القصار خبثاء والنساء لا يجدن القيادة: كيف نقع في فخ التنميط؟
النساء لا يُجِدن قيادة السيارات، قصار القامة خبثاء والطوال حمقى، اليابانيون مهذبون محبون للعمل ويجيدون الحساب، السويديون متحفظون لا يميلون إلى الاجتماعيات، الأفارقة يحبون الرقص وعزف الموسيقى ويبرعون في ألعاب القوى عندما لا يكونون مشغولين بالانقلابات العسكرية، ذلك لأنهم أقل ذكاءً من ذوي البشرة البيضاء، العرب إرهابيون، اليهود خبثاء بخلاء، أما الطفل المصري فهو، بالطبع، أذكى طفل في العالم.
جملة واحدة على الأقل ممَّا سبق وجدَتْ صدًى بداخلك وأكدت قناعة راسخة لديك بشأن هذا الموضوع أو ذاك، ما لم يكن كل الجُمَل، هذا قد يعني أنك في مشكلة حقيقية. بقدر ما ترغب في الإنكار، إلا أن هذه للأسف الحقيقة الوحيدة في كل ما سبق، أنك تؤمن بشكل واعٍ أو غير واعٍ بأيٍّ من تلك الصور النمطية (Stereotypes) وغيرها الكثير.
لا يرجع هذا إلى مستوى ثقافتك أو حُسن تربيتك، إنها فقط الطريقة التي تعمل بها عقولنا، فلو لم تكن لديك قدرة على تكوين صور نمطية والإيمان بها، لا شيء سيوقفك من أن تعرض سيجارة على طفل عمره ستة أشهر وتشعلها له. أنت لا تفعل هذا بالطبع، أليس كذلك؟ أتمنى أن تكون إجابتك «نعم، لا أفعل».
الصور النمطية، ما هي؟
لا شك أنك قابلت مصطلح «Stereotype» أو واحدة من ترجماته العديدة (قالب مسبق، صورة نمطية، قَوْلَبَة، تنميط...) مرات عديدة في سياقات شتى من قبل، ولديك فكرة لا بأس بها عن الموضوع، فكرة سلبية غالبًا، تخبرك بأن عليك تجنب استخدامها بأي شكل. لا بأس، دعنا نحاول الوصول معًا إلى مفهوم علمي واضح، ومن ثَمَّ نقرر لاحقًا إيجابيته أو سلبيته.
تُعَرَّف الصورة النمطية من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي بأنها «اعتقاد مُعمَّم بشأن السمات والخصائص التي تخص أفراد مجموعة اجتماعية معينة».
هذه الاعتقادات قد تكون إيجابية أو سلبية، قد تكون صحيحة أو خاطئة، فأنت مثلًا ربما يكون لديك تعميم على لاعبي كرة السلة بأن كلهم طِوَال القامة، هذا التعميم صحيح في الغالب، فمتوسط أطوال لاعبي كرة السلة أعلى بكثير من متوسط طول عامة الناس، فهذه صورة نمطية صحيحة، لكن هناك بالتأكيد لاعبي سلة أطوالهم متوسطة، وربما يكونون قصار القامة أيضًا.
من أين تأتي الصور النمطية؟
هناك تفسيرات عدة لمنشأ الصور النمطية لدينا. التفسير المباشر السهل هو أننا نتعلم بينما نمضي في الحياة، نتعلم من آبائنا ومعلمينا، من التجارب التي نمر بها كل لحظة، نتعلم من الرسائل التي تصلنا من الآخرين ومن وسائل الإعلام المختلفة. مع كل خبرة جديدة نتعلمها، نبحث عن أنماط في كيفية حدوث الأشياء وكيف يتصرف الآخرون في شتى المواقف، ونستخدم تلك الأنماط لنطلق أحكامًا ونتخذ قرارات بشأن كل شيء.
اقرأ أيضًا: عوامل خفية تشارك في صنع قراراتنا
يُشبِع تصنيف الأشخاص رغبة متأصلة فينا لفهم العالم، فأنت الآن لست بحاجة إلى أن تتساءل بشأن كل فرد: كيف يفكر؟
علماء النفس بالطبع لن يكتفوا بهذا التفسير، ولقد عرفنا من قبل كيف يميل هولاء إلى تضخيم الأشياء و«يجعلون من الحبة قُبَّة».
