هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
أمر مشوِّق للغاية هو ذلك التأثير الذي تتركه ذكرى أفلام الكارتون في أيام طفولتنا الأولى، وسطوة حكايا السينما الفانتازية على أفكارنا ونحن بالغون، ولا يلبث هذا أن يتركنا مشدوهين أمام عظمة الفن في كل مرة نتفاعل فيها مع العمل السينمائي. لكن أن يسهم فيلم في تشكيل هوية أجيال كاملة من الصغار والراشدين، ويعامَل كرمز من رموز مجتمع سري، لهو أمر يستحق البحث والتفكر بحق.
«ساحر أوز» (The Wizard of Oz) فيلم أطفال موسيقي/خيالي أُنتِج عام 1939، مقتبس عن رواية أطفال ناجحة للكاتب «ليمان فرانك» (Lyman Frank) بعنوان «ساحر أوز العجيب» (The Wonderful Wizard of Oz)، نُشرت أول مرة عام 1900 وحققت نجاحًا كبيرًا على مستوى دار النشر، فأعيدت طباعتها مرَّات.
كانت أول مرة يتحول فيها «أوز» إلى عمل فني في عام 1902؛ عندما أصبح عرضًا حيًّا على خشبة المسرح، ليشاهد الأطفال شخصيات العمل على الطبيعة.
اقرأ أيضًا: من السينما الصامتة إلى اليوم: كيف أظهرت هوليوود المثليين؟
لكن التجربة الحقيقة والنقلة النوعية في تاريخ هوليوود وعالم النشر معًا كانت في عام 1939، حين استُخدمت تقنية حديثة لتلوين الصور تدعى «تكنيكولور» (Technicolor)، وكان الفيلم الذي لعبت بطولته «جودي غارلاند» (Judy Garland) ونخبة من الممثلين، وأخرجه «فيكتور فليمنغ» (Victor Fleming)، من الإنتاجات السينمائية التي منحت قيمة إضافية للرواية الأصلية، وهو ما يندر حدوثه.
يروي الفيلم حكاية فتاة في العاشرة تدعى «دوروثي غيل» (Dorothy Gale)، تعيش مع عمها وعمتها وكلبها «توتو» في ولاية «كانساس» (Kansas)، تتعرض مدينتها لإعصار هائل يحملها من منزلها إلى «أرض أوز»، التي يسكنها قوم من الأقزام الطيبين، يتعاطفون معها ويرشدونها إلى الساحر «أوز العجيب» كي يعيدها إلى منزلها.
وفي طريقها لإيجاده، تتعرض دوروثي لمجموعة من العقبات وتلتقي ثلاث شخصيات، يساعدونها على إكمال مهمتها في البحث عن الساحر والتغلب على مصاعب الطريق، وهم فزَّاعة القش، ورجل القصدير، و الأسد الجبان.
وفي حين يبدو «ساحر أوز» مثل حكاية أطفال كلاسيكية؛ فإنه في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير؛ فهو أحد أكثر الأفلام رمزية في مجتمع المثليين السري في منتصف القرن العشرين، إذ تمثل حواراته وأغانيه وشخصياته رموزًا مهمة لا تزال ذات تأثير قوي على مجتمع المثلية الأمريكية، إلى يومنا هذا.
فـكيف تحول فيلم موجَّه للأطفال في أواخر الثلاثينات إلى رمز يؤرخ لحراك المجتمع المثلي في تلك الفترة؟
كيف أصبح الفيلم أيقونة المجتمع المثلي؟
ثمة مجموعة من العوامل أدت إلى وصول «ساحر أوز» ليكون واحدًا من أكثر الأفلام الكلاسيكية تأثيرًا على المجتمع الأمريكي وهيئته، ويصبح جزءًا من ثقافة البوب الأمريكية بعد مرور 77 عامًا على إطلاقه أول مرة:
1. توقيت صدور الفيلم
صدر الفيلم في خضم معاناة المجتمع المثلي الأمريكي. فـفي أربعينات القرن الماضي، كان من الصعب على أي شخص ذي ميول مثلية الاعتراف بهويته الجنسية صراحة على الملأ؛ لما كان سيترتب على ذلك من عواقب قانونية واجتماعية وخيمة.
