الوطن في محمية: حكاية الأصليين في أمريكا

كريم كيلاني
نشر في 2017/10/18

الصورة: Getty/Scott Olson

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر أكتوبر «إلى أي وطن ننتمي؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


في عام 2014، مدَّت شركة «ترانس كندا» خط أنابيب نفط على مسافة 1900 كيلومتر ليصل من حقول النفط في باكين إلى إلينوي. تُدعى الأرض التي تُنفَّذ عليها أعمال الحفر محمية «الصخرة الثابتة»، ويعيش عليها قبائل من السكان الأصليين لأمريكا.

تعبيرًا عن رفضهم، خيَّم السكان الأصليون فوق الأرض، التي تقع في شمال داكوتا حيث يصب نهر الكانونبول في بحيرة أوهي، معتصمين لمدة عامين اعتراضًا على التعديات، وتوجهوا على خيولهم في ملابسهم المميزة للتظاهر أمام البيت الأبيض في واشنطن، للمطالبة بإنهاء أعمال التعدي على أرضهم.

اقرأ أيضًا: قصة بترول داكوتا كما يرويها أحد السكان الأصليين لأمريكا

لم يكن هذا الحادث هو الأول، فحتى مع مواجهات قوات الأمن لهذه التظاهرات واعتقال المشاركين فيها، دأب السكان الأصليون في أمريكا على الخروج في مسيرات حتى اليوم للمطالبة بحقوقهم التي تغتصبها شركات التنقيب عن النفط والمعادن، والتي تحفر وتمد أنابيب لنقل الطاقة لمسافات طويلة في أراضٍ تعيش عليها القبائل.

هناك تعديات من الحكومة الأمريكية نفسها، كما حدث لقبيلة سان كارلوس أباتشي في ولاية أريزونا عام 2015، حين حاولت الحكومة بيع موقع يقدسه السكان الأصليون لشركة تنقب عن المعادن، رغم تسجيله ضمن المواقع الأثرية بعد محاولات قانونية من القبائل، التي توجه أفرادها في مسيرات من جبل غراهام في أريزونا إلى ميدان تايمز في نيويورك للتظاهر.

تعترف الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة بـ567 قبيلة من السكان الأصليين، وتبحث الحكومة إدراج السكان الأصليين في هاواي ضمن القبائل المعترف بها.

تتمتع هذه القبائل بما يشبه الحكم الذاتي، إذ تتولى تنظيم شؤونها الإدارية بالتنسيق مع الحكومة الفيدرالية، ويتفق الطرفان على أن تتخل الحكومة في هذا النطاق الإداري إن وقعت جريمة.

ثقافة التبادل لا تشمل الأرض

أُنشئت أول مستعمرة أمريكية عام 1650، وكان سكانها هاربين من الاضطهاد الديني في أوروبا، وساعد السكان الأصليون في بنائها.

ثقافة التبادل متأصلة لدى السكان الأصليين في أمريكا، أو «الأمم الأصلية» كما يطلقون على أنفسهم، بل إنهم خصصوا احتفالات ومناسبات يمارسون فيها المنح وتبادل الهدايا. لكن الأمر لم يكن كذلك حين تعلق بالأرض التي عاشوا عليها، فلم يمنحها السكان الأصليون هدية للمستعمر الأوروبي، بل انتُزعت منهم، وبطبيعة الحال تعارك الطرفان إلى أن استقر المستعمرون في الأرض الجديدة وارتفعت أعدادهم وقبل السكان الأصليون بالأمر الواقع، أو بشكل أدق: فُرض عليهم.

على مدار التاريخ، ظلت الأرض الخاطر الأول والأخير لدى قبائل السكان الأصليين، وكانت بطبيعة الحال تمثل لهم، ببقائهم فيها، السلام. اصطدم السكان الأصليون مع الحكومة الأمريكية حين سعت الأخيرة في مرات كثيرة إلى إنهاء وجودهم، إما عن الطريق التهجير القسري، أو الاستيلاء على الممتلكات والمواقع المقدسة، أو، في نهاية المطاف، القتل.

في عام 1650، أُنشأت أولى المستعمرات الأمريكية في جيمس تاون بولاية فرجينيا، وكان سكانها أوروبيين هاربين من الاضطهاد الديني في بلادهم، وبالمصادفة، أنشأ هؤلاء المستوطنة بمساعدة من السكان الأصليين لأمريكا.

وفي السنوات التالية ارتفع عدد المستعمرين القادمين إلى الأرض الأمريكية، وارتفعت حوادث الاعتداءات على السكان الأصليين وممتلكاتهم، وامتد الصراع ليصل إلى معارك طويلة الأمد بين المستعمرين الذين يحملون أسلحة متطورة والسكان الأصليين الذين لم يعرفوا بعد إطلاق النار، بل كانوا فقط يرقصون حولها في طقوس تتضرع من أجل النصر أو الحصاد أو هطول المطر، فقُتل منهم كثير خلال عملية بناء المجتمع الأمريكي.

بين انتزاع الأرض وحظر السلام

الصورة: old-picture.com

نُقل عشرات الآلاف من السكان الأصليين عام 1830 من أراضيهم الأصلية إلى مناطق تتبع حاليًّا ولاية أوكلاهوما، بعض القبائل أُعيد توطين أفرادها دون صراعات، وبعضها نُقل باستخدام القوة من قوات الأمن الأمريكية. كان الهدف الأكبر هو التوسع في المناطق الغربية وبناء المدن وإبعاد القبائل الأصلية عن مواقع تجمعهم بقدر الإمكان.

