رواه بوذا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة عند «زن»؟
«البساطة، والصبر، والتعاطف؛ هذه ثروتك الحقة.
فبساطة الفعل والفكر ستقودك إلى منبع الوجود.
وبصبرك على الصديق والعدو، تتصالح مع كل الأشياء.
وبتعاطفك تجاه ذاتك، تتصالح فيك كل الأشياء».
‒ لاوتسو، كتاب الطاو.
تفاجئنا الديانات الشرقية عادة بمزيج مثير من اللامبالاة تجاه العالم، يصاحبها حرص هائل على حياة الآخرين (بشرًا وغير بشر) في الآن نفسه. لقد علمنا بوذا أن ننظر للعالم كما لو كان «نجمة عند الفجر، أو فقاعة في دفق ماء، أو ضربة برق في سحابة صيفية، أو مصباحًا مرتعشًا، أو شبحًا، أو حلمًا»، في إشارة واضحة إلى تفاهة العالم وعدم أهميته.
لكن حكماء الديانة الجينية (Jainism) علمونا في الآن نفسه أن ننتبه إلى حياة الكائنات الأخرى، إلى الحد الذي جعلهم يسيرون في الطرقات بمقشات في أيديهم، يزيحون بها الحشرات لئلا يدوسوها.
إن هذا التناقض بين عدم الاكتراث تجاه أي شيء وبين الاهتمام الشديد بحياة أصغر الكائنات هو ما أثار «جوردان بيتس» (Jordan Bates)، أحد مؤسسي موقع (HighExistence)، للكتابة عنه. يبحث «بيتس» أبعاد هذا التناقض في بوذية «الزن» (Zen Buddhism) وفي «الطاوية» (Taoism) بوجه خاص، وبوذية «زِن» هو الاسم الذي يُطلق على الديانة البوذية كما تطورت في اليابان.
اقرأ أيضًا: 6 اختلافات أساسية بين الدين والروحانية
الحكمة الحقيقية هي ألا تكترث لشيء
يلمِّح «بيتس» إلى سمعة الزن والطاوية كفلسفتين غير مكترثتين؛ فالمشهور عنهما (وعن عدد كبير من الديانات الشرقية الأخرى) لامبالاتهما العامة تجاه العالم؛ إلى الحد الذي يجعل واحدًا من المواقع الشهيرة المخصصة لعرض أفكار الطاوية يسمى «كيف لا تكترث لأي شيء مطلقًا» أو، بلغة إنجليزية أكثر صراحة: HowToNotGiveAFuck.com.
الحكيم البوذي يتحرك حسبما يسوقه التيار، هانئًا بكل ما يأتي في طريقه، غير مكترث بما فيه الكفاية ليفضل شيئًا دون غيره.
ويشير الكاتب في هذا السياق إلى مقولة لـ«روبرت أنتون ويلسون» (Robert Anton Wilson)؛ وهو فيلسوف وناقد ثقافي شهير، نصها: «بعد سنين من الدراسة الشغوفة والحماسية لأفكار الطاوية، أستطيع تلخيص كتاب الطاو في الكلمات البسيطة التالية: ليذهب العالم إلى الجحيم. فإذا لم تكن مؤمنًا بإمكان ذهاب العالم للجحيم، تجاهله فقط، وستجد أنه قد ذهب إلى الجحيم».
إن كلا من الطاوية والزن يشجعان فعلًا على إهمال التوقعات والرغبة والتفضيل وشتى أنواع التعلق. ويعاني الإنسان في حالته الطبيعية قدرًا هائلًا من التوقعات والرغبات والتفضيلات، لكن الطاوية والزن يردان على ذلك قائلين: «تخلَّ عن هذا كله؛ فلن تنال من وراء كل تلك الرغبة إلا المعاناة».
وبحسب هذه القراءة، يشبه الحكيم الطاوي (أو البوذي) ريشة في مهب الريح، أو كرة «بينغ بونغ» على سطح الماء؛ فهو يتحرك دائمًا حسبما يسوقه التيار، هانئًا أبدًا بكل ما يأتي في طريقه، غير مكترث بما فيه الكفاية ليفضل شيئًا دون غيره. ينظر الحكيم الطاوي إلى جميع الأشياء والخبرات باعتبارها ضرورية ومكتملة ومكتفية بذاتها، بل ومقدسة.
قد يهمك أيضًا: «الهوغاه»: سر السعادة والدفء عند الدنماركيين
الحكمة الحقيقية أن تكترث لكل شيء
لكن الصورة لم تكتمل بعد، فبحسب «بيتس»، لا يمكن اختزال الزن أو الطاوية كمنهج للحياة في مجرد عدم الاكتراث بأي شيء؛ لأن هذه رؤية قاصرة ذات جانب واحد. وربما تكون هذه الرؤية صحيحة إن كنا بصدد الحديث عن مذهب «عدمي» غير مبالٍ، لا يرى تفاوتًا للقيم، ولا يختلف القتل والتدمير في نظره عن الحب والرعاية.
ورغم أن الحكيم الطاوي أو البوذي قد يرى في بعض الشر أو العنف صورة من الصور العديدة لـ«الطاو» (الطريق)، أو تجليًا لـ«المبدأ البوذي» المقر بطبيعة الأشياء، ويقبل تباعًا هذه الشرور بصدر رحب لأنها تشكل جانبًا من جوانب الحقيقة؛ فإن هذا لا يعني، في رأي «بيتس»، أن يشارك الحكيم بنفسه في إحداث هذه الشرور أو تعزيزها. لن يؤذي الحكيم الطاوي أي كائن آخر عن قصد أو سوء نية.
