فولادو: مأساة جندي عادي جدًّا في الحرب العالمية الثانية
هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
تخيلوا آخر يوم في أقسى حرب عرفها تاريخ البشرية، اليوم الأخير في الحرب العالمية الثانية، ست سنوات من الدمار والقتل والخراب. كل يوم من هذه السنوات يفوق في هوله كل المآسي الإغريقية.
الآن، انتهت الحرب، أعلن المذياع انتهاء الغارات الجوية الألمانية ومن ثَمّ نهاية الحرب، واستسلام بقايا فلول الجيش الألماني في جنوب تشيكوسلوفاكيا أمام الجيش الروسي.
نحن هنا في تشيكوسلوفاكيا. الأعلام تُزين كل بيت، حمراء وبيضاء وزرقاء. الاحتفالات تعُم الشوارع، لكن مقاتلًا تشيكوسلوفاكيًّا وحيدًا لا يستطيع أن يشارك فيها: «فولادو». لقد أصيب بطلق ناري في عموده الفقري في هذا اليوم الأخير، بعد سنوات من المعارك والمقاومة، الكر والفر.
تفاصيل الجحيم
يتذكر فولادو لحظة الإصابة ويصف تفاصيلها. كان قد طلب من رفيقه «فيردا» أن يحمي ظهره خلال تبادل إطلاق النار مع القوات النازية، حتى يعبر إلى الجهة المقابلة وبعدها يتولى حمايته.
يقول فولادو إن فيردا بدأ بالفعل إطلاق النار بكثافة من بندقيته الرشاشة على الألمان في أثناء عبوره إلى الطرف الثاني من الطريق. ارتمى فولادو على الأرض. كان يظن أن جسمه اصطدم بعربة قطار، ولا يعلم من أين أتته تلك الفكرة. سيعرف بعد ذلك أنه لا وجود لعربة القطار إلا في مُخَيّلته. يُعَبِّر عن ألمه وقتها قائلًا:
«أحسست أن جسمي قد تبدل بكيس شحم بدأ يذوب بفعل الحرارة، وأن جلدي سينفجر من ضغط ذلك الشحم الذائب، الذي سيسيل في النهاية على الأسفلت الساخن».
أدرك فولادو بعدها أن سبب سقوطه جاء بفعل طلقة صغيرة أصابته في ظهره. حين أخرجوا الرصاصة من جسده، احتفظ بها على طاولته المعدنية في المستشفى. يصفها بأنها رصاصة ذات رأس حاد، ولا يزال الدم الجاف يغطيها. يقول: «إنه دمي».
لم يرَ فولادو نفسه سوى مريضًا مُقعدًا ميئوسًا منه، إنه نصف ميت، نصف حي.
غاب عن الوعي، وبعد استعادة حواسه وجد نفسه في قبو فحم مظلم ومجموعة من الأهالي متحلقون حوله. أخبروه أن ثلاثة مسلحين جاؤوا به إليهم. وبعد الاطمئنان إلى أنه لم يعد أثر للألمان، نقلوه على عربة بحصانين إلى المستشفى.
ومن وضعيته، وهو مستلقٍ على بطنه في مؤخرة العربة، شاهد الاستقبال الحافل والمشرِّف لجنود الجيش الأحمر. كانت حشود الناس تطوقهم وتعطيهم الورود، والفتيات يغمرنهم بالقُبلات، في تعبير عن الفرحة الاستثنائية بالحرية والنصر.
كوابيس وأشباح
تحكي «إليشكا»، الممرضة التي اعتنت بفولادو داخل المستشفى، عن صراخه وبكائه طوال الليل. تجلس بصمت بالقرب منه ساعات طويلة. كان نوم فولادو كله صراخ. تقول إنه في الأيام الأولى داخل المستشفى كانت تنتابه هواجس وأفكار مأساوية كئيبة. كان يتحدث عن رغبته في الموت أو في فقدان الذاكرة.
تحملت إليشكا نوبات غضبه وسبابه وطلبه منها أن تبتعد عنه، وكان فولادو لا يرى في نفسه سوى مريضًا مقعدًا ميئوسًا منه، إنه جسم ميت من الخِصر. نصف ميت، نصف حي.
«برازدا»، الطبيب المعالج لفولادو، استمر في محاولاته رغم تسرب اليأس إليه. كانت الحالة غريبة، فالرصاصة أصابت فقرة من العمود الفقري، لكنها إصابة غير عميقة. برازدا يملؤه الأمل. كان يأتي بمجموعة متنوعة من الإبر والدبابيس ويستمر في وخز فولادو في أماكن متفرقة من فخذيه وساقيه، وفي كل مرة كان الرد: «لا أشعر بشيء».
