كريستين تشاباك: إليكم انتحارًا على الهواء مباشرةً

كريستين تشاباك (Christine Chubbuck)

يحيى
نشر في 2016/11/27

إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.


في صبيحة الخامس عشر من يونيو 1974، خطَت «كريستين تشاباك» (Christine Chubbuck) إلى استوديو برنامجها «موجز أنباء ساحل الشمس» مبتهجةً على غير عادتها. قبل هذا التوقيت بثلاثة أيام، كانت قد استضافت حفلًا للجيران في منزلها، ربما كوداعٍ أخير، لكنها الآن وبعد أن وضعت زينتها، اتَّخذت مجلسها أمام الكاميرا، ثم طلبت، على غير العادة المتَّبعَة في القناة، تسجيل تلك الحلقة.

مباشِر

قررت بدء البرنامج بتلاوة الأخبار عِوضًا عن اللقاء الصحافي المعتاد. قرأت نبأً عن إطلاق نار في الشارع، لكن عطلًا فنيًّا أخَّر ظهور مقطع فيديو يصوِّر اللقطة. صمتت الفتاة قليلًا، لم تُظهر أي علامة غريبة ساعتها، سوى ارتعاشة خفيفة غَزَت يدها التي تقلب صفحات السكريبت أمامها. حرَّكت شعرها بعيدًا، ثم حدَّقت إلى الكاميرا، وبوجهٍ خالٍ من أي تعبيرات قالت: «اتِّباعًا لسياسة القناة في بثِّ آخر أخبار القتل والجريمة بالألوان الطبيعية، إليكم للمرة الأولى محاولة انتحار على الهواء مباشرة ». أخفضت يدها أسفل الطاولة ورفعتها تحمل مسدسًا، صوَّبته خلف أذنها اليمنى، وأطلقت النار.

فلاش باك

«كريستين»، المولودة في 24 أغسطس 1944، نشأت في ولاية أوهايو الأمريكية، وحصلت على شهادة في الفنون المسرحية من الجامعة المحلية، ثم أخرى في البث الإذاعي من جامعة بوسطن، واشتغلت في بضع محطات تليفزيونية مغمورة، ثم تطوعت لتقديم عرض عرائس للأطفال المصابين بإعاقات ذهنية بمستشفى في ولاية فلوريدا، قبل أن تلتحق أخيرًا بمحطة «WXLT» (القناة 40)، التي ستغير فيما بعد وجهة نظرها في الإعلام والحياة بشكل عام.

أمها «مارغريتا دي» أرجعت انتحارها إلى فشل علاقاتها العاطفية. أعلنت أن أحدًا من الرجال الذين خرجت معهم في مواعيد غرامية لم يتصل بها ثانية أبدًا. قالت إنها كانت مكتئبة طول الوقت ولا أصدقاء لها، وهو ما أكدته الفتاة بنفسها في مناسبات عدة، حين أوضحت أن أباها وأمها هما أقرب أصدقائها إليها. لم تكن تعامل زملاءها بلطف، وأغلبهم ذكروا أنها كانت فظَّة غليظة اللسان طول الوقت.

ليس باﻹمكان التأكد من سبب اتخاذها قرار الرحيل، لكن المذيعة الشابة عانت كثيرًا كي تعرض المحتوى الذي ترغب في تقديمه. لم تصمد محاولاتها أمام عِناد المنتجين ورغبات مالكي القنوات، الذين يريدون «قصصًا مثيرة» فقط على شاشاتهم، ولا يكترثون بجودة المحتوى إلى تلك الدرجة.

طلبت «كريستين» اﻹذن من إدارة القناة لتسجيل موضوع عن الانتحار. سُمح لها بذلك، وبعدها زارت مكتب مأمور البلدة لتعرف أكثر عن أساليبه، وهناك أخبرها أحد الضباط عن «أحد أكثر الطرق الفعالة» للانتحار.

اقرأ أيضًا: لماذا نختار الموت؟ 6 أسباب يشرحها مختص نفسي قد تدفع الناس للانتحار

انقطاع البث

حدث كل شيء بسرعة، ومخرج البرنامج لم يسعفه الوقت للخروج إلى فاصل إلا بعد سقوط الجسد اﻷنثوي الرقيق على الطاولة، مُحدثًا قدرًا كبيرًا من الفوضى، وملطِّخًا ما حوله باللون الأحمر القاني. أذيعت الواقعة بُرمَّتها على الهواء كما خططت «كريستين»، وفيما بعد وجدوا كل ما حدث موصوفًا بدقة في أوراق السكريبت أمامها.

