«صيد المتحرشين»: هل تمتلك النساء حق الشكوى حقًّا؟
أثار مقال ما بعد دولة القانون: حروب الجنس النسوية بين «نعم» و«لا» نقاشات مطولة في الاجتماع التحريري لـ«منشور»، ورأينا أن ننشره ونتيح فرصة الرد لمن يختلف معه، وهذا أحد الردود.
«هذه القصص حقيقية، كنت أظن أن ما حدث لن يعرفه أحد، لأنني استأذنت السيدات قبل أن أخرج لهن قضيبي. تعلمت متأخرًا من الدرس، عندما تكون أقوى من أي إنسان، لا يحق لك أن تطلب منه أن يشاهد قضيبك، أنت بذلك تورطه. (...) كانت لديّ سُلطة على السيدات بسبب إعجابهن بي، وتعاملت معها دون مسؤولية».
كان هذا جزءًا من بيان اعتذار قدمه الكوميديان الأمريكي الشهير «لويس سي كيه»، إثر اتهامه بالتحرش الجنسي من قِبل خمس سيدات ضمن حملة Metoo#، التي تشجع ضحايا الإساءات الجنسية والتحرش والاغتصاب على الحديث عن تجاربهم دون خوف.
أطنب سي كيه، خلال اعتذاره، في الحديث عن سلطته الأدبية على السيدات الخمسة، التي هيأت له فكرة إخراج قضيبه أمامهن دون تفكير في عواقب ذلك، وهنا نتفق مع مقال الأستاذ محمد سامي الكيال في الجزء المتعلق بأنه «يُحسب لحملة Metoo# أنها ربطت قضية التحرش بموضوع السلطة: ما يحدث من انتهاك للنساء في الحيز العام وأماكن العمل هو اضطهاد بِنيَوي سببه اختلال ميزان السلطة لمصلحة الذكور، وبالتالي فانتهاك الجسد الأنثوي هو التجسيد الأكثر فجاجةً للهيمنة الذكورية».
لكن ما كتبه الكيال يفتح باب النقاش حول موضوع الجنس في السياق النسوي، والجانب القانوني والواقعي لقضية التحرش، وكثير من النقاط التي وردت فيه يجب أن نتوقف عندها ونفككها.
الجنس: بين الإباحية ورأس المال
في الحديث عن الجنس كموضوع في الفكر النسوي، يجب تأكيد أن النسوية ليست أيديولوجيا واحدة، كل تيار نسوي ينتمي إلى طريقة تفكير مختلفة.
تتفق النسوية في الخطوط العريضة كمناهضتها للأنظمة البطريركية مثلًا، لكنها تختلف في كيفية هذه المناهضة، وفي تفسيرها لواقع وأصل الهيمنة الذكورية وأسبابها. هذا ما تجده واضحًا على سبيل المثال في الفارق بين تفسيرات النسوية الماركسية وتفسيرات النسوية الليبرالية، وهو شيء طبيعي في كل فِكر، الاختلاف في التفاصيل بين المنتمين إليه والمؤمنين به.
الجنس في الفكر النسوي مسألة متشعبة، يهمنا منها هنا جزئيات محددة متعلقة بما تناوله المقال، فاختصار رفض بعض النسويات للإباحية بأنه مجرد حس محافظ وترسُّبات بروتستانتية ليس بالأمر الدقيق، إذ رفضته كثيرات ممن أتين من تيارات مختلفة بعضها لا دينية.
يجب أن نأخذ في الاعتبار الفرق بين ممارسة الجنس والعمل الجنسي، فالحرية الجنسية حق للمرأة بصفتها صاحبة رغبة وشريكة، لا ضحية ولا مفعولًا بها، لها أن تمارس أي شكل من أشكال الجنس الذي ترضى به بإرادتها، حتى تلك التي وصفها المقال بأنها «منحرفة»، رغم عدم وضوح سبب تسميتها بذلك، وطبقًا لمَنْ اعتُبرت منحرفة.
