أحمد خالد توفيق: من المحيط إلى الخليج
أطلب من بعض محبي أحمد خالد توفيق وتلاميذه من دول عربية مختلفة أن يحكوا عن علاقتهم به، ثم لا أندهش حين أرى أغلبهم لم يلتقِهِ وجهًا لوجه. أقرأ القصص فتدمع عيناي، ليس لأنها «تحبس الأنفاس من فرط الإثارة»، بل لأن فيها شغف القُرب وحميميته، أحس كل واحد منهم يقصُّ «حكاية عمره».
أشرُد قليلًا. أفكر أن هذا المقال يكتبه «أبناء» أحمد خالد توفيق، وحقٌّ على مقال كهذا أن يبدأ حالًا ودون أي استطراد، لكن حقًّا عليه كذلك أن يظل مفتوحًا لغير هؤلاء ممن لديهم حكايات شخصية مع أحمد خالد توفيق.
ابعثوا إلينا بقصصكم، فلعل الحكايات لا تنفد، ولعل المقال يطول فلا ينتهي أبدًا.
فاروق الفرشيشي - تونس
كان أحمد خالد توفيق في ذهني رديفًا للقراءة، القراءة التي لا غرض منها سوى أن تصبح مبتهجًا.
حين كان عقد التسعينيات يشارف على نهايته، كنت في المرحلة الإعدادية، وكانت روايات «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل» تسلية على قدر من الرواج رغم شح المكتبات. لم تكن هناك مكتبات كثيرة في تونس تقدم لنا منتجات المؤسسة العربية الحديثة. وفي مرحلة ما، تحول الأمر إلى ما يشبه جمع التحف النادرة. كنا نكوِّن فرقًا وتحالفات، ونعقد صفقات تبادل ضخمة بكنوزنا الصغيرة، حتى نقرأ ما تيسر من «روايات مصرية للجيب».
أذكر جيدًا تلك اللحظة التي جاءني فيها صديق بقصة مختلفة، تحمل اسم كاتب غير نبيل فاروق. أذكر أني أبديت امتعاضًا، وتحفزت تجاه محاولة الاحتيال، بينما المسكين يقسم بأغلظ الأيمان أن القصة تستحق. قرأت ليلًا، كانت «أسطورة رعب المستنقعات»، ومنذ ذلك الوقت صارت سلسلة «ما وراء الطبيعة» هوسنا الأول. لم يكن متاحًا لنا ونحن في مدينة نائية في بلاد نائية أن نعثر على بقية القصص. مع ذلك، وجدنا «أسطورة اللهب الأزرق»، ثم «أسطورة الندَّاهة»، ثم «أسطورة وحش البحيرة».
اقرأ أيضًا: حمدي مصطفى.. «رجل المستحيل» في عالم الأدب
كان أحمد خالد توفيق في ذهني رديفًا للقراءة/المتعة، القراءة التي لا غرض منها سوى أن تصبح مبتهجًا. كنا نجمع المال بانتظار معرض الكتاب، وننسق أحيانًا لشراء أكبر قدر من الأعداد. في المعرض تعرفت إلى قُراء تونسيين آخرين، وقصص عشق طريفة، بعضهم كان يهدد بعدم إجراء امتحاناته الدراسية لو لم يحصل على الأعداد الجديدة. هناك، نصحني أحدهم بأن أجرب «عبير». لم يكن جيبي الصغير يسمح بأكثر من مطاردة السلاسل التي أعرفها بالفعل، لكني اشتريت «قصة لا تنتهي»، لأعود في السنة التالية متلهفًا لشراء أكبر قدر ممكن من سلسلة «فانتازيا».
استمرت علاقتي بروايات أحمد خالد توفيق سنويةً في معرض الكتاب، إلى أن جاء العام الذي توقفت فيه الأعداد الجديدة عن القدوم إلى تونس، وصارت قراءة القصص على الإنترنت إجبارية. واصلنا القراءة والمتابعة عبر الوسائط الرقمية، ولا أزال أذكر ليلة وداع «رفعت إسماعيل» بعد أشهر من صدور العددين في مصر. كان الأمر محبطًا فعلًا، ولم أحصل على النسخة الورقية منهما إلا بعد سنوات بفضل صديقة عزيزة.
