غزو العقول: لماذا عادى الأوروبيون الأنماط الجنسية في أمريكا؟
دُهِش الأوروبيون عندما وطئت أقدامهم لأول مرة قارة أمريكا الشمالية، لكن أكثر ما أدهشهم كان السكان الأصليون ذاتهم، وطرق معيشتهم، وعاداتهم.
عمل المهاجرون من أوروبا على نشر ثقافتهم ومعتقداتهم ومؤسساتهم الاجتماعية على مدار قرون من الاستعمار الاستيطاني. كان الهدف بناء أمة خاصة بهم على هذه الأرض، وإرساء ثقافتهم بشكل دائم، وفرضها على الآخرين. بالفعل أدى الاستعمار الغربي إلى نشأة مؤسسات اجتماعية سعت إلى محو تقاليد الشعوب الأصلية ومعتقداتها الثقافية، بالعنف والاستيعاب القسري وشيطنة عاداتها، ومن ذلك الاستيلاء على ثقافة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، تلك الثقافة التي تضمنت حياتهم الجنسية.
لم يتبنَّ السكان الأصليون أفكار النوع الاجتماعي (الجندر) إلا بعد أن استعمر الأوروبيون أمريكا الشمالية. إذ لم يتوفر لديهم أي قواعد يتعين على الرجال والنساء الالتزام بها كي يُعتبَروا «طبيعيين». فمفاهيم الأنوثة والذكورة جاءت مع المستعمرين، وصارت شكلًا من العنف المؤسسي المرتبط بفكرة سيادة البيض على معتقدات السكان الأصليين، واستعمار نفوسهم وأجسادهم.
بجَّل السكان الأصليون مَن لديهم خصائص الإناث والذكور معًا، باعتبارهم ذوي هبة مميزة من الطبيعة، ويقدرون على رؤية العالم بعيون الجنسين.
مكانة كل شخص لدى السكان الأصليين كانت تعتمد على مدى إسهامه في القبيلة، وليس الرجولة والأنوثة. مالت ملابس الأطفال إلى الحياد، ولم تكن هناك أفكار معينة أو طرق مُثلى عن الحب، بل كان مجرد فعل طبيعي يحدث دون حكم أو تردد. لذلك لم تُلحَق أي وصمة عار بشخص يؤدي دورًا مختلفًا اجتماعيًّا عن جنسه، وسادت فكرة «ثنائيي الروح» أو الجنس الثالث بين السكان الأصليين.
كان هناك خمسة أنواع اجتماعية يمكن للشخص أن يكون عليها، فقد يكون أنثى، أو ذكرًا، أو أنثى لديها روح الذكور، أو ذكرًا لديه روح الإناث، أو متحولًا جنسيًّا، ويمكن قراءة التفاصيل كاملة في تقرير آخر على «منشور».
استعمار العقل والروح
وفقًا لمنطق تفوُّق الرجل الأبيض عِرقيًّا، فقد كان من الضروري أن تختفي مثل هذه الممارسات والثقافات.
تقول الناشطة النسوية «أندريا سميث»، في ورقة بحثية بعنوان «الاستعمار: هوية ثنائيي الروح ومنطق السيادة البيضاء»، إنه يجب أن يختفي السكان الأصليون دائمًا، فمن دون ذلك «لن تتمكن الشعوب المستعمِرة من المطالبة بأراضيهم». وكانت ثقافة «ثنائية الروح» عند الأمريكيين الأصليين واحدة من تلك الأشياء التي حرص الأوروبيون على تدميرها وإخفاء أثرها، قبل أن تتمكن من دخول كتب التاريخ.
فإضافةً إلى إحراق معظم المخطوطات وتجريم المعتقدات التقليدية، بما فيها تلك التي قالت بثنائية الروح، أُرغِم السكان الأصليون على اللبس والعمل وفقًا للمفهوم الغربي عن أدوار النوع الاجتماعي الذي يتنافى مع حياة الأصليين، ما اضطرهم إلى اللجوء إلى اختيارين: أن يعيشوا في مخابئ خوفًا من اكتشافهم، أو ينهوا حياتهم، وهو ما لجأ اليه كثير منهم بالفعل.