كذلك، للمرأة الحق في أن تملك ميولًا جنسية خارجة عن المألوف، وأن تمارسها طالما كانت بإرادتها الحرة، وهذه الإرادة حتى تكون حرة يجب أن لا تكون تحت تأثير الحاجة الاقتصادية، أو أي سلطة تؤثر فيها وتحول جسدها إلى موضوع رأسمالي، واستخدام القيمة الجنسية كسلعة استهلاكية لتدِر أرباحًا مالية.
المثال الذي ورد في المقال حول منع باب فتيات الصفحة الثالثة في جريدة «The Sun» البريطانية، التي كانت تُظهر فتيات عاريات الجسد، مثال جيد على استخدام الجسد كرأسمال، والقيمة الجنسية كمصدر للأرباح، واعتراض عارضات الصفحة ليس حجة على النزاع النسوي حول الجنس، بل دليل على الخلل في تقديم الحلول والبدائل للأنظمة الأبوية الرأسمالية التي تخلق هذا التسليع.
تكمُن مشكلة ضرب مثال بقرار عمدة لندن، صادق خان، منع الإعلانات التي تقدم تصورًا غير صحي للجسد في أن القرار لم يكن متعلقًا بجسد المرأة فقط، فقد ورد في الخبر أنه «لم تظهر صور العارضات شبه العاريات، أو العارضين مفتولي العضلات، في إعلانات وسائل المواصلات في لندن».
القرار كان عامًّا ومتعلقًا بتصوير أجساد البشر بصورة غير طبيعية ولا صحية باستخدام المؤثرات التكنولوجية، وهو ما يؤثر في ثقة الإنسان العادي بنفسه، ويضعه تحت ضغط نفسي كي يشابه جسده أجساد عارضي الإعلانات غير الحقيقية، ويغير شكل جسده حسب رغبات السوق المتغيرة بتحكم من سلطة رأس المال.
التحرش: بين «نعم» و«لا»
صمت المرأة بعد الاغتصاب والتحرش قد يكون تحت تأثير الخوف، خشية التعرض لانتهاك أكبر أو الانتقام.
يذكر المقال أن «قانون (نعم تعني نعم)، الذي أقرته ولاية كاليفورنيا الأمريكية في جامعاتها، يشترط الموافقة الواضحة والصريحة على الممارسة الجنسية، وليس مجرد عدم الرفض والمقاومة، وإلا اعتُبر اغتصابًا». وبحسب رأي الكيال، فإنه حتى لو كان هذا يبدو عاديًّا، فإن «القانون ذكر بوضوح أن الموافقة لا يمكن أن تُعطى إذا كان أحد الأطراف (وهذا يعني المرأة بالتأكيد) مخمورًا أو تحت تأثير المخدرات، ما يفتح الباب لاعتبار أي ممارسة جنسية مع فتاة شربت كأسًا من النبيذ اغتصابًا».
وفي هذا الرأي بعضٌ من القصور والمغالطات، وذلك على ثلاثة جوانب:
1. قانون «نعم تعني نعم» واقعي وملائم لما يحدث في الواقع، خصوصًا في الجامعات الأمريكية، حيث يقع كثير من حالات الاغتصاب والتحرش ضحاياها تحت تأثير الكحول أو المخدرات أو السُّلطة، فصمت من يتعرض للتحرش والاغتصاب واستسلامه لا يعني القبول بالضرورة، وهناك قاعدة قانونية شهيرة تقول «لا يُنسب لساكتٍ قول».
كذلك، الصمت قد يكون تحت تأثير الخوف والخضوع، إذ يكون كثير من الضحايا تحت سلطة الفاعل، فتهاب الرفض خشية التعرض لانتهاك أكبر أو الانتقام منها، مثلما يحدث بين المعلمين/المعلمات وتلميذاتهم/تلاميذهم.