نُقلت الفتاة إلى المستشفى فورًا، وفارقت الحياة بعد خمس عشرة ساعة، لكنها كانت قد تأكدت من اختيار يوم تعرف أن أحدًا من أفراد أسرتها لا يشاهد برنامجها فيه؛ كي تؤدي «عرضها الأخير».

التسجيل

ذلك العرض أثار عاصفة من الأقاويل حوله، ولمدة أربعين عامًا لم يُعرف إن كان قد تم تسجيله أم لا. قيل إن شريطًا يصوِّر الحادث كاملًا في حوزة «روبرت نيلسون» مالك القناة، ورُويَ أنه يحتفظ به مع زوجته، وادَّعى البعض أنهم شاهدوه على «الإنترنت العميق» (Deep Web)، لكن الأكثرية اقتنعت في النهاية بأنه لم يوجد من الأساس.

فيما بعد، عرف العالم أن التسجيل موجود بالفعل، وأنه كان مع «مولي» زوجة مالك القناة، وأن «جريج تشاباك» شقيق «كريستين» تأكد من أنها أودعته «أمانةً أبديَّة» لدى مؤسسة محاماة كبرى، بِنيَّة ألا يُتاح لأحد أن يطَّلع عليه قطّ.

فاصل إعلاني

لاحقًا، وعقب إعلان صدور فيلمين عن حياة وموت «كريستين» في 2016، ألحَّ «جريج» في إنكار خلوِّ حياتها من العلاقات العاطفية. روى أنها ارتبطت بشابٍ حين كانت في سنوات المراهقة، لقي مصرعه بعد فترة في حادث سيارة، ثم أحبَّت أحد زملاء مهنتها ويُدعى «چورچ»، وانتقلت إلى مدينة بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا لتعيش معه، لكن أباها عارض استمرار العلاقة بعد أن علم أنه يهودي ويكبُرُها عمرًا. شقيقها نفسه اعترف بأنه كان ليفعل المثل لو تطورت الأمور بين أخته و«چورچ»، كونه سمع أنه «زير نساء».

قد يهمك أيضًا: هل يشبه المنتحر في السينما العربية نظيره في الأفلام الغربية؟

«كان بداخلها غضب وثورة لم أستطع فهمها مطلقًا، رغم أني فكرت فيها يوميًا خلال الأعوام الاثنين وأربعين الماضية». يبدو الحادث أقرب إلى الغموض برغم كل شيء، وشقيق الراحلة ذاته لم يصل إلى الإدراك الكافي للدوافع التي حدت بها إلى الرحيل بتلك الطريقة. يضيف: «قضيتُ وقتًا طويلًا أعترض على إنتاج أي أعمال فنية عن شقيقتي في حياة والِدَيْنَا، منعتُ الجميع من إعادة قصِّ الحكاية الحزينة لكريستين». لكن، وقد صُنع الفيلمان (Christine) و(Kate Plays Christine) أخيرًا بعد وفاة الأبوين، قرر الشقيق الوحيد الباقي على قيد الحياة ألّا يشاهد أيًّا منهما قطّ!

 أطفئوا التليفزيون!

إعلان فيلم (Christine)

أحبَّت «كريستين» الإعلام بكل جوانحها، سوى أن الإعلام فيما يبدو لم يبادلها حبًّا بحب. عاشت وحيدة، ربما افتقدت صديقًا تحادثه أو حبيبًا تسكُن إليه لحظة أن اختمر قرار المغادرة في رأسها. كانت هي تلك الفتاة الأمريكية التي يفصِلُها شهرٌ واحد عن عامها الثلاثين، ولا تزال بعدُ عذراء. خامَرَها اعتقادٌ بأنها يمكن أن ترمي حجرًا في بركة الإعلام الآسِنة، لكن حجرها طاش. ربما اعتقدَت أن الطريقة الوحيدة التي ستقرِّبها من المانشيتَّات، هي أن تصير واحدًا.  رحلت، وكان رحيلها صارخًا ذا ضجيجٍ أقضَّ مضاجع الملايين، ولا يزال.

هذا الموضوع جزء من ملف منشور عن الانتحار، لقراءة موضوعات أخرى في الملف، اضغط هنا.

مواضيع مشابهة