أمراض تتحكم في أدمغة الضحايا، وربما تدفعهم إلى الانتحار
«لا أستطيع التوقف عن التفكير في أن هناك جسمًا غريبًا بداخلي يتغذى على قدرتي على الكتابة والتحدث». بهذه الكلمات صدَّرت الكاتبة «جوانا روزتير» مقالًا تحكي فيه تجربة لها على موقع صحيفة «الغارديان» البريطانية.
كانت جوانا (21 عامًا) سافرت إلى إحدى المناطق النائية في الهند من أجل جمع المعلومات والخبرات لروايتها الجديدة، فأصبحت معلمة في إحدى المدارس المحلية للأطفال هناك.
تقول جوانا: «في إحدى الأمسيات عندما حاولت الجلوس للكتابة، كانت أفكاري فارغة ومُحْبِطة، ولم أستطع التركيز على أي شيء لفترة طويلة. أمضيت الليل كله في البكاء، رغم أن كل التجارب الجديدة التي مررت بها كانت محفزة وممتعة».
بعد خمسة أشهر استيقظت جوانا صباحًا لتجد أن أحد ذراعيها أصابه ما يشبه الشلل مع وخز خفيف، لتقرر بعدما فرغت من عملها في المدرسة ظهرًا أن تتوجه إلى بيت تلميذات لها بالقرب من المدرسة لأخذ النصائح. وبعد قليل شعرت بالوهن، ووجدت نفسها تتأرجح للخلف لتسقط على الأرض، وتصيبها نوبة من الصرع، لتعتقد أنها لربما قد أصيبت بسكتة دماغية.
قرر الأطباء في المستشفى، بعد عمل الفحوصات اللازمة على دماغها، أن مصدر الألم خُرَّاجات في دماغها بتأثير من إصابتها بالدودة الشريطية التي كانت ستسبب لها أمراضًا أخرى لو لم تبدأ العلاج في الوقت المناسب.
هذه العدوى تسببها يَرَقات الدودة الشريطية في لحم الخنزير، وتنتشر في الأماكن الريفية. لكن جوانا تذكر أنها لم تأكل اللحم منذ زارت الهند، غير أنها من الممكن أن تكون قد استنشقت بيض الدودة.
عندما يستقر البيض في المعدة يتحول إلى يرقة تحت تأثير من الإفرازات الحامضية هناك. هذه اليرقات تدخل مجرى الدم لتتوزع على جميع أعضاء الجسم بما فيها الدماغ.
تُحدِث اليرقات خراجات في الدماغ، وهذا يسبب أعراضًا مثل الصداع ونوبات الصرع، إلى أن يصل الأمر إلى ضعف عام بالدماغ يؤدي إلى تغيرات في الشخصية.
بعيدًا عن حكايات المحاولات السرية للمخابرات في بقاع العالم للسيطرة على الأدمغة، والكائنات الفضائية ذات الرؤوس المثلثة التي تسعى إلى التحكم فينا، وبعيدًا أيضًا عن بعض العقاقير التي تلعب بأدمغتنا مثل «LSD» الذي يذهب بِمُتناوله في رحلة تُفقِده الإحساس بالزمن، وتُشعِره بأن عقله قد فارق جسده. بعيدًا عن كل هذا، هذه خمس محاولات مختلفة لطفيليات تسعى إلى السيطرة على أدمغة ضحاياها بصورة ما.
«تكسوبلازما»: لماذا تقترب الفئران من بول القطط؟
تربط الدراسات بين إصابة البشر بطفيلي «التكسوبلازما» وبعض الأمراض العقلية، مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب والوسواس القهري.
تخاف الفئران رائحة بول القطط لأن الاقتراب من مصدر الرائحة قد يعني نهايتها، إلا أن هذا السلوك يتغير جذريًّا، وبشكل غريب، عندما يصاب الفأر بطفيلي يدعى «تكسوبلازما» (Toxoplasma). فبدلًا من فراره عندما يشم الرائحة، ينجذب إليها بعد الإصابة بالطفيلي، بحسب ما أشارت إليه دراسة نفذتها «ويندي إنغرام» مع فريقها من جامعة كاليفورنيا.
تقول ويندي إن طفيلي التكسوبلازما «يستطيع زرع هذا السلوك في الفئران بعد ثلاثة أسابيع فقط من العدوى».
السر أن دورة حياة التكسوبلازما تمر بالقطط، فهو يتكاثر في أحشائها، لذا يعد هذا السلوك من الأمور المباشرة التي تؤثر في بقائه.
وبعدما استخدم فريق البحث نسخة مهندَّسة وراثيًّا من الطفيلي أعدها فريق من جامعة ستانفورد، استنتج أن التكسوبلازما ربما يُنَشِّط الجهاز المناعي بشكل خاص ليغير من وظيفة الدماغ في القوارض بصورة لم نفهمها بعد.
