«ومن هنا كان ذلك الطابع الخاص الذي ينفرد به المستمع الشرقي: فهو لا يملك القدرة على الاستماع المُنتبه الدقيق، وليست به حاجة إليه، بل إنه يبدي إعجابه بلا تحفظ، كيفما يشاء، وحينما يشاء، ويستطيع أن يهتف أو يصرخ كما يروق له. فهو ليس بالمستمع الهادئ الرزين الذي يحترم الموسيقى ويتابعها بكل حواسه إلى أن تنتهي، وعندئذ يُبدي إعجابه كما يشاء، وإنما هو مستمع صاخب، يدأب على التعليق والمقاطعة، ولا يعرف الاتزان إليه سبيلًا».
«أوضح أمثلة على ذلك، تلك الحفلات الغنائية الطويلة التي يظل المستمعون خلالها في صراخ وهتاف دائمين، ويُظهرون رضاهم في أي وقت، وبأية كيفية تحلو لهم. ومثل هذا الجو التشنجي الصاخب هو في الحق سُبّة في وجه الفن الصحيح، وهو إذا كان يصلح لحلقات الذكر أو حفلات الزار، فهو أبعد ما يكون عن مجال الموسيقى، ذلك الفن الرفيع الذي يبعث في النفس الهدوء والسكينة، والذي يفسده أي صخب وتشوهه أقل ضوضاء».
كان هذا اقتباسًا من كتاب «التعبير الموسيقي»، الذي كتبه الدكتور فؤاد زكريا عام 1971، ورأى فيه أن التفاعل اللحظي «سُبّة» وتعبيرًا معيبًا في «حضرة» الفن. أراد زكريا أن تكون للاستماع والتفاعل مع الموسيقى «قواعد» مثلما للموسيقى نفسها قواعد، فكيف نرى رأيه هذا اليوم؟
الحاج سعيد الطحَّان وأصدقاؤه
استهجن الجمهور تصفيق بعض الأفراد قبل انتهاء مقطوعة موسيقية في حفل للثلاثي جبران، فطلب عدنان جبران من الجمهور أن يتركوا الناس تتفاعل كما تشاء.
الحاج سعيد الطحَّان، أحد أكبر تجار وأعيان مدينة طنطا، كان دائم الحرص على حضور حفلات السيدة أم كلثوم، وكان دائم التفاعل أيضًا، واشتهر بكثير من الجُمل التي كان يرددها في حفلات «الست».
من أشهر هذه الجُمل «تاني والنبي يا ست ده أنا جايلك من طنطا»، لكن أشهرها على الإطلاق جملة «عَظَمة على عَظَمة يا ست»، التي رددها الحاج سعيد كثيرًا وأصبحنا نرددها من بعده، وصارت هذه الجملة أول ما يخطر ببالنا حين نريد التعبير عن إعجابنا بمدى جمال وعظمة غناء وأداء أم كلثوم.
ليس فقط الحاج سعيد وليست فقط أم كلثوم، فقد اعتدنا هذا النوع من التفاعل اللحظي العفوي من الجمهور في كل حفلاتنا، اعتدنا على كثير من الكلمات التي يرددها هذا الجمهور، كلمات مثل «عظمة على عظمة» و«آه» و«الله» و«تاني»، أو حتي مجرد تنهيدة، اعتدنا هذا النوع من التفاعل، اعتدناه وأحببناه، واعتبرنا هذه الكلمات البسيطة، سواء أدركنا أم لم ندرك، جزءًا من العمل الفني، وأصبحنا ننتظرها كما ننتظر الأعمال نفسها.
لم أقصد بأصدقاء الحاج سعيد فقط من عاصروه واستقبلوا الفن مثلما استقبله، فلقد استمر هذا النوع من الاستقبال اللحظي العفوي للعمل الفني إلى الآن، واستمر أيضًا الجدل حوله.
في لقاء تلفزيوني مع فريق «الثلاثي جبران»، يحكي عدنان جبران عن حفل لهم كان في جنوب فرنسا، ومع أول مقطوعة موسيقية لم يتمالك الجمهور نفسه وتفاعل بعضهم قبل انتهاء المقطوعة بالتصفيق، فاستهجن ذلك آخرون من الجمهور كذلك وحاولوا أن يُسكتوهم، مما دعى عدنان إلى التوقف عن العزف ومخاطبة الجمهور أن يتركوا الناس تتفاعل كما يشاؤون.
من هذا الموقف، يتضح أن الجدل بشأن كيفية استقبال الموسيقى ما زال قائمًا، وسؤال «كيف نستقبل الفن؟» ما زال مطروحًا بقوة.