يصرخ الطبيب في وجه فولادو: «عليك أن تتفاءل، وضعك الآن مرهون بقوة أعصابك».
تخيل فولادو كثيرًا تلك اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب. كان يحمل أسئلة عن معنى النضال والثورة والحرية وجدوى القتال.
داخل المستشفى، كان فولادو يسترجع الأيام العصيبة التي مرت عليه، ويستمع إلى الأخبار في المذياع، والتي كانت تتحدث عن براغ ومقاومة الاحتلال النازي. كانت براغ هي آخر ما سيفقده الألمان. لقد هَبّ الناس العُزّل لمقاومة القوة العاتية المسلحة للجيش الألماني. لقد هبت براغ كي تدافع عن شرفها وتحافظ على كرامتها وتحاسب أعداءها، لأنها، كما يقول فولادو، لم تستطع أن تترك الألمان يرحلون دون الوقوف أمامهم والثأر منهم.
هل يمكن أن تنتهي الحرب؟
فولادو ليس جنديًّا عاديًّا، ليس مجرد مجند في جيش نظامي يتلقى جُملة من الأوامر والنواهي. إنه فدائي، مقاتل ضمن قوات الثوار المقاوِمة للاحتلال النازي وما فعله في تشيكوسلوفاكيا من دمار وخراب.
اتخذت كتيبة الثوار، التي كان فولادو منضمًا إليها، من جبال مورافيا ملاذًا. كانت تأويهم قرية صغيرة في الجبال تُسمى بلوشتين. عاشوا بين أهلها، السكان الجبليين الطيبين، وأحبوا فتياتها. تقاسم أهل بلوشتين مع الثوار الخبز والطعام. كانت أيامًا مجيدة في بلوشتين، أيام من الحب والنضال والحلم.
فولادو جندي شاب مثقف، بلغ عمره عند انتهاء الحرب 24 عامًا. تخيلَ فولادو كثيرًا تلك اللحظة التي ستنتهي فيها الحرب. كان يحمل أسئلة عن معنى النضال والثورة والحرية، وعن جدوى القتال.
يقول: «فكرت كثيرًا في مغزى قتالنا للعدو الذي يتفوق علينا عددًا وعُدّة. سألت نفسي: «ما الفائدة؟ إننا مجموعة صغيرة، 30 مقاتلًا، هل بمقدورنا أن نفعل شيئًا ونحن نقابل عدوًّا منظمًا يملك أكبر آلة عسكرية متطورة؟ إن عدة آلاف من الرجال المسلحين في هذا البلد لا يمكنهم تغيير نتائج الحرب، ولن يتمكنوا من تسريع نهايتها يومًا واحدًا».
أفزعت المجموعة الألمان وقَضّت مضاجعهم، وجعلتهم يخافون ملاقاتها، لأنهم لم يشعروا بالأمان خلال تحركهم في الطرقات الجبلية.
يؤكد فولادو: «سقط عديد من الألمان بسلاحنا المتواضع. استولينا على كمية كبيرة من الأسلحة، ونجحنا في الحصول على مستندات مهمة، ونسفنا وسائل اتصالاتهم، وقطعنا عنهم الكهرباء فترة طويلة، وفجرنا كثيرًا من الجسور والقطارات التي كانت تخدمهم في تحركاتهم وتنقلاتهم، وتحمل إليهم إمدادات السلاح».
لهذا لا يَعتَبر فولادو نضالهم رمزيًّا: «إنه تعبير عن أخلاق الأمة وطموحاتها. دعهم يضخمون الأخبار عن نشاطاتنا، دعهم يتحدثون عن بطولتنا، ويزيدون الكلام، ويرفعون رؤوسهم بمقاومتنا رغم إمكاناتنا المتواضعة وضمن ما هو متاح لنا، إنها تعتبر أكثر من محدودة، وكل ذلك بسبب خيانة بعض أصحاب السلطة».
كان واضحًا لفولادو وللجميع أن الواجب الرئيسي هو قهر الألمان، وكسر شوكتهم، وإتعابهم.
