السينما الروسية لها بصمات لا تُنسى، خصوصًا في السنوات الأولى للصناعة، لكن بمرور الوقت تراجع مستواها ولم يعد لها نفس التأثير القوي كالسابق، ومع هذا لا تتوقف روسيا عن تقديم أسماء مهمة في مجال الإخراج السينمائي تحديدًا، ونحاول هنا المرور بين الأجيال المختلفة للمخرجين الروسيين، أو السوفييت سابقًا، الذين تركوا بصمات مهمة في تاريخ السينما.
بجانب الجنسية، يربط هؤلاء شيء آخر هو قدرتهم على جذب المُشاهد بخلق حالة من التوتر تتسلل بسرعة إليه، لكنه التوتر الذي يجعله يحتاج إلى رؤية المزيد، مثلما كان يفعل «ألفريد هيتشكوك»، لكن بشكل أكثر تكثيفًا. هذا الأسلوب الخاص في التشويق يظهر في تقنيات التصوير والمونتاج، وينعكس كذلك على أداء الممثلين، وربما كان هو نفسه انعكاسًا للأوضاع السياسية دائمة التغير في روسيا.
سيرجي آيزنشتاين: إعادة تعريف المونتاج
«سيرجي آيزنشتاين» أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما عمومًا، وأهم ما قدمه للسينما هو تطوير فن المونتاج.
من الأسماء التي لا يخلو منها أي حديث عن السينما الروسية «سيرجي آيزنتشاين»، وتميزت أفلامه بعدة ملامح ساعدت على تخليدها وتخليده، سواء على المستوى الفني والتقني، أو على مستوى اختيار قصص البطولة لتسليط الضوء عليها، ولهذا كان له فضل كبير في الدعاية بأفلامه للاتحاد السوفييتي، دون التخلي عن الإتقان الفني.
وُلد آيزنشتاين في لاتفيا عام 1917، وانتقل مع أمه سريعًا إلى سان بيترسبرغ حيث نشأ. ومثلما كانت أفلامه مؤثرة إبَّان نشأة الاتحاد السوفييتي، كان للثورة البلشفية نفسها تأثير كبير عليه غيَّر مسار حياته، إذ كان يُعِد نفسه لمتابعة مسيرة والده في مجال الهندسة، لكنه التحق بالجيش، وكانت هذه أولى مراحل ميلاد الفنان آيزنشتاين.
قد يهمك أيضًا: 4 مخرجين بمثابة مدارس سينمائية مستقلة
في الجيش الأحمر تعلم اللغة اليابانية، وتعرف إلى المسرح الياباني «Kabuki»، الذي كان له دور أساسي في تطوير رؤيته الخاصة عن السينما. وليس سيرجي أحد أهم مخرجي السينما الروسية فقط، بل واحد من أهم المخرجين في تاريخ السينما عمومًا، وأهم ما قدمه صاحب فيلم «المدرعة بوتمكين» الشهير هو تطوير فن المونتاج، الذي يمكن التأريخ له بـ«ما قبل آيزنشتاين» و«ما بعد آيزنتشاين».
كان المونتاج قبله مجرد ترتيب للقطات والَمشاهد بشكل خَطِّي عادةً لسرد الفيلم، بينما قدَّم هو أكثر من طريقة مختلفة لترتيب اللقطات، من بينها وضع لقطات لا تربطها علاقة سردية، لكن ترتيبها وراء بعضها في الفيلم يعطيها معنًى مختلفًا.
على سبيل المثال، هناك مشهد شهير في فيلمه الطويل الأول «Strike»، نشاهد فيه عددًا من العمال يركضون وجنودًا يصوبون بنادقهم تجاه العمال، ثم نجد لقطات لعملية ذبح عِجل، وهكذا ندرك أن الجنود قتلوا العمال، وينتهي المشهد بالفعل على لقطة عامة للعمال قتلى وجثثهم ملقاةً بجانب بعضها.
أندريه تاركوفسكي: نحت الزمن
لم يصنع «أندريه تاركوفسكي» سوى سبعة أفلام روائية طويلة، لكنها ضمنت له خلود اسمه ضمن أهم مخرجي العالم، ويصعب أن تخلو قوائم «الأفضل» من واحد على الأقل من أفلامه.
كان تاركوفسكي يرى أن المبالغة في استخدام المونتاج تُفقد السينما تأثيرها وشاعريتها، لهذا اهتم بفنون التعبير بالصورة، وبخلق إيقاع مختلف لأفلامه.
وُلد تاركوفسكي عام 1932 في زافراز، التي صارت روسيا البيضاء لاحقًا، وكان ابن الشاعر السوفييتي «آرسيني تاركوفسكي»، وظهرت أشعار والده في عدد من أفلامه، وكانت أخته الممثلة «ماريا إيفانونا».
على عكس آيزنشتاين الذي اهتم بالمونتاج والقطعات المتواصلة في المشاهد، كان تاركوفسكي يرى أن المبالغة في استخدام المونتاج تُفقد السينما تأثيرها وشاعريتها، لهذا اهتم بفنون التعبير بالصورة، وبخلق إيقاع مختلف لأفلامه.