مع الثورة الاتصالية، حظي أحمد خالد توفيق باهتمام أكبر من قُراء تونس. وبفضل النسخ الرقمية، باتت له شعبية لا بأس بها. أرى ذلك اليوم ونحن نستقبل الخبر الفاجع، يترحم الناس عليه، ويتحدثون عن تأثيره فيهم رغم زمن التعارف القصير.
تختلف قاعدة القُراء في تونس عنها في مصر، ولم تكن توجد «قراءة شعبية» قبل سنوات قليلة. كان الغالب على المشهد قُراء فرانكفونيون، قد يُقبلون على قصص المغامرات والإثارة لكن بلغة «موليير»، ثم قُراء آخرون تغلب عليهم الكلاسيكية التي يتعلمونها من أساتذتهم كهنة الأدب «الرسمي». لذلك لم يكن ممكنًا مع مشاكل النشر والتوزيع أن تحقق قصص مثل «ما وراء الطبيعة» و«فانتازيا» نجاحًا يذكر هنا، إلا إذا كان كاتبها أحمد خالد توفيق.
الأهم عندي اليوم أن يحظى الدكتور أحمد بالمكانة الأدبية التي يستحقها، وأن يُدرَس فنه بشكل أكاديمي جاد، لا لمصلحة الرجل الذي نسأل له الجنة، وإنما لمصلحة الأدب العربي الذي كرَّس له وقته، ولمصلحة المخيال العربي الذي فتح له «الدكتور» آفاقًا أرحب.
أشرف فقيه - السعودية
بين مواليد الثمانينيات والتسعينيات، ثَمَّة قطاع عريض من الشباب العربي لم يعرف «لافكرافت» و«إدغار آلان بو» و«ستيفن كينغ». لم يكن الجيل ليهتم بتاريخ الطب وفيزياء الأكوان الموازية، ولا ليكترث بدور أساطير الجدات في تشكيل الأديان والثقافات، لولا رجل واحد كتب كثيرًا وعلمهم كثيرًا: أحمد خالد توفيق.
بداية تعرفي إليه كانت عبر سلسلة «ما وراء الطبيعة». كنت في الثانوية وقتها، ولم أستوعب أن يكون هناك مؤلَّف عربي متخصص في أدب الرعب أخيرًا، لدرجة أني ظننت أني أقرأ قصة حقيقية، ما زاد من رعبي.
عوَّضني أحمد خالد توفيق عن بقية خطوط إنتاج المؤسسة العربية الحديثة، لأنه جاء بالخارج عن المألوف. هكذا أصَبت بالحمى، وصرت أنتظر أعماله بفارغ الصبر في المكتبات السعودية، التي وفَّرتها دائمًا. جاءت سلاسله الأخرى «سافاري» و«فانتازيا» فتعلقت بها. أَثرى حصيلتي اللغوية والفكرية، ووجهني نحو وجهات جديدة. أدين له بكثير، كما معظم قُراء جيلي.
هل نبالغ إذا قلنا إن تأثيره يقارب ذاك الذي كان ليوسف إدريس وإحسان عبد القدوس في زمانهما؟
كتابات الرجل كانت نسيجًا وحدها، وكثيرون عدُّوه مدرسة في الأسلوب والطرح. كان رائدًا لأدب الفانتازيا العربي، وإن كان في الأصل كاتب «ألغاز».
كان الدكتور ملك الواقعية الساخرة من نفسه ومن الحياة، التي لن تنتظر حتى تنطفئ النجوم وتشتعل البحار لتلطمك بقسوة.
رفع أحمد خالد توفيق الشباب إلى مستواه، عوضًا عن أن ينزل هو إلى مستوى السوق. ارتقى بموروث كتيبات الجيب العربي ونقله إلى خانة جديدة. انتشل الصناعة من فخ التنميط والتكرارية. أضاف عمقًا إلى فن كتابة المطبوعات الصغيرة التي يأخذها الفتية معهم إلى دورات المياه وتضعها الفتيات تحت وسائدهن.