ركز فولادو دائمًا في حديثه مع المتطوعين الجدد على المعنى الأخلاقي للعمل الفدائي السري. فولادو نفسه مَرّ بعديد من المواقف الجدلية الصعبة، التي توَجّب عليه في كثير منها أن يتخذ قرارًا، ودائما كان يُغلِّب إنسانيته على الانضباط الثوري وحلوله العملية، كالقتل أو إعدام الواشي مثلًا.
كان واثقًا من أن التاريخ سيذكر في يوم من الأيام أن هذه الأمة فعلت المستحيل.
تساءل فولادو دائمًا عن الجيش التشيكي: أين ذهب؟ يقول إن آلاف الضباط كانوا يستريحون في ثكناتهم وفي المقاهي والنوادي الليلية. آلاف الضباط المحترفين يمتهنون الخدمة العسكرية: «كان الشعب يقطع من فمه لقمة الخبز ويعطيها للجيش كي يكون مستعدًا ومؤهلًا للدفاع عن الوطن ضد المحتل». يسأل فولادو عنهم وقت الحرب: «أين هؤلاء الضباط الآن؟ ماذا فعلوا؟»، والإجابة: «لا يوجد بيننا واحد منهم»، لا في كتيبته ولا بقية الكتائب الثورية المنتشرة في الجبال والمتواصلة معهم.
جميع الروس الذين قاتلوا مع فولادو كانوا ضباطًا في الجيش الأحمر: «أليس من المخجل أن لا يكون بيننا ضابط تشيكي واحد في معركتنا مع الألمان؟». يخبرنا فولادو أن هؤلاء الضباط منهم من عمل كمراقب اقتصادي، يطارد الفلاحين ويجبرهم على تقديم محاصيلهم إلى العدو، ومنهم من كان يتجسس لصالح الألمان. يؤكد فولادو في إصرار: «لن نسمح بتكرار شيء كهذا في المستقبل، أبدًا، وإلا لن يكون لنضالنا أي مغزى».
«كان حُبًّا فدائيًّا، ثوريًّا.. وقد انطفأ الآن»
اقتحمت «مارتا» كيان فولادو، وكان يشتم نفسه ويقول: «أين أنا منها؟ إنها تنتسب إلى عالم آخر، وامرأة مثلها لن تعيرني أي اهتمام».
بحث فولادو عن الحب، لكن كانت عنده فلسفته الخاصة، يصفها بأنها قاسية لكنها مع ذلك لا تخلو من الأحلام الراقية. اعتبر فولادو أن الكبت الجنسي يمكن أن يضاعف الشهوة، لكنه ينقيها في ذات الوقت. وما زال يظن أن الحب هو «يوم الأحد (العُطلة الأسبوعية) بالنسبة إلى الحياة». والإنسان الذي يعتبر كل يوم في الأسبوع يوم أحد، لن يعرف أبدًا الأحد الصحيح.
لم تتفهم بنات الفلاحين الفقراء طبيعته تلك. عرضن أنفسهن، وحين وجدن صدًّا من جهته، أعرضن عنه ووصفنه بالمتعجرف. والسبب في إعراضه هو رؤيته علاقات تعيسة حوله بين الفتيات والثوار، تفتقد إلى العواطف، تخلو من الفرح بالحب.
فجأة، ودون مقدمات، ظهرت في حياته «مارتا».
مارتا ذات الشعر الأحمر الكستنائي، وذات الجمال المبطّن بشهوة الجنس.
كانت تظهر من حين إلى آخر لمدة ساعة أو يوم على الأكثر في مناطقهم، وتعود لتختفي من جديد.
اقتحمت مارتا كيان فولادو الهادئ وتوازنه، وبدأت تهاجمه أفكار متضاربة ممزوجة بعدم الراحة. كان يشتم نفسه ويقول: «أين أنا منها؟ إنها تنتسب إلى عالم آخر، وامرأة مثلها لن تعيرني أي اهتمام». ثم يعود ليناقش أفكاره من جديد: الأمر ليس بهذه الصعوبة، ولا بد من وجود شيء ما يجمعهما. أليست معهم، وتنتسب إلى ذات المجموعة التي يعمل فيها؟ ثم يرجع ويقول إنها تعيش في المدينة، وهي امرأة مدنية، وما أكثر الذين يدورون حولها من أمثاله.
لكنهما وقعا في الحب. تقربا إلى بعضهما خلال مرافقتها لفولادو في مهمة بالمدينة.
استحوذت عليه، وبدت كل الأسباب التي يمكن أن تفرقهما واهية. كانت مارتا تخبره بأنه لا يعرف عنها شيئًا، لدرجة أنها قالت له: «أنا مومس». لكن فولادو، كما أخبر إليشكا لاحقًا، كان مؤمنًا بأنه لا شيء يمكن أن يوسخ صورتها.
