أكراد سوريا: الحياة على حافة الدولة
هذا الموضوع ضمن هاجس شهر أكتوبر «إلى أي وطن ننتمي؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
حين تناول عالم الاجتماع الألماني «فان شينب» مصطلح «Liminal Spaces» (عتبة الوعي/الشعور)، عرَّفه بأنه أن يكون الفرد في مرحلة انتقالية بين مرحلتين، مساحة تسلب الأفراد هوياتهم أو جزءًا منها، وتمنحهم هوية أو حالة مختلفة.
ينطبق ذلك المصطلح على أماكن الزيارة في السجون، حيث يُنتزع من الزائر حريته ويُخضع لقواعد السجن، وبالتالي يصبح شبه مسجون. يمكننا أن نطبق المصطلح نفسه على الأكراد داخل سوريا، فهم عالقون في تلك المرحلة الانتقالية، «Permanent Liminality»، ويطمحون إلى الوصول لما بعد تلك المرحلة وإقامة دولة خاصة بهم.
الأكراد: الحياة على حافة الدولة
تعتبر سوريا أن «الكرد ليسوا أمة مستقلة بذاتها، بل وُجدوا داخل البلاد».
«فاقد القيد شخص عايش لكن مش عايش، ما فيه شي بيثبت إنو عايش، كأنه عايش مش بين البشر، كأننا جايين من كوكب تاني». كردي من سوريا فاقد الجنسية يحكي مأساته.
يعاني عدد كبير من أكراد سوريا الحرمان من الجنسية، وما يستتبع ذلك من انتفاء وجودهم بالنسبة إلى الدولة، وبالتالي الحرمان من الحد الأدنى من الحقوق، رغم تمثيلهم ما بين 8.5 إلى 10% من مجموع السكان في سوريا.
يتركز غالبية الأكراد في المناطق الشمالية من البلاد، في الحسكة وحلب وعين العرب. يعيشون داخل دولة لا ينتمون إليها، نتيجة نظرة الدولة لهم كخطر على هويتها، وسعيها الدائم لصهر هويتهم داخل الهوية السورية العربية. كل ممارسات الدولة السورية/حزب البعث، سواء تجريدهم من جنسياتهم السورية، أو إفقار مناطقهم، أو تغيير أسماء عدد من القرى الكردية إلى أسماء عربية، أو حرمانهم من حقوقهم، أسهم في عزلهم شعوريًّا وفقدنهم ذاتيتهم وهويتهم.
عمدت الدولة السورية إلى التأكيد دومًا أن الأكراد ليسوا أمة مستقلة، بل جزء من الدولة السورية العربية. ففي خطاب موجه إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة التمييز العنصري عام 1998، أكدت سوريا أن «الكرد ليسوا أمة مستقلة بذاتها، فقد وُجدوا داخل البلاد، وهم يعتبرون جزءًا من النسيج الوطني السوري»، وفي ذات الوقت لم يعترفوا بهم كمواطنين سوريين لهم حقوق فقد حرموا من جميع حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية.
يعاني الأكراد من التمييز السلبي في ما يتعلق بوضعهم الاقتصادي، فعلى الرغم من أن مناطقهم كانت عبارة عن مخزن الدولة للمواد الخام، خصوصًا الحبوب والقطن نظرًا لخصوبة أراضيها، فضلًا عن توافر حقول نفط بها، فإنها تعاني من الفقر وعدم الاهتمام بتحقيق أي تنمية حقيقية، فلم يكن هناك مصانع، أو أماكن سياحية، أو حتى جامعات ومؤسسات مركزية.
هذا بالإضافة إلى الخلل الواضح في البنية الأساسية في مناطق الأكراد، التي تعاني مشكلات في المياه والكهرباء. وبحسب تقرير «هيومن رايتس ووتش»، يذكر أحد الأكراد أن «الأموال لا تُنفَق هنا، وإنما في أماكن أخرى»، في إشارة إلى تجاهل الدولة مناطقهم.