يخبرنا علم النفس أن الناس يحبون ويرغبون ويحتاجون إلى تصنيف العالَم (المادي والاجتماعي) إلى مجموعات صغيرة لطيفة يحمل كلٌّ منها مجموعة من الخصائص، وذلك لأسباب ثلاثة:
- لأننا بخلاء معرفيًّا. مواردنا العقلية شحيحة والعالم معقد ويزداد تعقيدًا مع كل لحظة، فما أن نصنف مجموعة معينة ونسمهم بعدة سمات، لا نحتاج إلى التفكير المستمر بشأن كل فرد ينتمي إلى تلك المجموعة، يكفي تطبيق النمط الذي كوَّنَّاه سابقًا بشأن أمثاله من الناس لنحكم بسرعة عليه ونقرر الطريقة الأمثل للتعامل معه. لا يبدو هذا صائبًا، لكنها الطريقة الأكثر كفاءةً وتوفيرًا للوقت والمجهود.
- تلك التصنيفات تُشبِع الرغبة المتأصلة فينا لفهم وتوقع العالم المحيط، فأنت الآن لست بحاجة إلى أن تتساءل بشأن كل فرد وحيد: كيف يفكر؟ وماذا قد يفعل في موقف ما؟
- كي يخالجنا شعور أفضل تجاه أنفسنا، تجاه مجموعتنا، فمجموعتنا هي الأفضل بالضرورة مقارنةً بالمجموعات الأخرى، التي تحمل صفات سيئة كثيرة نحن أفضل من أن نحملها. إنه «انحياز المجموعة».
تبدو هذه الأسباب سلبية كلها. ربما الأمر كذلك، لكن تذكر مثال الطفل والسيجارة، فلو لم تكن لديك صورة نمطية عن أن الأطفال لا يجب أن يدخنوا، لربما كنت فعلتها عدة مرات معتقدًا أنه من حسن الأدب أن لا تدخن وحيدًا دون أن تدعو الرضيع إلى واحدة، أو كنت ستستغرق وقتًا ومجهودًا في التفكير العميق المطوَّل والاستدلال المنطقي كل مرة تقابل فيها طفلًا وأنت ترغب في تدخين سيجارة، حتى تصل إلى فكرة أن هذا الطفل بالذات لا يجب أن يدخن.
القوالب المسبقة: أنت سلبي أم إيجابي؟
ليس الأمر بهذه السهولة، لا يمكن الحكم على مفهوم مجرد مثل هذا بأنه سلبي أو إيجابي. ما يمكن قوله إنه أمر «حتمي» لا مناص منه، لا يمكنك أن تقرر أنك ستتوقف عن القولبة من الآن فصاعدًا، هذا مثل أن تقرر أنك لن تمارس عملية الإخراج مرة أخرى لأنها مقززة.
برغم ذلك، لا نسمع عن القولبة سوى في سياقات تصفها بأنها شيء سيئ جدًّا ويجب تجنبه. ما تقصده هذه الرسائل هو الصور النمطية التي تؤدي إلى «التفرقة» و«الأحكام المسبقة»، وهما صفتان يتفق العالم اليوم على اعتبارهما سلبيتين بشدة، وهذا الجانب المظلم بالذات هو ما سنُعنَى بالحديث عنه حتى نهاية الموضوع.
التنميط السلبي
من زمن ليس بعيدًا كان يمكن للمرء أن يقول بصوت عالٍ إن الأفارقة أقل ذكاءً من الآخرين، أما الآن فسينال رأيه هذا غضبًا مجتمعيًّا.
يميل عقل الإنسان إلى تصديق وترسيخ الأنماط السلبية، كانت هذه نتيجة دراسة أجراها عالم الأعصاب الإنجليزي «هوغو سبايرز» بشأن بحث هذه الفكرة.
هل تبدو هذه نتيجة منطقية؟
حسنٌ، لقد وقعتُ للتو فريسةً لتصديق نمط سلبي يقترح أن «عقل الإنسان يميل إلى تصديق وترسيخ الأنماط السلبية» فور أن قرأتُ عنوان هذه الدراسة، قبل حتى أن أتأكد من مصدرها أو أن النتائج منشورة في مصدر موثوق مثل صحيفة «الغارديان». لا أعرف إن كان رد فعلي هذا يرجع إلى أن الدراسة صحيحة دون شك، أو أني أحمق يسهل التأثير فيه.
دعنا نعترف أن الفكرة مثيرة وأسهل في التصديق ولا يمكن نسيانها بسهولة. إن كان عنوان «الغارديان» مثلًا يقول «أثبت العلماء أن الإنسان بطبعه طيب ويحب الخير للآخرين» لما تأثرتُ به كثيرًا، ولم أكن لأفكر في مشاركته معكم، لن يهتم أحدكم أيضًا، أليس كذلك؟
نحن نفضل، دون وعي، القولبة السلبية تجاه الآخرين: النساء لا يعرفن القيادة، والسود أقل ذكاءً من البيض. يمكننا أن نرفع هذه الأنماط السلبية إلى درجة الحقائق بسهولة ونطلق أحكامنا تبعًا لها، لكن الأمر لا يحدث بهذا الشكل المباشر الفج دومًا.