قد يعجبك أيضًا: عندما كانت المثلية واجبًا اجتماعيًّا
الأخطر هو إعادة إنتاج هذه الموروثات الاستعمارية في عصرنا الحديث على يد كثير من الباحثين والسياسين.
«نيلي ريتشارد»، الباحثة النسوية في العلوم الجيوسياسية للمعرفة، وهو فرع علمي يهتم بتأثير الجغرافيا بمعناها الواسع على السياسة، تؤكد أن بعض النظريات العلمية والعلاقات السياسية عملت على ترويج الموروثات الاستعمارية، كتلك المتعلقة بالجنس وأدوار النوع الاجتماعي، باعتبارها حقائق علمية ومسلَّمات، بينما شجعت على ازدراء أي فرضيات مغايرة، واعتبارها مظاهر ثقافية خاطئة وبالية.
بالنسبة إلى نيلي، فإن هذا النهج المعرفي يُعبِّر عن نزعة أصولية غير متأمِّلة تفترض صحة وجود مفاهيم معينة كالأنوثة والذكورة، بدلًا من البحث في صُنعها التاريخي.
هنا تظهر أهمية دراسات النوع الاجتماعي والدراسات النسوية، التي تُسلِّط الضوء على الخطابات التي تجنِّس الأدوار الاجتماعية، وتعمل على حصرها في الطرح الثنائي. وتوضح نيلي أن العمل النسوي يجب أن ينطوي على تفكيك مفاهيم الجنس والجندر والسلطة، وتشدد على أهمية الدور الذي يلعبه المكان واللغة في عملية الإنتاج المعرفي.
في نفس السياق، توضح «تشيوي فريا»، الباحثة في مجال الدراسات الثقافية، في ورقتها البحثية عن «الاستعمار والذاتية»، أن إنهاء موروثات الاستعمار اليوم يقتضي نضالًا سياسيًّا، والعمل مع المنظمات غير الحكومية، ومنظمات على مستوى الأمم المتحدة، وإعادة التفكير في مفاهيم حقوق الإنسان والحقوق الثقافية والملكية الفكرية، ودفع منظمات رعاية السكان الأصليين إلى استخدام وسائل التكنولوجيا السمعية والبصرية للتواصل معهم، وخلق مساحات جديدة للنقاش بين الثقافات وتبادُل الأفكار.
تختم فريا بحثها قائلةً إن «أحد الأهداف الأساسية لهذا الجهد المبذول هو إنهاء استعمار العقل والروح، ومواجهة آثار التشويه الذاتي المتفاقمة بسبب الإنتاج المعرفي الكولونيالي، ما يؤكد أن تسليط الضوء على معارف الشعوب الأصلية وأفكارهم في مواجهة نظيرتها الحديثة لا يقل أهمية عن الدور الذي تلعبه بعض المنظمات لتحسين الوضع الاقتصادي للسكان الأصليين».
بالطبع يمكننا القول إن الاستعمار لا يقتصر على غزو أراضي الشعوب الأصلية، بل عقولهم ومعتقداتهم أيضًا. حدث هذا على نحو فعَّال في حالة الأمريكتين عن طريق محو التقاليد، وبخاصة تلك التي تهدد القيم الغربية كثنائيي الروح، وفرض النظام الأبوي على السكان الأصليين، لكن ما يماثل ذلك خطورةً هو إعادة إنتاج هذه الموروثات القيمية الاستعمارية في عصرنا الحديث على يد كثير من الباحثين والسياسين، وتقبُّلها دون النظر في أصولها، ومحاولة التحرر من قيودها المفروضة منذ مئات السنين.
مي أشرف