الكردية: لغة محاصرة
بحسب الكاتب الكردي السوري «رستم محمود»، ثَمَّة فصام داخلي عميق، ولغتان تتقاسمان الوعي بالعالم والتفاعل معه: «العربية لغة الوعي الأعلى، المعرفة والثقافة، الفنون والاصطلاحات والنصوص والقانون والآداب. بينما الكُردية هي لغة الحياة اليومية والوجدانية والذاتية، لغة للحكايات والنكات والشتائم والعواطف والأغاني».
عادةً ما تُسهِم اللغة في شعور جماعة ما بأن بينهم روابط، واللغة بالنسبة للكُرد وسيلة لإثبات هويتهم الأصيلة، لكن العربية كانت تفرَض بشكل إجباري على غير المتحدثين بها، إذ صدر مرسوم بمنع تداول اللغة الكردية في عام 1986.
المعضلة الخاصة باللغة الكردية أنها لغة شفهية بشكل أكبر، ومحاولات النظام السوري المستمرة للتضييق على ممارستها أو تعليمها لا يمنحهم فرصة لتطوير لغتهم.
لم يقف الأمر عند اللغة، بل تخطاه إلى أي منتَج يرمز إلى الثقافة الكردية. ففي عام 1987، منعت وزارة الثقافة تداول الموسيقى الكردية وجرَّمت طباعة وتداول كتب باللغة الكردية، مما حرم الكُرد من التعبير عن هويتهم الثقافية، وأسهم في تعزيز شعورهم بالاغتراب وذوبان هويتهم.
اقرأ أيضًا: الخوف والغواية: شبح «مهاباد» يحوم بين أكراد إيران
للأخرى.. العروبة أولًا أن تصبح قومية مدمرة
منذ استقلال الجمهورية السورية عام 1946 برزت القومية العربية كأساس للحكم في سوريا، وظهر شعار «العروبة أولًا»، ثم تحول مع وصول حزب البعث لسدة الحكم إلى «العروبة المطلقة»، حسب تعبير الكاتب ياسين الحاج صالح.
سعت القومية المطلقة إلى تذويب كل سكان سوريا داخل القومية العربية، واستُخدمت كذريعة للاستبداد بأي جماعة أو فئة مختلفة، فالعرب هم الأصل والأساس المكون لسوريا، وأدت القومية المطلقة إلى النظر للأكراد باعتبارهم انفصاليين وكيان طارئ على المجتمع السوري.
استخدمت سوريا «الحزام العربي» لتطويق المناطق الكردية بعرب سورييين، خوفًا من سيطرة الأكراد على تلك المناطق بشكل حصري.
لتطبيق سياسات «العروبة»، أجرت الجمهورية السورية في عام 1963، وفقًا للمرسوم التشريعي رقم 93، إحصاءً لسكان الحسكة شمال سوريا، المنطقة الأكثر كثافةً في ما يتعلق بالوجود الكردي. وعادةً ما توظَّف الإحصاءات لتحقيق أغراض سياسية خاصة بالدولة، فبحسب المؤرخ خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا» فإن «الإحصاءات تقنية للسيطرة، تكمُن قوتها في قدرتها على توقع أفعال السكان وحسابها، حتى قبل وقوعها».
كان الهدف المعلن من الإحصاء تحديد هوية الأكراد في الحسكة، لفرز السكان الأصليين عن الأجانب النازحين من تركيا. وكان المعيار في تحديد أكراد سوريا عن مَن هم دونهم هو إثبات وجودهم في سوريا قبل عام 1945، عن طريق أوراق تملك أرض أو تحقيق شخصية.
ما حدث كان تجريد نحو 120 ألف كردي من الجنسية السورية، وتحول عدد كبير من الأكراد إلى «أجانب» أو «مكتومي القيد/غير مسجلين»، مما يعني تقليص الوجود الكردي بالنسبة إلى الدولة، فهم دون قيد بالنسبة للسجلات، وبالتالي ليست لهم حقوق أو هويات.