حقيقة مارتا التي عرفها فولادو هي أنها عميلة للغستابو، المخابرات الألمانية. إنها يهودية تضاجع الجنرالات الألمان، وفي الوقت نفسه تتعاون مع الثوار. لا تملك مارتا أن تغير من هذا الواقع شيئًا. لكنها اختارت أن تعمل للثوار من داخل الألمان، معرضةً نفسها للموت في كل لحظة. كانت عُرضة لنزوات الجنرالات وعنفهم.
كان ذلك يخربها من الداخل، ويخلق عتمة قاسية تقف بينها وبين فولادو، وبين الحياة كذلك.
لكن تلك العتمة ليست ما أعاق حبهما، وإنما خيال بلوشتين الجاثم بينهما، الأحداث المروعة التي جرت بعد ذلك، والتي حكاها فولادو لإليشكا خلال مكوثه في المستشفى.
جاءت مارتا لزيارة فولادو، كانت صورة شبحية من تلك التي عرفها قبل ذلك. أخبرته أنها ستسافر إلى أخيها في كندا. كانت محاولة للهروب من نفسها.
حين سألت إليشكا فولادو لماذا لم يتزوجا، أجابها قائلًا: «الجواب في منتهى الصعوبة، لأني مشلول، وهي أيضا مشلولة، وما زال خيال بلوشتين جاثمًا بيننا».
رأت إليشكا أنه كان يتوجب عليه منع مارتا من السفر إلى كندا. سألته إن كان ما زال يحب مارتا، فكانت إجابته: «لا أعرف، أشعر بالأسى لحالها»، ثم قال عبارته عن الحب في زمن الحرب، التي أثرت في إليشكا كثيرًا: «كان حبًّا فدائيًّا، ثوريًّا.. وقد انطفأ الآن».
لكن حبًّا من نوع آخر نما بين فولادو وإليشكا، حب منبعه الأمل والجمال الإنساني.
فولادو بدأ في التعافي. في البداية استطاع أن يشعر بوخز الإبر، بعد ذلك تمكن من تحريك ساقه اليمنى. كان يتلقى عناية من الجميع، الكل يرغب في مؤانسة البطل الشاب الجريح، الطبيب برازدا، والممرضة هيلين، وإليشكا بالطبع. أصبح بمقدوره المشي على عكازين. قويت العاطفة بينه وبين إليشكا، لكن خيال بلوشتين عاوده في النهاية.
فولادو لم يستطع أن ينسى ما حدث في بلوشتين. كان يبحث هذه المرة عن «إنغلخن»، عن الموت.
بلوشتين: عن القرية الطيب أهلها
قدمت قرية بلوشتين الكثير إلى الثوار ولم تنتظر شيئًا، واحتوتهم داخلها دون وشاية أو خوف.
في يوم من الأيام، وصلت إلى الثوار أنباء عن تخطيط الألمان لتشكيل خط دفاع في المناطق الحدودية الجبلية. أرسل الألمان إليهم السفاح «سكورزني»، صياد الثوار. عليهم مغادرة بلوشتين والتقدم في الجبال، وبذلك يشغلون جزءًا من فرق سكورزني حتى يتسنى للجبهة في سلوفاكيا التقدم.
أمضى الثوار كثيرًا من الوقت وهم يتجادلون: هل عليهم مغادرة بلوشتين أم لا؟
كان السبب وراء رغبة بعضهم في البقاء هو الخوف على مصير بلوشتين وسكانها من انتقام الألمان. كان فولادو مع قرار المغادرة، يحدوه الأمل بأن الألمان لن يهاجموا السكان الجبليين، وسيتركونهم دون عقاب.
كانت غالبية أعضاء هيئة الثوار مع المغادرة.
اجتمع الثوار بالسكان وأعلموهم بقرارهم، وكان السكان حاضرين في الوداع الصامت للثوار.
ودّع فولادو بلوشتين، مدينة الهدوء والسكينة. 20 بيتًا موزعة في طرف الغابة الكثيفة على أرض متعرجة، محاطة بحدائق، ويقسمها الجدول الذي تحيط به أشجار السنديان. القرية التي قدمت الكثير إلى الثوار ولم تنتظر شيئًا، احتوتهم داخلها دون وشاية أو خوف.