الدمغة الأكبر التي تركها فينا كانت هدم «البطل المثالي». سأقول دون مبالغة إن أحمد خالد توفيق حبَّبنا في نقيض البطل (Anti-Hero)، وجعلنا نعتز بصلعة «رفعت إسماعيل» ودمامة «عبير عبد الرحمن» وتناقض «سالم» و«سلمى». لم يستخف بعقولنا ولا رسم لنا عوالم خداعة. واجهنا بحقيقة «اليوتوبيا» المريرة، وقرأ توابع الربيع قبل أن يحل.
كان ملك الواقعية الساخرة من نفسه ومن الحياة، التي لن تنتظر حتى تنطفئ النجوم وتشتعل البحار لتلطمك بقسوة. نبَّه علينا أن نستعد بأقراص النيتروجلسرين ونتحامل على ضعفنا الأصيل مستعينين بمزايانا الأصيلة. حذرنا من الاستسلام لغوايات قطار الأحلام، وأكد لنا أن طريق العلم طويل ومريع بقدر قائمة الأوبئة في حوض النيل. خلق مخيلات أجيال، وطعَّمها بتفاصيله البديعة، ثم أطلقها لتواجه الحياة. ارتدى بذلته الكحلية التي تجعله فاتنًا، وسبقنا إلى جانب النجوم الناصع. رحل، وأظنه رحل مبتسمًا.
كان على تواصل طيب مع كثيرين في السعودية. تواصلت معه بالإيميل لأنه ذكرني وأعمالي في أحد كتاباته عن الخيال العلمي، فسألني عن أخباري وعن «البزورة» كما نسمي الأطفال في السعودية، واندهش حين عرف أني أكتب في الخيال العلمي، وذكر أنه لم يدرِ أن السعوديين يهتمون بذلك النوع من الأدب. رحمه الله كان مفعمًا بالطيبة والذكاء.
أيًّا يكن رأيك، فلا شك أن الصدمة برحيله المفاجئ، والتأبين الحار على شبكات التواصل، وهذا الإحساس المرير بالفقد بين الشباب، يعني الكثير ويستحق التأمل طويلًا.
أحمد البخاري - ليبيا
في نهاية التسعينيات، كنت في كل زيارة لبيت جدتي بمنطقة السرّاج في العاصمة الليبية طرابلس أطلب من أمي 10 دنانير لشراء أعداد «رجل المستحيل» من مكتبة مجاورة. كانت العشرة دنانير تشتري لي ثلاثة أعداد من السلسلة، وكانت الثلاثة أعداد تنتهي كلها قبل أن نعود إلى المنزل أساسًا.
بعد فترة، فتحت مكتبة بسيطة بجوار بيت جدتي تحمل فكرة رائدة من نوعها: تأجير الروايات. كنت كمن اكتشف كنزًا، فقيمة إيجار العدد ليوم واحد 50 قرشًا فقط، لكن المفاجأة الأكبر أني وجدت روايات أخرى لكُتاب آخرين ليسوا «رجل المستحيل»، ووقتها اكتشفت «ما وراء الطبيعة» لأول مرة.
التفاصيل لا تزال واضحة في رأسي: كان أول عدد أؤجره «أسطورة الموتى الأحياء»، دخلت حجرة جدتي الموحشة والتهمت القصة، وداهمني الذهول في نهايتها للاختلاف الشديد في أسلوب الكاتب عما اعتدت قراءته. ومنذ تلك اللحظة بدأت علاقتي بكتابات الدكتور أحمد خالد توفيق.
كل شاب وفتاة في ليبيا له قصة مشابهة لاكتشاف كتابات أحمد خالد توفيق في مكتبة نائية أو كبيرة، بعدها أصبح أغلبنا زائرًا دائمًا لمكتبة «الفرجاني» الشهيرة في وسط البلد، التي كانت الأشهر والأكثر انتظامًا وسرعة في جلب أعداد «روايات مصرية للجيب» إلى ليبيا، رغم أنها كانت تستغرق أشهر من إصدار العدد في مصر.
في تلك المرحلة عرفنا الإنترنت، لذا كنا نعرف من أصدقائنا المصريين في منتدى «روايات» أن العدد الجديد نزل، لكننا كنا ندرك أننا لن نحصل عليه قبل أشهر، فكان عذابًا حقيقيًّا من الانتظار.
