الخوف في خدمة النظام: كيف تستفيد الأنظمة من رهبة الشعوب؟
في مشهد من مسلسل «Mr. Robot»، تجلس «أنجيلا موس» المذعورة دائمًا مع صديقتها «دارلين». تنظر الأخيرة في عيني أنجيلا المليئتين بالذعر والخوف، ثم تبتسم وتعطيها حبة حمراء، وبمجرد أن تبتلعها الفتاة تشعر بالفرح والحرية، وتتشجع فتذهب إلى الشركة التي تعمل بها لتنسخ وثائق فساد وتبلغ الشرطة.
كان المشهد إشارة واضحة من طاقم المسلسل إلى ما يمكن أن يسببه إحساسنا بالخوف، وما يمكن أن تفعله الطبقة الوسطى المهنية الطموحة إذا تخلص أفرادها من شعورهم بالخوف، فهل ذهب المسلسل بعيدًا في تحليله لظاهرة الخوف، وتأثيرها على قراراتنا المتعلقة بمكافحة الفساد في الشركات، وثورتنا على النظم السياسية الظالمة؟
ترويض الخوف
يرى بعض العلماء أن جزءًا كبيرًا من الخوف الذي نعيشه غريزة بشرية وليس وليد النُّظم السياسية الحديثة، لكن أُسيء استغلاله وتوظيفه في خدمة الاستبداد، والإبقاء على أخلاقيات وعادات تؤدي دورًا سلبيًّا في حياة الأفراد والمجتمعات، فتجعلهم يقدسون عادات عتيقة تزيدهم بؤسًا، وينتخبون أفرادًا سلطويين وكاذبين.
قد يعجبك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في مجتمع فاشي
يرى بروفيسور العلوم الاجتماعية في كلية سكيدمور الأمريكية، «شيلدون سولومون»، أن الرعب الذي ينجُم عن وعي الإنسان بالموت يدفعه إلى احتضان القادة المستبدين، ويجعل كل جماعة متعصبةً لثقافتها الخاصة وعدائيةً حيال الثقافات الأخرى المختلفة عنها، ويسمي البروفيسور تلك العملية «نظرية إدارة الرعب».
تستمد نظرية إدارة الرعب، المعروفة اختصارا بـ«TMT» أفكارها من جهود عالم الأنثروبولوجي «إرنست بيكر» لشرح الأُسُس التحفيزية للسلوك البشري، وتحاول النظرية التنقيب عن جذور هذا الرعب في نفوسنا.
تمنح جميع الثقافات إحساسًا بالمعنى عن طريق وضع مخطط للسلوك المقبول على الأرض ووعد الناس بالخلود.
أبرز السمات المميزة للبشر، وفقًا لسولومون، هي «الوعي الذاتي بأننا أحياء». ورغم أن الوعي الذاتي يثير مشاعر جامحة من الرهبة والفرح، إلا أنه قد يؤدي إلى رعب كبير ينبع من إدراكنا أن الموت أمر لا مفر منه، ويمكن أن يحدث لأسباب يصعب التنبؤ بها أو التحكم فيها، وأن البشر مخلوقات مادية، مجرد قطع من اللحم تتنفس.
اقرأ أيضًا: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب؟
تمكَّن البشر من حل هذه المعضلة الوجودية عبر تطوير نظرة ثقافية عالمية عن الواقع، وبناء معتقدات يتشاركها الأفراد في الجماعة الواحدة.
تمنح جميع الثقافات، بحسب سولومون، إحساسًا بالمعنى عن طريق تقديم رواية عن أصل الكون، ووضع مخطط للسلوك المقبول على الأرض، ووعد الناس بالخلود، مثل ما تفعله كل الأديان المنظمة. يرى البروفيسور أن هذه العملية تعزز احترامنا للذات، وتجعل لممارسات الإنسان على الأرض معنًى وقيمةً، وتحقق التماسك الاجتماعي بين الناس الذين يتشاركون الثقافة الواحدة، لكنها من جهة أخرى تجعلهم عدائيين حيال المختلفين معهم.
نقاوِم بالرصد والمراقبة
يأتي دور النُّظم السياسية الحاكمة عندما يظهر الخوف من الموت إلى السطح، سواءً بعدم الإحساس بالأمان جرَّاء عمليات إرهابية أو عند التعرض لنزاع عسكري، ووقتها «يصبح الناس أكثر قابليةً لاحتضان الزعماء، الذين يوفرون الأمان النفسي عن طريق إشعار المواطنين بأن لهم قيمة في مهمة كبيرة للقضاء على الشر»، كما يقول شيلدون سولومون.