كانت الجمعية الأمريكية للطب النفسي (American Psychiatric Association) تصنف المثلية مرضًا عقليًّا في ذلك الوقت، وبالتالي شاع إجبار المثليين على العلاج النفسي في مصحات نفسية من قبل ذويهم، عندما تُكتشف ميولهم الجنسية الحقيقية. وفي حال إخضاع الفرد لذلك، يتعرض لمجموعة علاجات غير إنسانية وقاسية؛ منها الإخصاء والتخدير والتعذيب والعلاج بالصدمة الكهربائية، وفي أسوأ الحالات عمليات فصل فص المخ الجبهي (Lobotomy)، التي تؤدي إلى فقدان الذاكرة أو التخلف العقلي في أكثر الحالات سوءًا.
وحتى لو لم يُخضعه أقاربه لعلاج نفسي، كان المثلي مهددًا بإلقاء القبض عليه في أي لحظة، إذا ما شوهد في الحانات التي يرتادها المثليون أو أماكن تجمعاتهم، بواسطة شرطة الفضيلة في لوس أنجلس (LAPD Vice Squad)، الذين كانوا يتخفُّون كرجال مثليين للإيقاع بأفراد المجتمع المثلي من الداخل.
عندها يُلقى القبض على المتلبسين ويُشهَّر بهم في الصحف الرسمية؛ لفضحهم أمام المجتمع، إضافة لتهم الاعتداء الجنسي وفقدان الوظيفة، التي تلاحقهم بموجب «قانون أيزنهاور»، الذي يمنع توظيف المنحرفين جنسيًّا.
قد يهمك أيضًا: عندما كانت المثلية واجبًا اجتماعيًّا
كل تلك الأسباب اضطرت المثليين لتكوين ما يشبه عالمهم السري، وتطوير إشارات رمزية وعبارات تحمل معاني مزدوجة ليتمكنوا من استخدامها علنًا، كان من بينها عبارات من الفيلم.
2. المعنى المزدوج في حوارات الشخصيات
كان فيلم «أوز» أحد تلك الرموز التي يتبادلها المثليون سرًّا فيما بينهم، واستُخدمت عبارات من حوارات الفيلم كشفرات سرية بين أعضاء المجتمع المثلي الأمريكي، من أشهرها: «هل أنت صديق/صديقة دوروثي؟»
وبالتأكيد كان يُقصد من هذه العبارة الإشارة إلى أصدقاء «دوروثي غيل» في الفيلم؛ أي شخصيات الأسد الجبان ورجل القصدير وفزاعة القش، التي تبدو أقرب للرجال المثليين، خصوصًا الأسد الجبان الذي يكني نفسه بـ«الرقيق» (Sissy)، ويرتدي ربطة شعر حمراء، ويسرِّح خصلات شعره على نحو أنثوي.
في حال الإجابة بنعم على السؤال، يعني ذلك موافقة على كون الشخص مثليًّا، أما حال عدم فهم الشخص ماهية «دوروثي» المقصودة بالسؤال، فيكون ذلك دليلًا على عدم انتمائه للمثلية.
لقد كانت هذه طريقة الأفراد في التعرف على بعضهم، خارج حدود السراديب السرية للمجتمع المثلي، وإلى اليوم تعتبر تلك العبارة من أبرز الجمل الفلكلورية المتفق عليها لدى المجتمع المثلي الأمريكي.
3. استكشاف مفهوم القوة من خلال قلب أدوار الجنسين
رغم أنه يظهر كفيلم أطفال يحكي مغامرات فتاة تواجه المخاطر في عالم افتراضي، لكن فكرته الأساسية قائمة على عكس الأدوار التقليدية للذكورة والأنوثة، التي اعتدنا عليها من خلال الحبكة الكلاسيكية لأفلام هوليوود، على غرار «هايدي» و«بوباي البحار» و«ذهب مع الريح» الذي أُنتج في السنة نفسها.
فالشخصيات التي امتلكت قوى حقيقية لتغيير مجريات أحداث الفيلم هي القوالب «النسائية»؛ المتمثلة في شخصية «غليندا» الساحرة الطيبة، و«ساحرة الغرب الشريرة»، أما القوالب «الذكورية» بالفيلم؛ كفزَّاعة القش ورجل القصدير والأسد الجبان، فكانوا نماذج لا حول لها ولا قوة ضمن مجريات الأحداث، في مقابل المحور الرئيسي الذي يحرك أحداث العمل؛ وهو شخصية «دوروثي»، التي ينتهي بها الأمر إلى قيادة المجموعة الضعيفة.