يحدث كثيرًا أن يخدِّر المعتدي ضحيته بالكحول قبل اغتصابها لمنع مقاومتها، أو يضع لها المخدرات، بل وعقاقير ترفع شهوتها، للتأثير على إرادتها من أجل ممارسة جنسية أسهل دون مقاومة. كيف يمكن القبول بعدم اعتبار ذلك اغتصابًا؟
يمكننا أن نضرب مثالًا بالاغتصاب الزوجي باعتباره اغتصابًا، ففي كثير من الحالات، لا توافق الزوجة على المعاشرة الجنسية لكنها في ذات الوقت لا تتمكن من الرفض، بسبب سلطة الدين والمجتمع والخوف من انتقام الزوج أو الطلاق.
لا، بالطبع لا، فالقانون يضع نسبة معينة للكحول في الدم، حينها تقع الجريمة، أما إطلاق الأمر كأنه بهذه العمومية فهو منافٍ للدقة.
3. يذكر المقال أنه يرفض تنميط صورة المرأة الضحية والرجل المعتدي، بينما هو على العكس يكرِّسها، حين يعتبر أي قانون وأي مثال توجيهًا لهذه الصورة، حتى لو كان القانون (مثل «نعم تعني نعم») والمثال (مثل حملة MeToo#) يتحدثون عن ضحايا التحرش أيًّا كان جنسهم. وكون أرقام الواقع تدل على أن ضحايا التحرش أكثرهم من النساء، لا يعني أن قوانين الحماية التي نتحدث عنها هنا لا تحمي الرجل الضحية.
الموافقة الواضحة على ممارسة أي فعل جنسي لا تشترط أن تأتي بطريقة: «هل يمكنني لمس مؤخرتك؟»، «نعم»، فالفارق بين الغزل والتحرش والممارسة الجنسية المقبولة والاغتصاب هو القبول الواضح الذي يبيِّنه الطرف الآخر بإيماءات وتلميحات ولغة جسد واضحة، توضح إقباله على الفعل ورغبته فيه، وهذا ما يلاحظه أو يرغب في ملاحظته المتغزل، بينما لا يهتم به المتحرش والمغتصب.
الدعوة ليست لمَيكَنة الجنس، بل للتأكد من رغبة الطرف الآخر في دخول العملية الجنسية، وذلك التأكد يتمدد ليشمل فترة ممارسة الجنس ذاتها، فقد يفعل طرف ممارسة غير تقليدية أو وضعية أو إيلاجًا في أماكن غير شائعة، لكنه يجب أن يحصل على موافقة الطرف الآخر، وإلا فمن الطبيعي أن تُعتَبر إساءة معاملة.
تعرِّف الأمم المتحدة التحرش الجنسي بأنه أي تلميح جنسي غير مرحب به، وأي طلب جنسي أو سلوك لفظي أو جسدي قد يسيء إلى الطرف الآخر أو يذله أو يمس بكرامته.
يسأل كاتب المقال مندهشًا: «هل بات لفت الانتباه الجنسي والقيام بسلوكيات جنسية لا تشمل إرغامًا أو تعديًا على الحيز الجسدي، تحرشًا؟»، ويشير في ذلك إلى حادثة المغنية الشهيرة ماريا كاري وحارسها الشخصي الذي اتهمها بالتحرش به، عبر شِبه التعري أمامه وفِعل سلوكيات جنسية للفت انتباهه، رغم رفضه لذلك.
يكمُن استغراب الكاتب من اعتبار هذا التصرف تحرشًا في النظرة الذكورية التي ترى الإغراء وظيفة طبيعية للمرأة وجزءًا من طبيعتها، وترى محاولة لفت انتباه الرجل جنسيًّا تصرفًا طبيعيًّا عند المرأة كمفعول بها في عملية الجنس، وتتجه إلى تنميط صورة أن المتحرش يجب أن يكون ذكرًا والضحية أنثى، وهو ما يتناقض المقال فيه، إذ يرفض تنميط المرأة كضحية من ناحية، ويكرس نفس التنميط من ناحية أخرى.