الدراسة تذهب إلى أبعد من هذا لتربط بين إصابة البشر بهذا الطفيلي الذي يتسبب في إجهاض الحوامل، وبعض الأمراض العقلية، مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب والوسواس القهري، وحتى بعض الحماقات.
«باراغورديوس»: الدودة التي تدفع الصراصير إلى الانتحار
نوع من الديدان اسمه «باراغورديوس» (Paragordius)، واسمه الشائع «شعر الحصان»، لأنه يشبه شعر الحصان في طوله وسمكه عندما يطفو على سطح المياه العذبة.
تبدأ دورة حياة الدودة طافية على سطح المياه لتضع بيضها الذي يسكن قاع النهر على شكل يرقة كسولة لا تقدر على السباحة نحو السطح. وبينما تستقر يرقات حشرات مثل البعوض والذباب في قاع النهر، والتي لديها القدرة على السباحة نحو السطح، على عكس يرقة الدودة الهزيلة، وبخطة خبيثة تسمح يرقة الدودة ليرقة الحشرة بالتغذي عليها، لتستقر الدودة في أمعائها.
عندما يحين موعد تحول اليرقة إلى حشرة قادرة على الطيران، تلتهما حشرة أخرى أكبر منها، مثل صرصور الليل (Cricket). هذا يسمح ليرقات الدودة الكامنة في الحشرة المأكولة بالخروج والتعبير عن نفسها بأمعاء الصرصور.
بعد مدة تخترق الدودة النامية جدار القناة الهضمية للصرصور لتتمدد في تجويف جسمه ويصل طولها إلى ما يقرب من القدم، خانقة الحشرة بالالتفاف حول عضلاتها.
المثير في الأمر أن صرصور الليل السليم، قبل إصابته بالدودة، يستمد حاجته من الماء عن طريق الغذاء الذي يأكله، فهو لا يقترب من مصادر المياه العذبة في الأوقات الطبيعية. هذا السلوك يتغير عندما تسيطر الدودة على جهازه العصبي بإفرازها كميات كبيرة من المُوصِّلات العصبية، إضافة إلى تنشيط موصلات عصبية معينة داخل الحشرة كي تخدم أهدافها، كما يشير الدكتور «بن هانلت» من جامعة نيو ميكسيكو الأمريكية.
هذا السلوك يدمر الحشرة الطائرة، فعندما يطير صرصور الليل فوق المياه ليشرب، ترتفع احتمالات أن تلتهمه الأسماك الجائعة أو أن يغرق بصورة كبيرة جدًّا.
قد يقدر الصرصور على الهروب من قبره المائي ليعيش بقية حياته كما لو أنه ليس إلا وعاءً عظيمًا لحمل الديدان. وأحيانًا يجد الناس الديدان بمفردها في المراحيض دون أي أثر للصرصور الذي على الأغلب تكون الديدان الوليدة قد استنزفته تمامًا.
«تسي تسي»: لنحظَ بقسط «خطير» من النوم
تنتشر عند المناطق المدارية في شرق إفريقيا وغربها ووسطها، وبخاصة المناطق الريفية، ذبابة «تسي تسي» (Tsetse Fly)، فنحو 60 مليون شخص في هذه المناطق معرضون لخطر الإصابة بمرض النوم الذي تنقله هذه الذبابة.
يعد مرض النوم من أمراض المناطق المدارية واسعة الانتشار، والتي قد تؤدي إلى الوفاة إذا ما تُرِكَت دون علاج. وتبدأ دورة الحياة بعد أن تلدغ الذبابة جلد إحدى الثدييات لتحصل على وجبتها من الدم الطازج، المصاب بطفيلي يدعى «المثقبية الإفريقية» (African Trypanosome)، فينتقل أحد أطوار الطفيلي من الشخص المصاب إلى داخل جسم الذبابة.
داخل الذبابة ينتقل الطفيلي من طور إلى آخر، ويتكاثر بالانشطار الثنائي، وعندما ينتقل إلى طور العدوى يستقر في الغدة اللعابية للحشرة مستعدًّا لإصابة شخص سليم.
في البداية تؤدي لدغة الذبابة إلى ظهور قرحة حمراء، ويمكن أن يظهر على الشخص الملدوغ في غضون بضعة أسابيع أعراض من قبيل الحمى وتورم العقد اللمفاوية ووجع العضلات والمفاصل.
في مرحلة متقدمة يطول المرض الجهاز العصبي المركزي، ما يؤدي إلى حدوث تغير في شخصية المريض واضطراب في ساعته البيولوجية (مواعيد النوم الاستيقاظ)، ويبدأ في خلط الأمور ومواجهة صعوبات في المشي والحديث، ويمكن أن تتطور تلك المشكلات خلال سنوات عدة لتؤدي إلى وفاة المريض إذا لم يتلقَّ العلاج اللازم.