قد يهمك أيضًا: نزهة في مفهوم الموهبة
رأيٌ ورَد
بالرجوع إلى الاقتباس في الفقرة الأولى، سنجد أن الدكتور فؤاد زكريا يعتبر الاستقبال اللحظي العفوي للفن طابعًا خاصًّا ينفرد به المستمع الشرقي، فالحاج سعيد الطحَّان ومن مثله ليست لديهم قدرة على الاستماع المنتبه الدقيق، فيُبدون إعجابهم دون تحفظ. يرى زكريا أن هؤلاء ليسوا مستمعين هادئين رُزناء، ولا يحترمون الموسيقى ولا يتابعونها بكل حواسهم، وإنما مستمعون صاخبون دؤوبون على التعليق والمقاطعة ولا يعرفون إلى الاتزان سبيلًا، ومفسدة لفن الموسيقى الرفيع، وسُبّة في وجه «الفن الصحيح»، ويصلحون لحلقات الذكر أو حفلات الزار.
لا أفهم لماذا اعتبر الدكتور فؤاد زكريا حلقات الذكر وحفلات الزار فنًّا غير صحيح.
عدم انتظار الشرقيين نهاية المقطوعة مثلما يفعل جمهور الموسيقي الكلاسيكية ليس إهانة للعمل الفني، فظروف نشأة الموسيقي الكلاسيكية تختلف.
دعنا نسأل: هل هذا النوع من التفاعل اللحظي العفوي مع العمل الفني هو حقًّا طابع خاص ينفرد به المستمع الشرقي؟ الإجابة: بالطبع لا، وخير دليل على ذلك حفلات الجاز والبلوز والروك، وغيرها من القوالب الموسيقية الأخرى التي يستقبلها «الجمهور الغربي» تمامًا كما نستقبل، نحن الشرقيين، أغانينا وموسيقانا، بالكلام والصياح والتصفيق.
اعتَقَد الدكتور زكريا خطئًا، سواء عن جهل أو عن عمد، أن الموسيقى الغربية هي الموسيقى الكلاسيكية فقط، وأن جمهور الموسيقى الكلاسيكية هو فقط ما يطلَق عليه «الجمهور الغربي»، مهملًا بذلك جميع الأنواع الأخرى من القوالب الموسيقية، وكل أنماط الجماهير.
اعتبر فؤاد زكريا جزافًا أننا إن لم ننتظر حتى تنتهي المقطوعة الموسيقية لنعبِّر عن رأينا، كما يفعل جمهور الموسيقى الكلاسيكية، فإننا بذلك نهين العمل الفني ولا نحترمه، مهملًا أن تلك الموسيقى كانت لها ظروف خاصة في نشأتها جعلتها تُستَقبل بهذا الشكل.
كانت الموسيقى الكلاسيكية في بادئ الأمر حكرًا على البلاط الملكي، وكانت معظم المؤلفات الموسيقية في هذا الوقت تُوضَع للاحتفال بمناسبات خاصة للملوك والأمراء، كأعياد ميلادهم وزواجهم، أو للاستقبالات الرسمية التي يقيمها البلاط، وهذا يفسر الآداب والتقاليد المحددة التي كانت تُستَقبَل بها الموسيقى الكلاسيكية، سواء في البلاط الملكي أو بين الطبقة البرجوازية بعد ذلك، والتي التصقت بها إلى الآن.
لكن سرعان ما انتهت هذه الآداب والتقاليد وهذا النوع من الاستقبال بمجرد ظهور قوالب موسيقية جديدة موجهة إلى عامة الناس، وليست مقصورة فقط على نخبتهم.
قد يهمك أيضًا: كيف تتحول من مستمع للموسيقى إلى «مستمتع» بها؟
مما سبق، يتضح أن التفاعل اللحظي العفوي مع العمل الفني، الذي يستهجنه الدكتور زكريا، لم يكن أبدًا وعلى الإطلاق طابعًا خاصًّا ينفرد به المستمع الشرقي، بل طابع تميزت به فئات كثيرة من الجمهور شرقيين وغربيين. يتضح أيضًا أنك إن لم تفرض على الجمهور شكلًا محددًا للاستقبال، سيذهب غالبيتهم، شرقيون وغربيون، إلى هذا التفاعل اللحظي العفوي.
ليس من المعقول أبدًا أن أمنع نفسي من هذا الانتشاء اللحظي العفوي التلقائي الصادق لمجرد أننا اتفقنا أن نصفق بعد انتهاء المقطوعة الموسيقية، فالتفاعل اللحظي العفوي إنما هو شعور صادق تجاه العمل الفني، ولحظات النشوة التي يصل إليها الجمهور التلقائي فتجعله يُعبِّر مثل هذا التعبير اللحظي العفوي عما بداخله، هي غاية ما يريد أي فنان الحصول عليه، ولكن..
هل كل تفاعل من الجمهور مقبول؟
كلمة «الله» من الكلمات التى يتفاعل بها الجمهور مع العمل الفني، وتعتبر جزءًا من التطريب وجزءًا من المقطوعة الموسيقية.