وككل بلد عربي، شكلت ليبيا مجتمعها الخاص بمساعدة الإنترنت. أذكر أول مرة التقيت فيها صديقي محمد أبو غرارة، وقتها طلبت منه أن ينتظرني أمام مكتبة الفرجاني وفي يده عدد من «ما وراء الطبيعة».
كنا أول اثنين يشكلان رابطة لمحبي روايات أحمد خالد توفيق، كبرت رويدًا رويدًا حتى صارت تضم الآن جيلًا من الكُتاب والمثقفين والمبدعين.
كان أحمد خالد توفيق «كلمة السر» التي تذكرها للناس لتعرف إن كان منهم من سيصبح صديقك لاحقًا.
أحد مميزات أحمد خالد توفيق أنه كان يولي اهتمامًا خاصًّا لقرائه ومعجبيه، ليس في مصر فقط، بل في كل المنطقة العربية. كنت أقرأ في بريد القراء الملحق برواياته رسائل من اليمن وعمان والمغرب وتونس، وفكرت: لماذا لا ألفت انتباهه إلى قراء ليبيا؟ وحين راسلته، وجدت اسمي يزين أحد الأعداد كـ«قارئ من ليبيا»، وبعدها وجدت عديدًا من أقراني الليبيين يراسلونه، وأغلبهم صاروا أصدقائي.
الحدث الأكبر بالنسبة لي كان في 2004، حين عرفت أن منتدى «روايات» ينظم نشاطًا في مكتبة الإسكندرية بحضور أحمد خالد توفيق. فقدت عقلي، لا بد أن أحضر هذا اللقاء بأي ثمن. كنت مراهقًا، والمسافة بين طرابلس والإسكندرية نحو 2000 كيلومتر، لكني لم أتراجع. ألححت على أبي حتى وافق على السفر معي، وأمضينا يومًا ونصف في حافلة نقلتنا برًّا، كل ذلك كي ألتقي «الدكتور» لأول مرة. بعدها صارت زيارة معرض القاهرة للكتاب للحصول على توقيعه عادة أحرص عليها كل عام.
لا أحد سيتهمني بالمبالغة لو قلت إن أحمد خالد توفيق كان أيقونة جيلنا، وفي ليبيا، كان «كلمة السر» التي تذكرها للناس لتعرف إن كان منهم من سيصبح صديقك لاحقًا.
دكتور أحمد، شكرًا لك على هذا العالَم الجميل الذي خلقته، شكرًا لك من جميع أبنائك القادمين من ليبيا، بلد «أسطورة حارس الكهف».
ديانا فؤاد - مصر
أجلس طويلًا أمام صورته، أتأمل الملامح الطيبة ولغة الجسد التي تشي بتواضع وتصالح مطلق مع النفس والكون. أنظر مباشرةً إلى عينيه الراضيتين، وأطلب من الله أن يرزقني رضا تلك العينين.
أعتقد أنني لو قررت وصف حزني على فقدان أبي الروحي الراحل الدكتور أحمد خالد توفيق، فلن تسعني الكلمات ولا الأوراق ولا المقالات.
تجربتي معه بدأت تحديدًا عندما كنت في التاسعة من عمري. وجدت أبي العزيز الذي كان حريصًا على دخول المنزل بمجموعة من القصص المتنوعة، قد أحضر قصة جديدة اسمها «أسطورة النداهة». تعجبت يومها من الاسم، فشرح والدي أن النداهة إحدى الأساطير الشعبية في الريف المصري، ولم يقل أكثر من ذلك طالبًا مني قراءة القصة كنوع من التجديد.
لم أنكر أنني شعرت يومها بالضجر، فأنا أحب قراءة «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل» أو الكوميكس، فقررت قراءتها على مضض.
استرعى الاسم انتباهي: «أسطورة». سألت أبي عن معنى الكلمة، فأخبرني بأنها قصة خيالية.
بدأت القراءة، فاستولت الأحداث الشيقة على كامل انتباهي، وشعرت ببعض الخوف من تلك المخلوقة الخرافية التي تسحر الناس، ثم تخطفهم. وصلت إلى يقين أنه يوجد حقًّا ما يُعرف بالنداهة، لأفاجأ بانقلاب تدريجي في الأحداث، وأجدها امرأة متنكرة تؤدي دورها ببراعة لغرض إجرامي.