لنقف هنا ونقلب الوضع: هل سيُعتبر الأمر تحرشًا لو كان الحارس الشخصي هو من تعرى وأخرج لماريا كاري قضيبه مثلًا، أو استمنى أمامها كأسلوب للفت انتباهها؟
بالطبع سيُعتبر تحرشًا، لا يُشترط في التحرش أن يكون فعلًا يمتد إلى جسد الضحية، فالتحرش هو السلوك الجنسي الذي يوجه إلى شخص ويضايقه، النظرة إلى مؤخرتي وأنا أعبر الشارع تحرش، وكلمة «أريد أن أنيكك» التي سمعت مراهقًا يلقي بها على أسماع فتاة تمضي في طريقها، تحرش كذلك. هذا ليس توسيعًا لمفهوم التحرش، بل حماية للضحايا من كل أشكاله المهينة، التي تترك أثرًا نفسيًّا سيئًا على المدى القريب والبعيد.
قد يهمك أيضًا: نعم تعني نعم: أسئلة الجنس والمتعة والأذى
يحارب المقال التطرف في توسيع مفهوم التحرش والاغتصاب، حتى لا يشمل تصرفات طبيعية وعادية ويجعل العملية الجنسية مستحيلة، فينتقل إلى التطرف في أن لا يشمل مفهوم التحرش والاغتصاب إلا المعنى التقليدي الصريح: يجب أن أُخطف وأُضرب ثم يولج فيّ المختطِف قضيبه حتى يُعتَبر هذا اغتصابًا، يجب أن يلمس أحدهم ثديي وأنا أسير في الشارع حتى يمكن اعتبار هذا تحرشًا، أما دون ذلك فأنتم تبالغون.
وفق تعريف الأمم المتحدة، التحرش الجنسي هو «أي تلميح جنسي غير مرحب به، وأي طلب جنسي أو سلوك لفظي أو جسدي، أو إيماءة ذات طابع جنسي، وأي سلوك آخر ذي طابع جنسي قد يتسبب في الإساءة إلى الشخص الآخر أو إذلاله أو المس بكرامته. أو عندما يكون هذا السلوك شرطًا للعمل، أو يخلق بيئة عدوانية وغير آمنة للشخص الآخر».
من البديهي أن على المتغزل أن يستشعر بوادر القبول قبل أن يبادر بأي إشارة جنسية، ومتى كان هناك رفض أو لم تكن هناك أي بوادر للموافقة، يشكِّل ذلك اعتداءً جنسيًّا غير مقبول.
ربما علينا أن نذكِّر بأن الحملة موجهة إلى ضحايا التحرش أيًّا كان جنسهم، فالاتهامات التي طالت الممثل الأمريكي «كيفن سبيسي» كانت من ضحايا ذكور، وكذلك ما اتُّهم به «جون ترافولتا» من تحرش بمدلكين ذكور، ففكرة أن الحملة تكرس دور الضحية للمرأة غير دقيقة.
هل تملك النساء إمكانية الشكوى فعلًا؟
استشهد المقال بحديث «مونيكا فروميل»، أستاذة الدراسات القانونية وعلم الجريمة في جامعة كيل الألمانية.
تقول فروميل إنه «منذ السبعينيات صار العنف ضد المرأة والتمييز الجنسي قضايا حيوية. الأطروحة القائلة إن الضحايا يسكتن بسبب الخوف والعار باتت تعود لخمسين عامًا مضت، ومنذ نحو 20 سنة تقريبًا لم تعد واقعية. منذ العام 1986 كان لدينا بالفعل جو عام يمكِّن النساء وكل ضحايا إساءة المعاملة من التعبير عن أنفسهن، ومن وقتها لم تمر فترة تشريعية دون مزيد من تطوير حقوق الضحايا. حين تصبح المرأة ضحية ينبغي عليها أن تصرِّح بذلك. لكن رجاءً، ليس من خلال مثل هذه الحملات وبعد عقود من الزمن».