بالإضافة إلى ذلك، انتهت سوريا في 1973 من بناء «سد الطبقة» في محافظو الرقة، وغمرت بحيرة السد مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، فوجدت الدولة في ذلك فرصة لإقامة ما عُرف بـ«الحزام العربي»، إذ نقلت الذين غمرت مياه السد أراضيهم إلى الشريط الحدودي بطول 350 كيلومترًا، وعمق يتراوح بين 10 و15 كيلومترًا، ليصبحوا بذلك حزامًا عربيًّا بين الأكراد والحدود.
نجح النظام السوري في تطويق المناطق الكردية بعرب سورييين، خوفًا من سيطرة الأكراد على تلك المناطق بشكل حصري.
ربيع الأكراد، ومخاوف تركيا
بالتزامن مع الثورة، منح بشار الأسد الأكراد جنسيات سورية لجذبهم إلى صف النظام، لكنهم أعلنوا أن مطالبهم صارت أكبر من مجرد جنسية.
حاول الأكراد مرات عديدة إقامة دولة مستقلة، إلا أن تلك المساعي كانت عادة ما تعرقَل بسبب تدخل قوى خارجية. كان الكرد يتمتعون بقدر من الحكم الذاتي في عهد الدولة العثمانية في إطار فيدراليات، تحت مسمى «الإمارات الكردية العثمانية»، إلى أن شن العثمانيون هجمات عليها أدت إلى سقوطها، ثم عُقدت معاهدة سيفر عام 1920، بين قوات الحلفاء من جهة والدولة العثمانية من جهة أخرى، في أعقاب هزيمة الأخيرة في الحرب العالمية الأولى.
نصَّت تلك الاتفاقية على حق الأكراد في تقرير مصيرهم، لكن الاتفاقية لم تدخل حيز التنفيذ نظرًا لرفضها من حكومة أتاتورك، بسبب استقطاع مساحات هائلة من الدولة العثمانية حينذاك. تلتها اتفاقية لوزان، التي ترتب عليها الاعتراف الدولي بتركيا وضياع حلم الأكراد في إنشاء دولة مستقلة.
تسببت إعادة تقسيم الحدود بين تركيا والعراق في تشتيت الكرد بين أربعة دول: سوريا والعراق وإيران وتركيا، ولا تزال آثارها ممتدة، فلم ينجح الأكراد منذ ذلك الوقت في تأسيس دولة مستقلة، غير بعض محاولات باءت بالفشل في النهاية.
اقرأ أيضًا: هل تعيد أزمة اللاجئين السوريين تشكيل المجتمع التركي؟
بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، ومن أجل جذبهم إلى صف النظام، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد المرسوم رقم 49 لسنة 2011، الذي يقضي بمنح الأكراد الجنسية السورية، لكنهم أعلنوا أن مطالبهم أصبحت أكبر من مجرد جنسية.
وفي 2012، انسحبت قوات النظام من منطقة الحسكة في الشمال، فملأت القوى والأحزاب الكردية هذا الفراغ، وعلى إثر ذلك أعلن الأكراد في مارس 2016 إقامة نظام فيدرالي في مناطق سيطرتهم شمالي سوريا، تحت مسمى «روج آفا».
لوهلة بدا أن حلم الأكراد بدولة على وشك التحقق، خصوصًا مع الدعم الدولي، واعتبارهم رأس حربة في قتال «داعش»، لكن الحلم الكردي المتحمس وجد أعداء متحمسين أيضًا، إذ تدخلت تركيا بشكل عسكري في شمال سوريا لقطع الطريق أمام الأكراد، بسبب مخاوفها من تحقق الاستقلال وتشجيع أكراد تركيا على المثل.
ربما كان لاستفتاء أكراد العراق على الاستقلال، لو كُتب له النجاح، أن يدفع أكراد سوريا إلى المحاولة بشكل أقوى، إلا أن تعثر أكراد العراق بعد الاستفتاء قد يدفع السوريين إلى تأجيل حلمهم مرة أخرى، على الأقل على المدى القريب.
دينا كامل