أسس سكان أمريكا الأصليون تنظيمات تطالب بحقوقهم، من بينها «الحركة الأمريكية الهندية» عام 1968.

استمرت النزاعات حتى القرن العشرين، حين شجعت الحكومة اندماج السكان الأصليين في المجتمع الأمريكي وبدأت في تمليكهم الأراضي والممتلكات التي يعيشون عليها، وأخضعتهم للقانون الفيدرالي وبنت لهم مدارس من أجل تحويل ثقافة أطفالهم، ووقَّعت الحكومة اتفاقيات مع القبائل تتضمن نقلهم من أراضيهم شرق نهر المسيسبي إلى أراضٍ أخرى في الغرب.

بقيت القبائل التي لم تتخلَّ عن أرضها في مواقعها بمعزل عن المدن وخدماتها، إلى درجة يخيَّل للمرء أنها مدن من العالم الثالث شديدة الفقر في وسط أمريكا.

خلال الفترات التالية لاستقرار النظام في أمريكا وخلق الولايات المتحدة، سعى السكان الأصليون إلى الحفاظ على الأراضي التي عاشوا عليها، والتي سميت «محميات»، وكان سعي الحكومة الأمريكية الدائم إلى التوسع غربًا وبناء مجتمعات جديدة على حساب أراضي القبائل الأصلية سببًا للتصادم، فضلًا عن التنقيب عن الثروات المعدنية كالنفط والغاز في أراضي عاش عليها السكان الأصليون.

لكن، ضمن حركات المطالبة بالحقوق والحريات، أسس السكان الأصليون تنظيمات تطالب بحقوقهم وإنهاء التمييز العنصري، من بينها «الحركة الأمريكية الهندية» عام 1968، التي كانت تهدف في البداية إلى مساعدة السكان الأصليين الذين نقلتهم الحكومة من أراضيهم دون مساعدات مالية أو تعويضات، ثم شاركت في الحراك الكبير، الذي تضمن تظاهرات واعتصامات بل واحتلال مواقع سعت الحكومة الأمريكية لانتزاعها من السكان الأصليين.

وفي 1977، توجه وفد من قبائل السكان الأصليين إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك للشكوى ضد التمييز العنصري الذي تمارسه الحكومة ضدهم، والمطالبة بحقوقهم في المحميات التي عاشت فيها القبائل وفقًا للقانون الدولي، بل وإدانة الولايات المتحدة بارتكاب مذابح ضد السكان الأصليين، إذ انتزعت الحكومة كثيرًا من أراضي الأمم الأصلية، وأوقفت المساعدات المالية للقبائل، وأجبرتهم على دفع الضرائب رغم غياب خدمات الصحة والتعليم خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.

سعت القبائل لحماية أراضيها وأفرادها، وقدمت عديدًا من الدعاوى القضائية لمحاربة التمييز العنصري ضدهم وتقنين أوضاعهم مع القانون الأمريكي في ما يخص المحميات، وكذلك محاكمة المعتدين على السكان الأصليين بالقتل أو الإيذاء البدني.

قد يهمك أيضًا: من هم ذوو الروحين الذين أرادت أوروبا محوهم من التاريخ؟

تراث الأمم الأصلية: ممنوع الاقتراب «أحيانًا»

مارلون براندو يرفض استلام جائزة الأوسكار دعمًا للسكان الأصليين

محاولات إخفاء معالم السكان الأصليين في أمريكا وسرقة أرضهم لم تتوقف، وإن اتخذت أشكالًا أخرى غير القتل المباشر.

يطغى تبجيل قومية السكان الأصليين عليهم، الشعور بأنهم أمة محتلة واجهت محاولات تطهير وإبادة وسرقة الأراضي لم ينتهِ حتى اليوم. ومع تطور وسائل الاتصال وانفتاح الثقافات على بعضها، تعج صفحات السكان الأصليين على مواقع التواصل الاجتماعي بنبرة قومية عالية، تمجِّد الماضي وتذكِّر دائمًا بمذابح المستعمرين بحق السكان الأصليين، بل تستهجن بشدة النمط الذي تقدمه السينما الأمريكية عن السكان الأصليين، واستخدام ثقافتهم وتقاليدهم لأغراض تجاربة كالملابس والمظهر والحُلِيِّ وخلافه.

يصل الأمر إلى التشدد والتعصب حين ينشر أحد مقطعًا لرقصات طقسية مارسها السكان الأصليون على يوتيوب، إذ يستهجنون مثل هذا الفعل باعتبار الرقصات من الطقوس الدينية التي لا يجوز نقلها أو نشرها أو تصويرها. بينما يؤكد آخرون أكثر اعتدالًا ضرورة تعريف العالم بثقافة السكان الأصليين في أمريكا، من قبيل تعارف الثقافات.

على ما يبدو، فالطرف المتعصب يخشى «الصيحات» التي تستخدم تراث السكان الأصليين في غير محله، وتحوله إلى سلعة استهلاكية تجذب الجميع لتقليد الثقافة من باب «الموضة»، في الوقت الذي يعاني السكان الأصليين من الفقر ومحاولات التهجير وانتزاع الأرض من جانب الحكومة والشركات الخاصة.

لم تتوقف محاولات إخفاء معالم السكان الأصليين في أمريكا وسرقة أرضهم، وإن اتخذت أشكالًا أخرى غير القتل المباشر، وكأن الأمر لم يتبدل منذ قال «ريد كلاود» (السحابة الحمراء)، أحد قادة قبائل لاكوتا في القرن التاسع عشر، إن الحكومة الأمريكية قدمت لهم وعودًا كثيرة، لكنها لم تلتزم سوى بواحد فقط: انتزاع الأرض.

كريم كيلاني