بعد أن انتهيت من قراءة القصة بدأت أدرك بعض الحقائق:
- النداهة أسطورة كما وصفها الكاتب الكريم، أي أنها غير حقيقية
- النداهة أسطورة، أي لا داعي للخوف، فلا يوجد حقًّا ما يخيف
- الخوف أسطورة، أو عادة يصنعها البشر ليسيطروا على بعضهم
- الإنسان يستطيع أن يقهر الأسطورة والخوف، كما فعل البطل رفعت إسماعيل
- الإنسان عمومًا قادر على قهر الخوف وأساطيره، فقط يجب أن يثق في نفسه، وعقله، وعقيدته، وبما يؤمن
بعدها تحولت على مدار 23 سنة إلى مدمنة لكل ما يكتب أحمد خالد توفيق، أصبحت أنتظر العدد الجديد من «ما وراء الطبيعة» على أحر من الجمر حتى أعرف أي أسطورة من أساطير الخوف سنقهرها هذا الشهر.
وأنا طفلة كنت أخشى الظلام، وبذل أبي وأمى مجهودًا رهيبًا لإقناعي بأنه لا يوجد شيء يخيف، دون فائدة.
بعد قراءتي أساطير أحمد خالد توفيق تعلمت أن الظلام لا يخيف، إنما الخوف من الظلام هو أسطورتي الخاصة، وأنا الوحيدة القادرة على التغلب عليها وقهرها.
أحمد خالد توفيق عَلَّم جيلًا كاملًا كيف يقهر أساطير خوفه، وكيف أنه إذا آمن الإنسان بفكره ووثق في نفسه فلن تقهره أو تخيفه أي أسطورة. لقد علَّمنا ألا نرتعب من البطش والطغيان والظلم، أن مختلف أنواع الخوف ما هي إلا أساطير نستطيع كسرها وتحطيمها، فقط إذا آمنَّا بأنفسنا ووثقنا في قدراتنا.
لم يسعدني الحظ يومًا بمقابلة أبي الروحي وجهًا لوجه، إلا أن رؤيته كانت من أعز أمنياتي. كانت لدي ثقة ساذجة في الزمن، إلا أنه خذلني كما خذل جميع محبيه، فاتخذت قراري بأن أجعل كتاباته أول طريق ثقافة ابني، وبادرت بنقل جميع نسخي من سلاسله ورواياته من مكتبتي إلى مكتبته، عسى أن تنير كتاباته طريق ابني كما أنارت طريقي.
سلامًا أبديًّا على روحك يا سيدي ومعلمي، عسى أن تلتقي أرواحنا يومًا ما في عالم أفضل، أستطيع فيه أن أراك وجهًا لوجه لأعبِّر لك عن جزيل شكري.
سمية محمد - فلسطين
حين تواصلت مع أحمد خالد توفيق لأول مرة ورد عليَّ، كدت أفقد وعيي من الفرحة، كنت مصممة على زيارة مصر لربما يتسنى لي لقاءه، لكن الموت كان أسرع.
أذكر جيدًا ذلك اليوم، يوم رمقت أخي الأكبر بنظرة شريرة: «كيف تسمح لك روحك أن تحضر لي قصة لها علاقة بمصاصي الدماء؟». كنا في أواخر التسعينيات، ووقتها قرأت القصة وتشجعت، سألت أخي: «هل هناك قصص أخرى لنفس المؤلف؟»، وصرت أتشارك ليس فقط «مغامرات رفعت» مع أخي، بل كل سلاسل الدكتور أحمد خالد توفيق.
لكن حين نحكي عن الحصول على الكتيبات في فلسطين، أفكر: أي فلسطين بالضبط؟ فلسطين الضفة أم فلسطين غزة، أم فلسطين الأرض المحتلة؟
في غزة، بدأت معاناتي في الحصول على الروايات منذ 2004، وزادت عن حدها في 2007. كان وصول القصص معاناة، كنا نحصل عليها «بطلوع الروح». الكتيب الذي يصدر في معرض القاهرة للكتاب في يناير، تكون معجزة لو رأيناه في فلسطين نفس العام، وكلما زاد الحصار زادت معاناتنا، وهناك روايات لم أرها منذ 2008.