لإجابة هذا السؤال، سنستعرض موقفًا حدث في حفل لأم كلثوم.
في 17 يناير 1957، خلال حفل أُقيم في سينما «ريڤولي» في القاهرة، وخلال غناء أم كلثوم أغنية «دليلي احتار»، كان أحد الحاضرين يعبِّر عن إعجابه بصياح وصخب. في الدقيقة 9:22 من التسجيل، نسمع الست تقول له: «طيب حاضر»، ثم تعاود الغناء فيستمر هو، فتضطر للتوقف عن الغناء، وبعدها تتوقف الفرقة أيضًا عن العزف لمدة 10 ثوانٍ تقريبًا، ويتضح هذا في الدقيقة 10:17.
يعود هذا المستمع إلى الصياح مرةً أخرى خلال «صولو» القانون الذي عزفه محمد عبده صالح، فترد عليه أم كثلوم في الدقيقة 42:19 وتقول: «هُس»، أي اصمت، لكنه يعود بعدها بثوانٍ، فتقول له الست بعدما طفح بها الكيل: «الله يخرب بيتك»، وتطالب عبده صالح بإعادة الصولو مجددًا، وتقول له: «قول يا خويا تاني».
الآن نعيد طرح السؤال مرة أخرى: هل كل تفاعل من الجمهور مقبول؟ الإجابة: بالطبع لا، وبالطبع ليس هذا ما أقصد إطلاقًا عندما أتحدث عن التفاعل اللحظي العفوي، فمثل هذا التفاعل المزعج المشتت من الطبيعي أن ينكره أي فنان ولا يقبله، إنما يقبل التفاعل الصادق الرقيق الذي من شأنه التعبير عمَّا يشعر به المستمع تجاه العمل الفني دون إزعاج أو تشتيت.
على سبيل المثال، يقول سمير جبران، في ذات اللقاء التلفزيوني الذي ذكرناه آنفًا، إنه يرى كلمة «الله» وغيرها من الكلمات التي يتفاعل بها الجمهور مع العمل الفني جزءًا من التطريب ومن المقطوعة الموسيقية، ومن تجربته الواسعة مع الجمهور الغربي، يؤكد أنهم أكثر سرعةً حتى من الشرقيين في التعبير عما يشعرون به.
كذلك، توضح الدكتورة إيناس عبد الدايم، عازفة الفلوت ورئيسة دار الأوبرا المصرية، في لقاء تلفزيوني مع الموسيقار الراحل عمار الشريعي، أنها لا تنزعج من مثل هذا التفاعل اللحظي العفوي على الإطلاق، بل تراه نوعًا من التعبير يجب علينا احترامه وتقديره. هنا يتدخل الشريعي ليضيف أنه يرى هذا النوع من التفاعل إنما يعبر عن جمالٍ ما داخل المتلقي.
قد يعجبك أيضًا: حكايات ذاتية جدًّا: عمار الشريعي.. وآخرون
لم يقف الأمر فقط عند استحسان عديد من الفنانين لهذا النوع من التفاعل، بل ربما نجد هذا التفاعل اللحظي العفوي يخرج من الفنان نفسه، مثلما فعلت أم كلثوم مع عازف الناي الكبير سيد سالم.
استمع معي إلى «صولو» سيد سالم في أغنية «بعيد عنك»، وتحديدًا قبل مقطع «لا لوم ولا دمع»، في الحفل الذي أُقيم في سينما قصر النيل سنة 1966.
يبدأ سالم أولًا بعزف لحن الصولو كما هو دون تعديل، لكنه يضيف كثيرًا إلى اللحن في الإعادة عند الثانية 0:44، لينفجر الجمهور بالصيحات تعبيرًا عن الإعجاب والدهشة، وتتبعهم أم كلثوم في الثانية 0:48 مندهشةً تقول: «إيه ده»، لينفجر الجمهور مرةً أخرى بعدها بالصيحات تعقيبًا على رد فعل أم كلثوم، وما كان هذا التفاعل العفوي من الست إلا تقديرًا وإعجابًا بما سمعت.
استقبل الفن كما تريد
التفاعل الفني، في النهاية، هو ذلك الأمر الشخصي جدًّا والذاتي للغاية، كيف نحب الفن ونتعاطى معه، العفوية هي ما تعطي للفنان دافعًا كي يبدع ويكمل ويستمر، وكم من عبارة «الله يا فنان» كانت خيرًا من عشرات النصوص النقدية لأنها نابعة من القلب، فكلٌّ منا، شرقيين وغربيين، يتفاعل مع العمل الفني وفقًا لنشأته وثقافته. لا يوجد تفاعل صحيح وآخر غير صحيح، ومن حق أي شخص أن يستقبل الفن الذي يريد بالطريقة التي يريدها.
هذا الموضوع كتبه أحد قرَّاء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.