4. حكاية الفتاة ذات الخُف الأحمر
على خطى «دوروثي»، التي قاومت الصعاب واستمرت رغم جميع العقبات في طريقها نحو «كانساس»، لم تكن حياة الممثلة صاحبة الدور «جودي غارلاند» خالية من التحديات.
ففي سن صغيرة، تعرضت جودي لضغط نفسي شديد من مديري الإنتاج في هوليوود؛ بسبب شكلها الخارجي الذي رأوا أنه لا يصلح لغير أفلام الأطفال، وإصرارهم على أخذها حبوب فقدان الشهية لتساعدها على فقد وزنها، ما أثر كثيرًا على نفسيتها، وأدخلها مصحات العلاج النفسي منذ الثامنة عشرة، كما تزوجت خمس مرات، وعانت مشاكل مالية جمَّة، وأدمنت الكحول والحبوب المخدرة، التي أدت إلى وفاتها بجرعة زائدة عام 1969.
لكن بعد 29 عامًا على وفاتها، أطلقت مجلة «The Advocate» (معنية بقضايا المجتمع المثلي) في عام 1998 لقب «أيقونة كل الأجيال» على جودي غارلاند، والسبب الحقيقي لذلك أشار إليه الروائي وكاتب النصوص الأمريكي «ويليام غولدمان» (William Goldman) في مقال له بعنوان «Judy Floats» في مجلة «إسكواير» (Esquire) عام 1969، قال فيه:
«يحب المثليون التعاطف مع الألم. لقد عانوا من الاضطهاد كثيرًا في الماضي، وهم يفهمون الألم أكثر من غيرهم. كذلك غارلاند؛ كونها ذاقت الأمرَّين في حياتها الشخصية؛ فقد عانت في مختلف مراحل حياتها من مشاكل عديدة، منها إدمان الكحول والحبوب المخدرة والطلاقات المستمرة والخيانات الزوجية، لكن كل ذلك لم يثنِها عن المضي قدمًا في حياتها. من الواضح أنها تفهم الألم».
قد يهمك أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع اﻵخرين؟
5. رمزية الموسيقى
«في مكان ما خلف قوس قزح»
إن كون الفيلم موسيقيًّا من أفلام الحركة الحية «Motion Live»، هو عامل يضيف للصبغة الفانتازية التي ميَّزته عن سواه من أفلام الخيال الطفولية الكارتونية، التي سادت في أربعينات وخمسينات القرن الماضي؛ مثل «بينوكيو» و«بيتر بان» و«بامبي» و«أليس في بلاد العجائب».
اقرأ أيضًا: 7 أفلام عن الزمن الذي يمر فوق أجسادنا
يحتوي الفيلم على أغنيتين؛ هما «في مكان ما خلف قوس قزح» و«اخرج اخرج»، لكن لأغنية «في مكان ما خلف قوس قزح» (Somewhere Over The Rainbow) أهمية لا تضاهيها أهمية أخرى في عالم المجتمع المثلي، إذ يقول جزء من كلماتها:
«في مكان ما خلف قوس قزح
على ارتفاع شاهق
هناك أرض سمعت عنها مرة في تهويدة نومي
في مكان ما خلف قوس قزح
حيث السماء زرقاء
يتحقق كل ما تجرؤ عليه من أحلام».
وتظهر دوروثي وهي تغني في الجزء الأول من الفيلم في عالم كئيب معدوم الألوان؛ لتعكس الحالة النفسية التي تمر بها حين تكون عالقة في «كانساس»؛ حيث لا أصدقاء تلهو معهم، ولا تشعر بالحرية لتتصرف كما يحلو لها، فتُمنِّي نفسها بمكان أفضل؛ حيث السماء أكثر زرقة وقوس قزح ينعكس على عالم أكثر ألوانًا، وهو ما يظهر بوضوح في الجزء الثاني من الفيلم؛ حين تنتقل إلى «أرض أوز» وتلتقي الأقزام والكائنات المثيرة للاهتمام، فتتعرف إليهم، وتستمتع برفقتهم رغم غرابة أطوارهم.
«اخرج اخرج»
هذا ما تقوله «غليندا» الساحرة الطيبة لـ«دوروثي»، حين تهبط «أرض أوز» المليئة بالقرود الطائرة والسحرة الأشرار، لكن العبارة المدفونة ضمن كلمات «غليندا» البسيطة تحمل بين طياتها رمزية كبيرة، تشير إلى ضرورة الخروج من ظلمات عالم السرية إلى نور العلن، وأهمية الاحتفاء بالهوية الحقيقية للشخص، بعيدًا عن الترهيب السائد بالمجتمعات ضد الأقليات العرقية/الجنسية/الدينية.