يذكِّرنا ذلك بما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر، عندما أعلن الحرب على «محور الشر»، الذي ضمَّ إيران وكوريا الشمالية والعراق. غير ذلك، تطلق إيران على الولايات المتحدة لقب «الشيطان الأكبر»، وتتكرر المفردات نفسها في خطابات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي يسمي الإرهابيين «أهل الشر»، وسبق أن طالب المصريين بأن يحاربوا أهل الشر بأنفسهم، ولا يعتمدوا فقط على الجيش والشرطة.
قد يهمك أيضًا: إنهم يخدعوننا: الإرهاب ليس خطيرًا كما نظن
يقدم «ريموند تاراس»، وهو عالم سياسي كندي، في كتابه «الخوف وصناعة السياسية الخارجية: أوروبا وما وراؤها»، رؤيةً لاستغلال الخوف سياسيًّا في أوروبا.
يرى تاراس أن الخوف يؤدي إلى احتياج الإنسان للانتماء إلى جماعة لها ثقافة خاصة تعطي لحياته معنًى. واستغلال هذا الاحتياج له وجهان مرتبطان ببعضهما، أحدهما إيجابي والآخر سلبي. فمن ناحية، يكون أداة لتحقيق التماسك الاجتماعي، ويُسهم في التعبئة السياسية، ومن جهة أخرى يُضمر تحته المخاوف الشخصية والقلق الفردي، فهناك قلق وجودي يتخلل الثقافات البشرية وينبع من هذا الاحتياج ذاته.
الخوف له وظيفة مهمة في بناء هوية الأفراد في المجتمعات الحديثة.
يشرح الرجل أن الانتماءات الاجتماعية تُعرَّف بأضدادها، فإذا كنت مسلمًا أو مسيحيًّا، أو كنت مؤمنًا بالليبرالية أو الشيوعية، فإن الإسلام لا يعرَّف إلا مقارنةً بسائر الأديان، وكذلك الليبرالية لا تعرَّف أكثر إلا بالمقارنة بالشيوعية.
وبحسب رؤية تاراس، فإن انتماءك إلى ثقافة اجتماعية معينة يأتي على حساب وجودك الفردي الذي يظل مهددًا بالإقصاء، فلو كنت شيوعيًّا في أمريكا خلال الحرب الباردة، أو سُنيًّا في قرية إيرانية شيعية، سيتم إقصاؤك، لذا تُسهم تلك الانتماءات في هشاشتك كفرد، وفي الوقت ذاته تَهِبُ حياتك القصيرة ووجودك الضعيف المحدود معنًى كعضو في جماعة.
يفسر ريموند تيراس حالة الرهبة من الأجانب بأنها محاولة لتجسيد هذه المخاوف المقموعة والمسكوت عنها، الخاصة بالأفراد في مرحلة ما قبل تكوين المجتمعات.
يختبر العالم الكندي تسييس الخوف، ويقدم وصفًا دقيقًا لروايات الشك وانعدام الثقة بين كل جماعة وأخرى: السنَّة والشيعة في إيران والعراق مثلًا، أو الإخوان والإسلام الوسطي في مصر، أو ألمانيا الشرقية والغربية تاريخيًّا، ويعتبر أن لهذا الخوف وظيفة مهمة في بناء هوية الأفراد في المجتمعات الحديثة. ففي النهاية، حافظ عداء الغرب الليبرالي للشيوعية على هويتهم، والإقصاء المتبادل بين كل جماعة وأخرى على تماسك وبناء هوية أفراد كل جماعة.
لكن، كيف نقاوم استغلال السياسيين لحالة الخوف؟
يرى سولومون أن أفضل علاج لهذه المشكلة هو مراقبة ورصد حالة الخوف في المجتمع، كسبيل لمقاومة جهود السياسيين، ومنع استثمار الخوف في القيام بعمليات تحريضية.