ما الذي حدث لهذه القرية النبيلة؟
بعد أيام من القتال والمعارك وتبادل إطلاق النار مع الألمان وسط الجبال والأشجار، كانت فرقة فولادو في حاجة إلى راحة. يحكي فولادو أنهم قرروا العودة إلى بلوشتين لبضع ساعات ثم مواصلة المسير، عقب معركة ناجحة مع القوات الألمانية.
لا شيء يمكن أن يمنع الإنسان من أن يكون فاشيًّا سوى احترامه لأخيه الإنسان.
حين اقترب الثوار من بلوشتين منتظرين الترحيب والفرحة بلقائهم، وصلت إلى أنوفهم رائحة دخان. يقول فولادو إنه طمأن نفسه بأنها رطوبة الغابة أو شيء يحترق في الأسفل. لكنهم حين وصلوا أدركوا حجم الفاجعة: لقد احترقت القرية.
عرف فولادو من الناجين، النساء والعجزة الموشكين على الجنون من هَوْل المذبحة، أن الألمان أحرقوا كل الشباب والرجال أحياء. كانوا مئتي رجل من قوات «الإس الإس» الرهيبة، حرقوا الجميع، حتى البهائم والحيوانات.
علم فولادو أن مارتا شهدت المذبحة، رأت كل شيء وخرت صريعةً من الصدمة داخل مخبأها. كانت قد حاولت الوصول إلى بلوشتين لتحذير أهلها، لكن النازيين سبقوها إلى القرية.
اختاروا من الأهالي 27 رجلًا، بينهم 13 فتاة في سن الرابعة عشرة. أوثقوا أيديهم خلف ظهورهم، قادوهم إلى بيت من البيوت، ثم أحرقوهم بقاذفة لهب. حكى العجوز «راشكا» لفولادو هذه التفاصيل.
عاش فولادو في دوامة من الصدمة والذهول. لقد جلبوا الدمار إلى هذه القرية الهادئة. كيف يمكن الثأر لبلوشتين؟ هل يذهبون إلى ألمانيا ويدخلون أول قرية تقابلهم ويحرقون أهلها؟ لماذا يموت الأبرياء؟
يقول فولادو لإليشكا إن رجال بلوشتين ليسوا مجرد أبرياء، إنهم شجعان وأبطال. يوضح فولادو أنه لا شيء يمنع الإنسان من أن يكون فاشيًّا سوى احترامه لأخيه الإنسان: «لن نصبح مثلهم، لن نفعل كما فعل الألمان».
هناك جراح لا يداويها الزمن. ما يُعذِّب فولادو أنه ربما، بعد الحرب، لن يتذكر أحد بلوشتين سواه. «هناك أشياء يستحيل نسيانها. بعد 20 سنة ستجد من يقول: لماذا أبي بالذات؟ ولماذا مات أخواي حرقًا؟ ومن سيرد على أسئلتهم؟».
هل لهذا رحل فولادو، بعد معرفته بخبر انتحار مارتا في كندا؟ هل يعلم أنه لن يمكنه مواصلة حياته قبل النّيْلِ من إنغلخن، القائد النازي الذي أشرف على مذبحة بلوشتين؟
سأل إليشكا ذات مرة: «هل تعرفين معنى إنغلخن؟»، أجابته بالنفي. أخبرها أنها تعني ملاك الموت بالألمانية. طلب متعلقاته وأخبر المستشفى برغبته في الرحيل. طوّح أحد العكازين من الشباك. قال لإليشكا إنه ذاهب للبحث عن إنغلخن، وبعدها سيعود. أكدت إليشكا أنه وعدها بذلك.
لقد نحل فولادو بشكل كبير بعد أن كان رجلًا قوي البنية، وتغير شكله كثيرًا. انتهت الحرب وعليه أن يحيا. لن ينتحر مثل مارتا، لكن لا يوجد مستقبل قبل الوصول إلى إنغلخن. الوظيفة، عضوية الحزب الشيوعي التي عرضها عليه مسؤول كبير، كل هذا لا يهم إلا بعد النّيْلِ من إنغلخن.
ربما لا تزال الحرب داخل فولادو، غادرها لكنها لم تغادره. لا تزال بداخله جذوة من الحرب، وقبسٌ من الموت.
أن تعيش وتتابع الحياة حتى لو عليك ملاحقة الموت، هكذا قرر فولادو.
***
شخصية فولادو من رواية «الموت يُدعى إنغلخن»، للكاتب السلوفاكي «لاديسلاف مناتشكو».
محمد عمر جنادي