هكذا طوَّر أسلوبه الخاص في تقديم الزمن في ما عُرف بنظرية «النحت في الزمن»، التي نشأت من إيمانه بقدرة السينما على تغيير مفهومنا التقليدي عن الزمن.
قد يعجبك أيضًا: 6 أفلام تطرح أسئلة فلسفية غير متوقعة
آمن تاركوفسكي بأن السينما فن يعززه الواقع ولا ينتقص منه، واعتمد على اللقطات الطويلة زمنيًّا، مبرزًا عنصر الزمن كي يقول ما يريده من خلال الصورة.
في حوار له عام 1970، قال إن «السينما فن لم يتقنه سوى عدد قليل من المخرجين يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة»، ومن هنا يمكن أن نُدرك كم كان قاسيًا في انتقاد صناع السينما، سواء مَن سبقوه في تطوير السينما السوفييتية تحديدًا، أو حتى زملاؤه المعاصرين له. لكن مع فنان استطاع دومًا إبهار عشاق السينما، كان ينتقد من أرض صلبة.
على الرغم من قلة أفلامه، فجميعها حاز على جوائز، وأبرزها جائزة لجنة التحكيم الكبرى من مهرجان «كان» عن فيلمَيْ «Solyaris» و«Offret».
أليكسي جيرمان: 6 أفلام تكفي
ربما ليس اسمه معروفًا مقارنةً بالاسمين السابقين، لكن «أليكسي جيرمان» الذي رحل عام 2013 كان أحد أهم مخرجي روسيا.
يشترك جيرمان مع تاركوفسكي في قلة أعماله، إذ قدم ستة أفلام فقط بين عامي 1968 و 2013، أي خلال أكثر من 40 عامًا، وإن شئنا الدقة، فقد أنجز فعليًّا أربعة أفلام فقط، إذ تقاسم مسؤولية الإخراج مع مخرج آخر في فيلمه الأول، ورحل قبل أن ينتهي من فيلمه الأخير، فكيف وصل بأربعة أعمال فقط إلى العالمية؟ ولماذا هذه البُخل في صناعة الأفلام؟
تحققت شهرة جيرمان العالمية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي مع عرض فيلمه «!Khrustalyov, My Car»، الذي قوبل بحالة من الغضب الشديد من النقاد.
جيرمان، المولود في لينينغراد عام 1938، كان أحد ضحايا سياسة الاتحاد السوفيتي في التضييق على حرية الإبداع، ولهذا كانت هناك مسافة كبيرة بين أعماله، وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، عانى أشهر أفلامه «!Khrustalyov, My Car» الذي أمضى سبع سنوات في تنفيذه، وظهر إلى النور في النهاية بدعم فرنسي.
كان «يوري» والد أليكسي يعمل كاتبًا، ومن قصصه قدم الابن فيلمي «My Friend Ivan Lapshin» و«Trial of the Road». درس أليكسي الفنون المسرحية عام 1960، وبدايةً من عام 1964 عمل كمساعد مخرج.
تحققت شهرته العالمية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، مع عرض فيلمه «!Khrustalyov, My Car» في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» عام 1998، إذ قوبل بغضب شديد من النقاد، ووصفته مجلة «هوليوود ريبورتر» بأنه «يحتوي على كثير من المط، وغير مضحك إلى درجة لا تُحتمل في كثير المشاهد التي احتوت على فوضى بصرية».
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح تفاصيل مهرجان «كان»
على الجانب الآخر، كان رئيس لجنة تحكيم المهرجان في تلك الدورة المخرج الأمريكي الكبير «مارتن سكورسيزي»، الذي أشار إلى أن الفيلم كان يستحق الفوز بالسعفة الذهبية، لكنه لم يستطع إقناع بقية زملائه في لجنة التحكيم بقيمة الفيلم، لأنه هو نفسه لم يفهمه بالقدر الكافي حسبما قال.
لاحقًا، التقط النقاد الكوميديا السوداء التي قدمها جيرمان عن آخر أيام ستالين، ومنحوا الفيلم التقدير اللائق، بل رأى كثيرون أيضًا أن جيرمان يساوي تاركوفسكي في قيمته الفنية.
ورغم سوء المعاملة التي لقيها في الاتحاد السوفيتي، فإن فيلم «My Friend Ivan Lapshin»، الذي انتهى منه أليكسي عام 1982 وعرض في 1986، اختير في استفتاء عام كأفضل فيلم ظهر في المرحلة السوفييتية.
السينما الروسية ليست موجودة بنفس القوة على ساحة السينما العالمية، لكن تراثها يبقى كنزًا يجب ألا يفوِّته عاشق حقيقي للسينما، ومخرجوها ليسوا مجرد مخرجين مميزين، بل أسماء أسهمت في تغيير شكل الصناعة بالكامل، وتغيير ذوق المشاهدين أيضًا.