هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
ذكور وإناث في آن واحد: من هم ذوو الروحين الذين أرادت أوروبا محوهم من التاريخ؟
تُعرف المعركة تاريخيًّا باسم «معركة غدير روزبَد» (Battle of the Rosebud). كان على أحد طرفيها الجيش الأمريكي وحلفاؤه من سكان البلاد الأصليين من «الكرو» (Crow)، وعلى الطرف الآخر قبائل «اللاكوتا سو» (Lakota Sioux) و«الشايان» (Cheyenne).
دارت المعركة يوم 17 من يونيو 1876 في المنطقة التي تحتلها الآن ولاية مونتانا، وسجَّل كل من الأمريكان والسكان الأصليين للقارة (يُطلَق عليهم خطأً الهنود الحمر) مآثر أبطالها الكثيرين، ومن أشهرهم على الإطلاق «أوش تيش» (Osh-Tisch)؛ أحد زعماء «الكرو» الروحانيين ومحاربيهم.
يومها أنقذ «أوش تيش» حياة واحد من رفاقه المحاربين الجرحى عندما رآه يسقط عن حصانه، إذ وثب من فوق حصانه بدوره وراح يدافع عن رفيقه، مسقطًا عددًا كبيرًا من محاربي العدو. انتهت المعركة بهزيمة الأمريكان و«الكرو»، لكن شجاعة «أوش تيش» أكسبَته منذ ذلك الحين لقب «الذي يعثر عليهم ويقتلهم» (Finds Them and Kills Them).
جميع القبائل كانت تعترف بخمسة أجناس؛ الذكر والأنثى ومتحوِّل الجنس والذكر ذي الروحين والأنثى ذات الروحين.
للمعركة أبطال آخرون من الجانبين ومن الجنسين؛ منهم محاربة «الشايان» التي أسقطت أحد قادة الجيش الأمريكي عن حصانه قبل أن يقتله رفاقها، لكن ما قد يدهشك هنا أن «أوش تيش»، طبقًا لثقافة السكان الأصليين لأمريكا، لم يكن رجلًا أو حتى امرأة بالمعنى المعروف؛ بل كان «ذا روحين».
ما معنى هذا؟
يجيب «بيرسون مكيني» (Pearson McKinney)، الكاتب والناشط السياسي الليبرالي، عن ذلك في مقال يقول فيه إنه قبل استيلاء الأوروبيين على أمريكا الشمالية، لم يكن السكان الأصليون للبلاد يعتنقون أفكارًا تحدد الدور الذي يلعبه جنس المرء في المجتمع، كما لم تكن لديهم أي قواعد يقررون وفقًا لها ما يجعل المرء فردًا طبيعيًّا من أفراد القبيلة.
يشير الكاتب إلى أنه طبقًا لشبكة (Indian Country Today)، المعنية بالحفاظ على تراث سكان أمريكا الأصليين، فإن جميع القبائل كانت تعترف بخمسة أجناس؛ الذكر والأنثى ومتحوِّل الجنس (Transgender)، بالإضافة إلى الذكر ذي الروحين والأنثى ذات الروحين.
قد يعجبك أيضًا: أن تكون «بايسكشوال» في مجتمع عربي
يختلف التعبير الذي تستخدمه كل قبيلة للإشارة إلى النوعين الأخيرين، لكن (Two-Spirit) هي الترجمة الأقرب فهمًا للعامة، وتحمل بين طياتها المعنى الأصلي عند كل القبائل، التي كانت تتطلع باحترام إلى من يملكون الصفات الذكورية والأنثوية في آنٍ واحد، وتعدُّهم هبة من الطبيعة، لأنهم قادرون على رؤية كل شيء من الجانبين.
«أوش تيش» كان من هؤلاء، والحقيقة أنه يصحُّ أيضًا أن نقول إنها كانت من هؤلاء، فعلى الرغم من أنه وُلد ذكرًا وتزوج امرأة وأنجب منها، فقد عاش حياته باعتباره امرأة، وكان يرتدي ثياب النساء ويمارس أعمالهن التقليدية.