هل ينجح العلم في إيقاف الخوف؟
أجرى علماء أعصاب يابانيون من جامعات يوكوهاما وأوساكا وطوكيو محاولات طموحة للقضاء على الخوف من منبعه في الدماغ، عن طريق إيقاف حركات الخلايا العصبية، خصوصًا النواقل العصبية المسؤولة عن انفعالات الخوف وذكرياتها. نجحت التجربة على الفئران لفترة لا تتعدى يومًا واحدًا، واستعاد الفأر بعدها ذاكرة الخوف لديه، لكن العلماء رأوا في هذا النجاح البسيط أملًا يدفعهم للمواصلة.
وفي مارس 2017، اكتشف العلماء أنه يمكنهم أن يمحوا ذكريات الخوف مؤقتًا، بواسطة شَلِّ خلايا عصبية معينة عن طريق أجسام مضادة خفيفة وحساسة مصممة تقنيًّا، ويقول مراقبون إن هذه الأجسام سيكون لها دور في العلاج النفسي مستقبلًا.
عرف الباحثون اليابانيون أن التقنية الجديدة أكثر دقة من أساليب منع الناقلات العصبية، لأنها تتجنب الضرر طويل الأمد. وبناءً على ذلك، أنشؤوا أجسامًا مضادة وحقنوها في جزء من الدماغ يشارك في عملية التذكر، وبالتحديد «GluA1»، الناقل الذي يحمل معلومات الخوف. استطاعت تلك الأجسام إيقاف الناقل العصبي لأربعة وعشرين ساعة، بعدها تعلمت الخلايا العصبية تفاديها.
قد يعجبك أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
أم تفعل ذلك المخدرات؟
على صعيد مختلف، أجرى علماء تجربة طبية على امتداد 40 عامًا مع مخدر الهلوسة «LSD»، المعروف بـ«الآسيد»، وهي التجربة التي نقلتها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية تحت عنوان «هل يمكن للآسيد أن يمحو خوفنا من الموت؟».
خلال التجربة، أظهر المتطوعون الذين تعاطوا جرعات عالية من الآسيد انخفاضًا بنسبة 20% في الأعراض المرتبطة بالقلق الشديد. أحد المتطوعين قال إن الآسيد ساعده في التحرر من مشاعر الألم والذنب، وكذلك خلَّصه من الخوف من الموت.
دراسة أخرى نشرها علماء من جامعة بازل في سويسرا أظهرت أن الـ«LSD» يقلل من نشاط المنطقة المسؤولة عن المشاعر السلبية في المخ، مثل الخوف، ويمكن أن يفيد في علاج أمراض مثل الاكتئاب والقلق، ليس ذلك فقط، بل إنه يغير في التصوُّر والفِكر والخبرات الزمنية والعاطفية.
واستعرض فيلم وثائقي أنتجته قناة «ناشيونال جيوغرافيك» أثر هذا المخدر في حياة امرأة أصيبت بالسرطان، ونتج عن هذا تعرضها لاضطرابات ذهنية تصيب من يعرفون أن وفاتهم قريبة، لكنها بعد تجربة المخدر أبدت حيوية بالغة، واهتمت بأمور حياتية عدة، ثم ماتت في سلام.
اقرأ أيضًا: كيف أسهمت المخدرات في تطور البشرية؟
لكن الـ«LSD» ليس آمنًا تمامًا، ويمكن أن يمر متعاطيه برحلات روحية سيئة «Bad Trip» لها تبعات نفسية سيئة كذلك، وهو ما أبرزه الفيلم الوثائقي. على سبيل المثال، دفع التحرر من الخوف الناتج عن هذا المخدر بعض متعاطيه إلى الانتحار وممارسة الجريمة، وآخرون رفضوا التجنيد الإجباري خلال حرب الولايات المتحدة ضد فيتنام.
يظل السؤال مطروحًا: هل من المفيد للإنسانية التحرر من الخوف؟ هل يؤدي هذا التحرر إلى الثورة على النُّظم الفاسدة والانفتاح بصورة أكبر على تجارب الحياة؟
ربما يكون ذلك صحيحًا، وربما يكون للخوف دور لا غِنَى عنه في التماسك الاجتماعي، وإضفاء معنًى وقيمة على حياتنا. لكن في جميع الأحوال علينا مراقبة السُّلطة حتى لا تستغل الخوف ضد الشعوب، ولربما تمنحنا تجارب العلماء والرحلات الروحية التي يمر بها متعاطو الآسيد إجابةً في المستقبل القريب.
أحمد شهاب الدين