كنت أتصرف، أطلب الروايات من أحد معارفي القادمين من مصر مثلًا، أو يشحنها لي الأصدقاء من هناك بالبريد.
انغمست في عوالم أحمد خالد توفيق، أحببت أجواء «سافاري»، وعرفت أمراضًا جديدة لم أكن لأسمع بها. كنت أحسبني «عبير» أخرى أخوض مغامراتها. لكن تبقى للعجوز «رفعت إسماعيل» المحبة الأولى في أعماقي.
تأثر أسلوبي في الكتابة بما أقرأ، صرت أتقمص أسلوب الدكتور الساخر، الذي انعكس في كتابة مذكراتي، وصولًا إلى كتابة خاطرة منسية في زاوية مكتبي لم يطَّلع عليها أحد. وحتى في كتابات التعبير والإنشاء رأيت الأثر واضحًا.
حين تواصلت مع أحمد خالد توفيق لأول مرة ورد عليَّ، كدت أفقد وعيي من الفرحة: «الدكتور أحمد رد عليَّ»، وكنت مصممة وقتها على زيارة مصر لربما يتسنى لي لقاءه. تمنيت اللقاء، لكن الموت كان أسرع.
كان أبًا روحيًّا بالنسبة لي، و«تربيت ع إيده». كنت لأركل نفسي لو أني لم أقرأ له. كان إنسانًا نبيلًا، لم يكن منافقًا أبدًا. ربما فقدناه، لكننا لم نفقد ثمرات ما زالت تشق طريقها، تتلمذت على يديه، وتحاول جاهدة أن تترك لها أثرًا ويكون لها أسلوبها.
عصام إزيمي - المغرب
في مدينتي الصغيرة جنوب أغادير المغربية، وفي خضم بحثي المحموم عن روايات جديدة وأنا بعد لم أتجاوز 10 أعوام، وجدت كُتيبًا على غلافه «بومة حمراء العينين» وتحتها جملة «ما وراء الطبيعة».
اشتريت الكتيب والتهمت صفحاته بنهم منتظرًا تطاير اللكمات على غرار «رجل المستحيل»، أو تناثر الألغاز على شاكلة «المغامرون الخمسة»، إلا إنني فوجئت ببطل عجوز نحيل أصلع اسمه رفعت إسماعيل، ولديه أمراض الدنيا. بعد بضعة كتيبات أخرى، كان ارتباطي برفعت، والمؤلف أحمد خالد توفيق بالتبعية، يكاد يصبح مَرَضيًّا. يا له من عالم ساحر غريب، وياله من أسلوب سلس وساخر وممتع ومعلم بذكاء.
كان الناس يبحثون عن كتب سمينة في معرض الدار البيضاء للكتاب، وكنا نبحث عن غنيمتنا من أعداد «ما وراء الطبيعة» كمن يبحث عن الذهب وسط الطين.
كانت الثقافة الأدبية والعلمية تتدفق عبر الصفحات ممتزجةً بالأحداث بشكل متناغم. كنت وصديقي كريم ننتظر وصول أي عدد كان إلى المغرب، بغض النظر عن ترتيبه في السلسلة. نقرأ العدد معًا صفحة بصفحة، لأننا تقاسمنا ثمن القصة ولا أحد منا يطيق الصبر ريثما ينهيها الآخر. كنت، بطيش الطفولة، أبدأ قراءة القصص التي اشتريتها وحيدًا وأنا فوق دراجتي في طريق العودة. كان غباءً، لكنه غباء ممتع مثقف.
ثم جاءت سلسلتا «سافاري» و«فنتازيا» كي تتمما الإدمان، وتنقلاننا إلى عوالم جديدة.
معاناة القراء المغاربة لإيجاد الأعداد كانت أسطورية، ففي حين كان الناس يبحثون عن كتب سمينة ذات أغلفة صلبة في معرض الدار البيضاء للكتاب، كنا نبحث عن غنيمتنا من كتيبات «الدكتور» كمن يبحث عن الذهب وسط الطين.