قد يهمك أيضًا: الإنسان والمرض: من ينتصر في النهاية؟
«أوفيوكورديسيبس»: وصفة سهلة لتحويل النمل إلى زومبي
في بحثه المنشور في مجلة «BMC» المهتمة بالبيولوجيا التطورية، يلقي عالم الأحياء الجزيئية «شارسا دي بيكير» الضوء على سلوك غريب يعتري نوعًا من النمل يسمى «النمل النَّجار». عندما يصاب بجراثيم من إحدى أنواع الفطريات الطفيلية من جنس «أوفيوكورديسيبس» (Ophiocordyceps).
يفرز الطفيلي مواد كيميائية للسيطرة على الجهاز العصبي المركزي للنملة، وتحويلها بصورة ما إلى ما يشبه الموتى الأحياء (Zombies)، وتوجيهها لتسلق سيقان النباتات، والتشبث بأوراقها إلى أن يحين موعد قتلها، فيتحرر الطفيلي على شكل «بوغ» (Spore) من مؤخرة رأس النملة، ويسقط بعدها على الأرض مصيبًا عددًا آخر من النمل.
توصل الباحثون إلى أن الفطر ينتج مزيجًا مختلفًا من المواد الكيميائية لكل نوع من النمل، وهذا يُظهر أن التحكم في أدمغة النمل يكاد يكون مُخصصًا. إذ تتعرف الجراثيم على نوع النمل الحاوي لها كي تستطيع التحكم في كيمياء دماغه لدفعه نحو سلوك معين تخدم به استكمال دورة حياة الطفيلي، أو أن «كل نوع من النمل لديه النوع الخاص من الفطريات التي يُصَاب بها»، بحسب بيكير.
السُّعار: لا تقرب الماء، الماء فيه سُمٌّ قاتل
يمتلك فيروس السعار خمسة جينات فقط، بينما لدى الكلاب 20 ألفًا، وأجهزة مناعية ومراكز عصبية متطورة، لكن الفيروس يستطيع التحكم في سلوكها.
يعد داء السُّعار من الأمراض الفيروسية المشهورة بقدرتها على تغيير سلوك الحيوانات، وغالبًا الكلاب، المصابة بها لتجعلها أكثر عدوانية.
وفي البشر يمكن للمرض أن يسبب مجموعة من الأعراض، مثل حالات القلق والارتباك والشلل الجزئي والاهتياج والهلوسة، وصولًا إلى ما يسمى «رُهَاب الماء» الذي يجعل المريض يصاب بالذعر لدى رؤيته الماء، إلى أن يصل به الحال لرفض الشرب، ما يدفعه نحو الهلاك.
رغم أن العلماء قد منحوا هذا الداء أهمية دراسية منذ القرن التاسع عشر، فإن آليات سيطرته على الجهاز العصبي المركزي للضحية كانت لا تزال مجهولة، حتى نشر الدكتور «كارستين هوفير»، وزملاؤه في جامعة ألاسكا فيربانكس الأمريكية، دراسة في مجلة «Scientific Reports».
يقول هوفير إنها المرة الأولى التي يقدم فيها العلم أدلة تجريبية تُظْهِر كيفية تفاعل فيروس السعار مع خلايا الجهاز العصبي للضحية لدفعها نحو سلوك يساعد على انتشاره.
يمتلك فيروس السعار خمسة جينات فقط، بينما لدى الكلاب 20 ألفًا، إضافةً إلى أجهزة مناعية ومراكز عصبية متطورة، لكن الفيروس يستطيع التحكم في سلوكها، ويجعلها أكثر عدوانية.
توصل الباحثون إلى أن للفيروس قدرة على الارتباط بالمستقبِلات العصبية النيكوتينية لـ«الأسيتيل كولين» في العضلات، ما أسهم في تزكية اعتقادهم بأنه يعمل على الدماغ بالطريقة ذاتها.
وللتَثبُّت من الفرضية أجرى هوفير، بصحبة الدكتور «مايكل هارير»، سلسلة من التجارب على الفئران، فحقنا دماغها بالبروتين السكري للفيروس، فأظهرت الفئران حالات من الهياج الشديد، ما أكد بشكل كبير افتراضات فريق البحث.
هذا كله يدعونا إلى التأمل في الحيل والأساليب المتبادَلة بين الكائنات في الطبيعة، والتي تدفعها إلى استكمال مسيرتها في هذه الحياة العجيبة. يقول آينشتاين إن هناك طريقتين للعيش: إما أن نعيش ونرى كل شيء معجزة، وإما أن نعيش ولا نرى أي شيء معجزة.
بغض النظر عن اعتقادك في أن وراء سطور تلك التراجيديا الطبيعية قلم كاتب عظيم أو لا، فإنها تستحق قليلًا من الصمت والتركيز حتى نسمع ونستشعر عظمة ما نحن جزء منه قبل أن نودعه.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
محمد رفعت طوبار