يشدد مذهب الزن على ضرورة المعرفة الحقة بالمبدأ البوذي، وتحقيق هذه المعرفة هو «الاستنارة» (Enlightenment). ومن المفترض أن تؤدي الاستنارة إلى التعاطف مع جميع الكائنات الواعية الأخرى، فعندما يكتشف المرء أن لكل الكائنات، مهما تخالفت أشكالها وأفعالها، في نهاية المطاف جوهرًا واحدًا، وأن كل الكائنات الحية تعاني الألم بذات الطريقة؛ يبدأ بالتعاطف العميق مع هذه الكائنات، بحيث لا يوَدُّ أن يسبب الأذى لأي كائن حي.
هذا هو الجانب الآخر من بوذية «زن»؛ الجانب الذي يكترث لآلام كل الكائنات.
يصبح الشخص غير المكترث مطلقًا، والذي يقبل العنف في الآن نفسه، إنسانًا واهمًا يعجز عن رؤية التطابق الجوهري بين ذاته وذات الكائن الذي يسعى لإيذائه. لم يستطع هذا الإنسان إدراك أن الكراهية والغضب وسوء النية تلطخ نفس حاملها، بالضبط كما تلطخ من توجَّه إليه.
قد يعجبك أيضًا: ماذا لو قابلت الله؟
الحكمة الحقيقية دائمًا مركبة
وهكذا يمكن القول عن الحكيم الطاوي أو البوذي «المستنير» أنه يكترث ولا يكترث في الآن نفسه؛ فهو مهتم برخاء كل الكائنات الواعية من ناحية، وبالتالي لا يسعى أبدًا لإيذائها، لكنه من ناحية أخرى لا يفضل شيئًا على آخر، ولا يرغب في شيء أو يتعلق بشيء أو يتوقع شيئًا.
يبدو التناقض واضحًا هنا؛ لأن التعاطف تجاه كائن ما هو نوع من التفضيل والرغبة لخير هذا الكائن، وللسلام ونبذ العنف. لكن يُفترض بالبوذي مع ذلك ألا يملك أي تفضيل أو رغبة، فكيف يمكن حل هذا التناقض؟
يشير «بيتس» بدايةً إلى أن هذا الحكيم استطاع تحقيق حالة من التعاطف لن يشعر معها بالحاجة لإيذاء شخص آخر؛ وهذا رغم عدم اكتراثه العام نحو أشياء بعينها. نتيجةً لذلك؛ يفيض اللطف والكرم من روح الحكيم بصورة طبيعية، بعد إدراكه ذاته في الآخَر وإدراكه الآخَر في ذاته.
لا يختار الحكيم إذًا أن يسلك بشكل متعاطف نتيجة تفضيل واختيار، لكنه يسلك بهذا الشكل انطلاقًا من طبيعته الخاصة. كذلك يلجأ الواهمون والجاهلون إلى السلوك العنيف بصورة تلقائية، بسبب عدم إدراكهم للحقيقة. لكن الحكيم يدرك سلوكه الشخصي وسلوك الآخر الواهم باعتبارهما جانبين ضروريين لحقيقة واحدة؛ هي حقيقة المبدأ البوذي أو الطاو. ورغم اعتقاده في أهمية الجانبين، فإنه يتعاطف دومًا مع كل الكائنات الواقعة في شباك الوجود المؤلمة.
تبدو أفعال الحكيم طيبة وكريمة كما لو كان يكترث لأمور الآخرين ويرغب الخير لهم، وهذا صحيح بشكل ما في رأي «بيتس»، لكنه ليس تفسيرًا كافيًا.
تحول حكيم الزن من شخص حقيقي نلجأ له لإرشادنا في رحلتنا الروحية، إلى صورة رومانسية نستعين بها لتجاوز ذواتنا باستمرار.
إن الحكيم المستنير يأتي أفعالًا كريمةً تجاه الآخرين كتعبير تلقائي عن ذاته، وليس بسبب تعلقه بأي شيء في العالم الخارجي، ولا توقعًا لنتيجة بعينها. لقد تخلى الحكيم بالفعل عن كل تفضيلاته ورغباته وتوقعاته عندما حقق الاستنارة، وهو إنما يسلك الآن طريقه وفقًا لطبيعته الذاتية، وبحسب إدراكه للحقيقة، ومن دون تعلُّق، وهكذا أصبح الحكيم مكترثًا وغير مكترث في الآن نفسه.
لكن الكاتب لا يتابع التفسير التقليدي للديانة الأصلية في التشديد على الاستنارة كهدف واقعي يطمح المرء إليه، لكن يجعلها بدلًا من ذلك تطلعًا مثاليًّا لا يتحقق أبدًا. وبدلًا من الاعتقاد في إمكان وجود «حكيم الزن» وجودًا واقعيًّا؛ يلجأ المرء لصورته باعتبارها بوصلة موجهة لكنها بعيدة المنال.
لم يعد حكيم الزن شخصًا حقيقيًّا نلجأ إليه لإرشادنا في رحلتنا الروحية للتخلص من الألم، بل تحول إلى صورة رومانسية مثالية يستعين الإنسان بها لتجاوز ذاته باستمرار، نحو شخص يعيش حالة من التعاطف والسعادة والتوحُّد مع الوجود. لكن هذا الإنسان يعترف بإنسانيته في الآن نفسه، ويعرف تمام المعرفة أن هذا التجاوز صعب، بل يكاد يكون مستحيلًا، إلا أن سلوك هذا الطريق بحد ذاته من شأنه، على الأقل، أن يجعلنا بشرًا أفضل.
أحمد الشربيني