كان «أوش-تيش» ذا روحين إذًا، ويعدُّه أبناء قبيلته زعيمًا روحانيًّا، وفيما بعد بطلًا حربيًّا، وهكذا كانت تمضي الحياة دائمًا في «العالم الجديد» دون أن يكدِّر وتيرتها أحد.
إلى أن وصل الأوروبيون
كان أمام ذوو الروحين خياران؛ إما أن يخفوا هويتهم بعدما كانوا يفخرون بها، وإما ينهون حياتهم بأنفسهم.
يستشهد الكاتب بكلام «جورج كاتلين» (George Catlin)، الرسام والكاتب والرحالة، الذي كرَّس حياته لدراسة الغرب الأمريكي وتاريخ سكانه الأصليين، وكتب قائلًا إن ثقافة ذوي الروحين كانت واحدة من أولى الأشياء التي سعى المستعمرون الأوروبيون إلى تدميرها والقضاء عليها تمامًا، قبل أن تجد سبيلًا إلى كتب التاريخ.
هكذا بدأت حملات منظَّمة لمحو كل أثر لهذه الثقافة، فدمر الرهبان الإسبانيون الكاثوليك معظم مخطوطات حضارة «الأزتك» (Aztec) التي تتناول ذوي الروحين، وشرع «مكتب الشؤون الهندية» في اعتقالهم وإهانتهم، ومنهم «أوش تيش» نفسها، التي أجبرها الأوروبيون على ارتداء ثياب الرجال، بالإضافة إلى اثنتين أُخريين من ذوات الروحين من قبيلتها.
يقول الكاتب إن الأوروبيين واصلوا السعي لطمس كل ما له علاقة بالتعددية الجنسية وسط السكان الأصليين، وفرضوا عليهم الحياة في الحدود التي قرروها للذكر والأنثى فقط، طبقًا لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما وضع ذوي الروحين أمام خيارين أحلاهما مُر؛ فإما أن يتواروا عن الأنظار ويخفوا هويتهم بعدما كانوا يفخرون بها، وإما ينهون حياتهم بأنفسهم، وكثيرون منهم لجأوا إلى هذا الخيار بالفعل.
اقرأ أيضًا: ما هي الهوموفوبيا ولماذا يخاف البعض من المثليين؟
القيمة في العمل وليس الجنس
يؤكد الكاتب أن قيمة المرء في ثقافات سكان أمريكا الأصليين كان يحددها قدر مساهمته في العمل والصالح العام للقبيلة، ولا علاقة لها على الإطلاق بكونه ذكرًا أو أنثى أو غيرهما، فالأجناس كلها تزرع وترعى الماشية وتحفر الآبار وتخرج إلى الحرب، كما أن الآباء لم يكونوا يعلمون أولادهم أن هذا يصلح للصبية فقط وذاك للفتيات فقط، لدرجة أن ثيابب الأطفال كانت محايدة؛ بغرض ألا يُفرض عليهم شيء من الصِّغر.
قد يهمك أيضًا: المثلية المسكوت عنها في الخليج
ويضيف أنه لم تكن هناك صراعات داخلية على زعامة القبائل في حالة اختيار ذوي الروحين؛ لأنه لا فارق بينهم وبين الآخرين، بل وتُعدُّ العائلة التي تنجب أحدهما محظوظة.
لنتخيل كيف كانت حياة السكان الأصليين لأمريكا قبل الاستعمار الأوروربي، لنتخيل عالمًا يُترك الجميع فيه يعيشون حسب طبيعتهم بلا أذى أو إدانة أو خجل، عالمًا الكل فيه حر حقًّا. يا تُرى، كيف ستكون حياة وثقافة السكان الأصليين لأمريكا في زمننا الحالي لو تُركت لتستمر؟
هشام فهمي