هذا النوع من الحديث انفصال عن الواقع الذي تعيشه المرأة، كل امرأة، فقول فروميل بأن سكوت الضحايا بسبب الخوف والعار يعود إلى 50 عامًا هو حديث عن طبقة محددة من المجتمع ودوائر ضيقة، فماذا عن البيئات المحافظة؟ المجتمعات المغلقة؟ الطبقات غير المتعلمة وغير الواعية؟ ضحايا التحرش في العمل والخوف من التهديد الاقتصادي؟ وغير ذلك كثير.
قد يعجبك أيضًا: #أنا_أيضًا: وماذا بعد الاعتراف؟
الحديث عن التعرض لانتهاك جنسي يختلف من امرأة إلى أخرى، بحسب قوتها وقدرتها وخوفها والمحيطين بها وظروفها وشخصيتها. لسن جميعًا على نفس القدرة على المواجهة، مثلما حصل مع السيدات الخمسة اللاتي تحرش بهن لويس سي كيه، إذ أعلنت أربعة منهن أسماءهن، وفضلت الخامسة إخفاء هويتها.
والاستشهاد بقضية العاملة السوداء في الفندق، التي اتهمت المدير السابق لصندوق النقد الدولي بالتحرش بها، ليس معيارًا لأن تكون كل النساء قادرات على نفس المواجهة لاعتبارات مختلفة، وينطبق ذلك أيضًا على ضحايا التحرش من الذكور، خصوصًا أن اعتبار الذكور ضحايا انتهاك جنسي ينتقص من رجولتهم ويُشعرهم بعار شديد، فتكون قدرتهم على الشكوى أقل وتتفاوت بين ذكر وآخر.
يميل ضحايا التحرش إلى الصمت خوفًا، ولوم أنفسهم على ما تعرضوا له، وهذا ما قد يدفع كثيرين منهم إلى الصمت لفترات زمنية طويلة، قد يكسرها تشجيع من الآخرين مثلما حصل في حملة MeToo#.
وفي حين يستشهد كاتب المقال بالتجمع النسوي للسود في باريس الذي منعته عمدة المدينة، كدليل على أن «اليسار الليبرالي المناهض للعنصرية والتحيز الجنسي يعيد إنتاج ممارسات وجغرافيا الفصل العنصري والجنسي من جديد»، فلم يكن دليلًا دقيقًا، لأن التجمع كان عنصريًّا على أساس العِرق لا الجنس، والمصدر الذي استشهد المقال به أكد أن السود، ذكورًا وإناثًا، كانوا مرحبًا بهم دون البيض، وهذا كان سبب المنع والهجوم على التجمع.
في المقارنة بين قانوني «نعم تعني نعم» الأمريكي، و«لا تعني لا» الألماني، نجد أن كل قانون من القانونين يحل معضلة مختلفة عن الأخرى.
القانون الأول (المعني بالجامعات الأمريكية لِما يحدث فيها من اعتداءات جنسية تحت تأثير الكحول والمخدرات)، يغطي جانبًا من أشكال الاعتداءات التي قد لا يكون القبول فيها تحت إرادة كاملة، أما القانون الثاني فيفترض وجود الإرادة، أي عدم الوقوع تحت تأثير ما يمنع الرفض.
أختلف مع القول بأن القانون الأول لا يعتبر المرأة مؤهلة بما فيه الكفاية للرفض، لأنه في رأيي يعتبر الضحية (أيًّا كان جنسها) واقعة تحت تأثير سلطة معينة تؤثر في إرادتها، بحيث لا تتمكن من الرفض بشكل صريح.
مساحات آمنة، لا أماكن للعزل
يرى كاتب المقال في تكريس مفهوم المساحة الآمنة بدايةً لعزل النساء عن الرجال، وبالتالي سحب حقوق الوجود في المجال العام من النساء مرة أخرى، وربما لا يكون هذا دقيقًا. فالمساحة الآمنة، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، أحد أهدافها الأساسية «دفع النساء إلى الاختلاط بالمجتمع وإعادة بناء الشبكات الاجتماعية».