قد يهمك أيضًا: طفل أسود، طفل أبيض: العنصرية لا تقتصر على الكبار
منذ زمن ليس ببعيد كان يمكن للمرء أن يتحدث بصوت عالٍ وواثق عن أن الأفارقة أقل ذكاءً من الآخرين. كان هذا أمرًا مقبولًا من المجتمع (الأوروبي والأمريكي بشكل خالص) ورأيًا مرحبًا به. الآن، وبعد عشرات السنين يُفترض أن الإنسان تطور خلالها فكريًّا وحضاريًّا، لا يمكن أن يعلن أحد رأيًا كهذا دون أن ينال غضبًا مجتمعيًّا كبيرًا، لكن هل يعني ذلك أنها انمحت ولم يعد لها وجود؟
التنميط الصريح والتنميط الضمني
حتى فترة غير بعيدة، كان «التنميط الصريح» هو كل ما يدرسه علم النفس الاجتماعي بشأن التنميط. والتنميط الصريح هو، كما يبدو واضحًا من الاسم، كل ما يؤمن به الشخص ويخبرك به صراحةً وعلانيةً من صور نمطية.
كانت الدراسات تتضمن ببساطة استطلاعات رأي موجهة إلى مجموعة من الناس ينتمون لفئة اجتماعية معينة، تسألهم عن رأيهم في صفات فئة أخرى، وبالتالي لا تتضمن الإجابات إلا ما يؤمن به الشخص موضوع الدراسة وما هو مستعد أن يقوله علنًا بدون خوف.
في هذه الصورة مثلًا، نجد نتائج استطلاع رأي أمريكي يسأل المواطنين البيض عن رأيهم في الأفارقة الأمريكان. نلاحظ من النتائج أن التنميط السلبي ضد السود يقل بمعدل واضح مع مرور الزمن من الثلاثينيات حتى التسعينيات. آراء المشاركين صارت أكثر تحضرًا وأميَل إلى البعد عن السلبية بشأن الآخرين، فبعد أن كان أحدًا لا يتقبل فكرة الارتباط بشخص أسود البشرة في علاقة قريبة كالزواج في عام 1949، صار 74% من المشاركين يتقبلون هذه الفكرة بحلول عام 1992.
اعتبر كثيرون أن انخفاض نسبة المؤمنين بتلك الأفكار بهذا الشكل الدرامي عبر السنوات تقدم رائع في تحسين العلاقة بين الأعراق، لكن بقليل من التفكير كان جليًّا أن انخفاض الأرقام لا يعني بالضرورة فقط أن القوالب القديمة في طريقها إلى الانقراض، بل يعني أنه لم يعد من المقبول اجتماعيًّا قَوْل مثل هذه القناعات بشكل علني في تصريحات رسمية واستطلاعات رأي تجريها جامعات عريقة.
يبرر هذا بقاء تلك القناعات واستمرارها دفينةً في سرائر أصحابها، إلى أن عاد المجتمع الأمريكي إلى نقطة صار بإمكان هؤلاء فيها أن يجاهروا بأفكارهم العنصرية مرة أخرى.
ليس هذا فقط، بل ظهر رأي آخر يقول إن الناس قد لا يعرفون بشكل واعٍ التحيزات والقناعات الدفينة الموجودة في أعماق قلوبهم. فقد يتحدث الشخص بإخلاص تام عن أنه يؤمن بالمساواة الكاملة بين جميع البشر، لكنه سيرفض قبول طلب عمل من شخص أسود البشرة في شركته الخاصة، متعللًا بأي سبب تافه، بدون أن يدرك أنه في حقيقة الأمر يرفضه بسبب تحيزه ضد لون بشرته.
من هنا بدأ الحديث عن «التنميط الضمني»، أي الأفكار والصور النمطية التي يحملها المرء دون وعي منه.
نلاحظ أن دراسة التنميط الضمني أصعب بمراحل من التنميط الصريح، فلا يكفي هنا إلقاء الأسئلة عن رأي الشخص تجاه الآخرين، لأنه هنا لن يداريها متعمدًا، بل هو لا يعرف أنه يملكها أساسًا.
قد يعجبك أيضًا: لماذا نتجاهل الحقائق ونتشبث بآرائنا الخاطئة؟
اختبار الارتباط الضمني
اختبار الارتباط الضمني (IAT) هو طريقة قدمها «أنتوني غرينوالد» عام 1998 لدراسة الارتباطات (اللاشعورية) بين المجموعات الاجتماعية المختلفة، والقوالب النمطية المعروفة عنهم لدى المجموعات الاجتماعية الأخرى.
