصهار الكامل. يومًا ما أيضًا لن تطاردني المخاوف من الكآبة والعزلة، سأصير أكثر تصالحًا مع الذات، ولن يعكر صفو نفسي بث تلفزيوني.

مواضيع مشابهة