كذلك، سبب وجود هذه المساحات إزالة القيود على حرية التنقل للنساء، وأيضًا حظر التجول الذي تفرضه العائلات على بناتها خشية التعرض للعنف الجنسي والتحرش والاعتداء. وبحسب التقرير، فإنه «يجب أن لا تكون المساحة الآمنة وحدات معزولة، وإنما هي امتداد لحياة المجتمع بشكل عام، وللرجال والفتيان دور مهم في ضمان نجاح المساحات الآمنة».
المساحة الآمنة وضع استثنائي، لا يجب أن يكون طريقًا للفصل بين الجنسين بحجة الحماية من التحرش، وإلا لكانت التيارات اليمينية قد كسبت هذه المعركة وحققت ما تصبو إليه تحت ذريعة حماية النساء، فالمطلوب حماية ضحايا التحرش خلال وجودهم في المجال العام، لا منعهم من دخوله أصلًا.
إنه صيد ساحرات: فلتأتوا بشهود
كان لحملة #أنا_أيضًا في المنطقة العربية فائدة عظيمة في التفرقة بين الغزل والتحرش، ووضع الاثنان على طاولة النقاش في مجتمعات لا تتقبل مثل هذه النقاشات.
«عندما كنتُ في السابعة، أمسكني وودي آلن من يدي واقتادني إلى حجيرة غير مضاءة جيدًا في الطابق الثاني من منزلنا، وقال لي أن أستلقي على بطني وألعب بقطار أخي الكهربائي، واعتدى عليّ جنسيًّا. كان يحادثني وهو يفعل ما يفعل، يهمس في أذني أني فتاة صغيرة لطيفة، وأن هذا سر بيننا، ويعدني بأننا سنذهب إلى باريس، وأني سأكون نجمة سينمائية كبيرة».
هذا ما كتبته «ديلان فارو»، ابنة المخرج الأمريكي الشهير «وودي آلن» بالتبني، لصحيفة نيويورك تايمز، في حديثها حول اتهاماتها له باغتصابها حين كانت في السابعة من عمرها.
آلن، الذي اقتبس منه كاتب المقال، استخدم مصطلح «صيد الساحرات»، الذي يشير إلى أن حملة MeToo# مجرد هوس جماعي يأخذ بالمذنب والبريء، في ما يشبه ما حدث في مطلع العصور الحديثة في أوروبا، من اقتياد مجاميع من النساء والرجال إلى الحرق بعد محاكمات صورية بتهم السحر والشعوذة.
صار هذا التعبير يُستخدم حين تحدث حالات هياج جماهيري واتهامات بالجملة دون التثبُّت منها، لذا من الطبيعي أن يُطلق شخص مثل وودي آلن مثل هذه الصفة على حملة متعلقة بالتحرش، هو من أوائل من كشفتهم.
حين انتقلت الحملة إلى المنطقة العربية تحت الهاشتاغين «#أنا_أيضا» و«#أنا_كمان»، كانت أكثر وضوحًا، خصوصًا في بلدان تقل فيها حماية ضحايا التحرش عن الغرب، ويكثر فيها لوم الضحية ووصمها بالعار، فأثر تلك الحملات في مثل هذه البلدان كبير على رفع الوعي بقضايا التحرش وإزالة العار عن الضحية ولصقه بالفاعل.
ورغم أن كثيرين انزعجوا من الاتهامات العشوائية، بعضها كان مجرد غزل، أو بادرة قوبلت بالرفض فتراجع المبادر، فإن لذلك فائدة عظيمة في التفرقة بين الغزل والتحرش ووضع الاثنين على طاولة النقاش، في مجتمعات لا تتقبل مثل هذه النقاشات وتفكيك مفاهيمها.
قد يهمك أيضًا: عن الغزل: لأن أحدًا لا يحب أن يموت وحيدًا
لا أجد للختام أفضل من أنه «حتى لو كانت كل المعطيات صحيحة، فمن الممكن للحُجة أن تكون غير سليمة إذا كان المنطق المستخدَم غير سليم»، وتُسمى هذه الحالة بالمغالطات المنطقية، وهو ما اعتمد عليه الكيال في مقاله.
شيخة البهاويد