يشمل الاختبار عددًا كبيرًا جدًّا من الأعراق والديانات والمجموعات الاجتماعية المختلفة، ويستخدم لعبة كلمات بسيطة لقياس سرعة ودقة استجابة الشخص موضع الاختبار، وبناءً على هذا يعطيك قياسًا تقريبيًّا لقناعاتك اللاشعورية تجاه المجموعة الاجتماعية محل الاختبار.
يمكنك أداء الاختبار هنا. كُن مستعدًا، وحاول أن لا تُصدم من معرفتك أنك لست بالمرونة التي حسبت نفسك عليها.
أن تكون هدفًا للتنميط
النساء لا يُجِدن القيادة، أليس كذلك؟
بالطبع، الجميع يعرف هذا، حتى النساء أنفسهن يعترفن بذلك في كثير من الأحيان. أنت تتذكر جيدًا يوم حاولت تعليم أختك كيف تمسك بالمِقوَد، وقضيت ساعات في شرح الفارق بين دواستَي الفرامل والدبرياج، ورغم ذلك ما زالت لا تجيد التفريق بينهما. كلنا نعرف أمثلة لا حصر لها عن حوادث نتجت عن سوء تصرف سائقة على الطريق العام. هذه الفكرة تخطت كونها صورة نمطية وصارت حقيقة مطلقة.
انتظري قليلًا أرجوكِ قبل أن تقذفيني بالحجارة، لديَّ ما قد يوضح مقصدي.
في عام 1995، أُجريت دراسة لبحث تأثير القوالب المسبقة على أداء فرد ينتمي إلى المجموعة المستهدفة في مهمة متعلقة بهذه القوالب.
واجهت مجموعة من الطلاب الأمريكيين امتحان لغة صعبًا نسبيًّا. نصف الطلبة كانوا من أصول إفريقية ونصفهم من أصول أوروبية، وقُسِّموا إلى مجموعتين مختلطتين، قيل لمجموعة إن نتيجة الاختبار ستكون دليلًا على مستوى ذكاء صاحبها، وللأخرى إن الاختبار ليس إلا امتحانًا معمليًّا روتينيًّا ليس ذا أهمية.
تذكَّر أن الصورة النمطية القديمة في المجتمع الأمريكي تقول إن السود أقل ذكاءً من ذوي الأصول الأوروبية.
حسنٌ، كان متوسط نتائج الطلبة السود من المجموعة الأولى سيئًا للغاية مقارنةً بالبيض، أما في المجموعة الثانية فكانت النتائج متقاربة وعادية.
النتيجة التي توصل إليها العلماء أن تذكير الفرد بالصورة النمطية السلبية عنه وعن مجموعته الاجتماعية يمثل ضغطًا اجتماعيًّا شديدًا عليه، يؤدي إلى التأثير بالسلب في أدائه في المهمة المتعلقة، وبالتالي يؤكد بدون وعي هذه الصورة، بالضبط مثل النبوءة ذاتية التحقيق.
تجربة أخرى أُجريت على سيدات من أصول آسيوية، طُلِب منهن أداء امتحان في الرياضيات، لكن قبل الامتحان ذكَّر الباحثون بعض السيدات بشكل غير مباشر بالجانب الأنثوي فيهن (الصورة النمطية هنا أن السيدات لا يُجِدن الرياضيات)، وذكَّروا أخريات بأصولهن الآسيوية (الصورة النمطية أن ذوي الأصول الآسيوية ماهرون في الرياضيات)، أما آخر مجموعة فلم يخبروها بشيء.
أظن أن النتائج الآن يسهل تخمينها، من ذُكِّرن بالأصول الأنثوية كان أداؤهن سيئًا في الاختبار، ومن ذُكِّرن بأصولهن الآسيوية كان أداؤهن أفضل من المتوسط، والمجموعة الأخيرة كان أداء أفرادها كالمعتاد في مثل هذه الاختبارات. بالبحث على الإنترنت عن مصطلح «Stereotype Threat»، ستجد مزيدًا من الدراسات والتجارب التي تؤكد نفس النتائج.
إذًا، النساء فعلًا لا يُجِدن القيادة، أغلبهن على الأقل، خصوصًا أختك التي علمتها بنفسك، بينما تؤكد بين كل جملة والثانية، مازحًا مرةً وجادًّا مرةً أخرى، أنها لن تجيد القيادة أبدًا مهما فعَلْتْ، لأنها فتاة.
محمد جمال