«اخرج، اخرج
حيثما كنت
اخرج وقابل الفتاة الصغيرة التي سقطت من نجوم السماء
لقد وقعت بعيدًا من السماء
من نجمة تُدعى كانساس».
واستخدم الناشط في حقوق المثليين «هارفي ميلك» عبارة «الخروج من الظلمة» (Coming Out) في خطابه، خلال حملته ضد مقترح مقدم عن ولاية «كاليفورنيا» لمنع المثليين من العمل في المدارس الحكومية، قال فيه:
«إخواني وأخواتي المثليين، يجب أن تخرجوا من عتمة سراديب الظلمة، اخرجوا بحقيقتكم إلى العلن أمام أهاليكم. أعلم أنه صعب وموجع، ولكن فكروا في مدى الألم الذي قد يسببه لكم السياسيون المحافظون عند التصويت ضد حقكم الإنساني أمام صناديق الاقتراع».
قد يعجبك أيضًا: هل يمكن اكتساب السلوك المثلي؟
6. علم الحرية المثلية
كان المثليون يستخدمون رموزًا مختلفة للتعبير عن هويتهم؛ منها المثلث الزهري والألوان الفاقعة، للإشارة إلى مثليتهم التي طالما أخفوها بشكل ظاهر للعيان، حتى أتى الرسام والناشط المثلي الأمريكي «غيلبرت بيكر» (Gilbert Baker) وابتكر علم الحرية المثلية الشهير على شكل قوس قزح عام 1978، ليعبر عن الأطياف المتنوعة من جميع الأعراق والأجناس والأعمار المنتمية لمجتمع المثليين (LGBT).
كما قال «بيكر» لصحيفة «واشنطون بوست»، فإن مثليي الجنس يرتبطون بقوس قزح بعلاقة غير مباشرة، بسبب تاريخ المجتمع المثلي الأمريكي مع أغنية «في مكان ما خلف قوس قزح» بصوت «غارلاند»، الذي يحمل قيمة كبيرة لديهم.
إرث « أوز»
تأثر الروائي البريطاني سلمان رشدي (Salman Rushdie) بـ«ساحر أوز» بشدة، لدرجة أنه ألَّف كتابًا يشرح فيه مدى تأثير الفيلم على مسيرته كروائي، قال فيه: «عندما رأيت (أوز) لأول مرة في العاشرة من عمري، كنت قد انبهرت بالفيلم لدرجة أني أجزم أنه خلق مني كاتبًا؛ فقد كتبت قصتي الأولى (خلف قوس قزح) بعد مشاهدتي الفيلم. لقد كان أكثر من مجرد فيلم أطفال؛ كان حكاية عالم غير عادل، يقرر فيه الأبطال التحكم بمصائرهم بدلًا من الخضوع للتقاليد الخانقة».
التأثير الكبير الذي تركه الفيلم على سلمان رشدي هو السبب نفسه الذي دفع المثليين لاعتباره رمزًا لنضالهم وتمكينًا لهم، في ظل تجاهل غالبية المجتمع الأمريكي قضيتهم، وهو محاكاة قصة دوروثي لواقع العديد من الأقليات المظلومة، التي كانت تتوق للتحرر من قيود المجتمعات التقليدية.
ربما يهمك أيضًا: المأساة الجنسية في العالم العربي
اليوم يُعاد إنتاج مئات النسخ المستوحاة من الرواية/الفيلم، كما تحولت إلى مسرحيات موسيقية وأفلام عصرية؛ منها مسرحية «Wicked»، التي تُعدُّ من العلامات الفارقة لمسرح «برودواي» الشهير في «نيويورك»، وفيلم «أوز القوي العظيم» (Oz The Great and Powerful)، الذي أُنتج عام 2013 من بطولة «ميلا كونيس» (Mila Kunis) و«جيمس فرانكو» (James Franco)، لتستمر الرسالة الأقوى التي تركها الفيلم الأول مع المشاهد منذ 1939 وحتى وقت كتابة هذا المقال، وهي «كن كما أنت، واحتفِ بهويتك الحقيقة التي هي جزء أساسي منك».