في تلك الأثناء، كنا نتابع بعين الانبهار تطور علاقة أحمد خالد توفيق بالأصدقاء المصريين على أرض الواقع. عرفنا الكثير عن تواضعه وإنسانيته، وكنا نقرأ خواطر أصدقائنا عن لقاءاتهم به بنفس نهم قراءة رواياته. ننبهر باهتمامه بهذا، ومراجعته للمحاولات الأدبية للآخر، وكيف حضر مناسبة شخصية لذاك، وكيف اهتم بالحالة الطبية لغيره، وكيف لم يتكبر قط على قارئ، أو يحبط قط مشروع كاتب.
ثم كبرنا وكبرت همومنا، وكبرت هموم أوطاننا. لكن أحمد خالد توفيق بقي أحد المراجع الموثوقة التي نتابع عن طريقها الشأن المصري بعد ثورة يناير، عبر مقالاته المتزنة ومواقفه المتناسقة مع مبادئ لا تتزعزع، بعد أن سقطت أقنعة كثيرة.
من الصعب أن يتصور أحد أن رجلا في الخامسة والثلاثين، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من مصر، قد جلس وحيدًا في غرفته ليلًا بعينين مغرورقتين بالدموع، يرثي شخصًا لم يقابله قط، لكنه قابل روحه عبر كلماته وسطوره.
عزيزة العذوبي - سلطنة عُمان
الدكتور أحمد خالد توفيق..
رفعت إسماعيل..
عبير عبد الرحمن..
علاء عبد العظيم..
لم تكن مجرد أسماء مرت مرور الكرام على مراحل حياتي المتعاقبة منذ الطفولة حتى الشباب، بل رموز شغفتُ بها وأقراني في عمان. كنا نتراكض خروجًا من المدرسة باتجاه مكتبة الحي على أمل الحصول على الأعداد الجديدة.
ما زلت أذكر المرة الأولى لي مع أدب الدكتور أحمد خالد توفيق. كنت حينها قد بدأت أفك رموز اللغة العربية في مرحلة دراستي الابتدائية، حين شدتني رسوم غلاف سلاسل «ما وراء الطبيعة» و«فانتازيا» و«سافاري»، التي كان إخوتي الأكبر مني سنًّا يتهافتون على اقتنائها متى توفرت نسخها في مكتبة الحي أو مكتبة العائلة.
أذكر أني لم أكن في سن تسمح لي بفهم جميع ما كُتب وسُرد من أحداث، لكن ذلك لم يمنعني من سؤال من يكبرني عن فحواها.
تعاقبت السنون وأصبحتُ وأقراني في العائلة والمدرسة، ومن بعدها الجامعة، ننهل مما جادت به قريحة «الدكتور».
خلال مرحلتي الجامعية، انضممت إلى منتدى «روايات»، وهناك تعرفت إلى أحمد خالد توفيق بشكل أكبر، وكانت سعادتي لا تناهزها سعادة عندما كان يعلق على مداخلاتي في الموقع. وعن طريق المنتدى أيضًا، عرفت عديدًا من عشاق الدكتور من بلدي ومن جامعتي. التقينا وتناقشنا وانبهرنا معًا برواياته ومقالاته ومجموعاته القصصية.
في عام 2008، كانت زيارتي الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وللأسف وصلت المعرض بعد انتهاء حفل توقيع رواية «يوتوبيا»، ولم يسعفني الحظ بلقاء الدكتور في ذلك العام، ولا الذي تلاه، ولا حتى الذي بعدهما، لكني لم أتنازل حتى تمكنت من محادثته هاتفيًّا، وكانت لحظات جميلة عرفتني إلى خصال الدكتور أحمد الإنسان.
رحلتي وأقراني مع أدبه لم تتوقف، وكنا وأيضًا جيل الشباب في عُمان نبحث عن جديد الدكتور في الأكشاك والمكتبات ودور النشر المشاركة في معرض مسقط الدولي للكتاب خلال السنوات التي تلت زيارتي لمصر.
خبر وفاة أحمد خالد توفيق، الأب الروحي لأدب الشباب في الوطن العربي، كان له وقع الصدمة عليَّ، وأسأل الله أن يرحمه ويغفر له ذنبه ويسكنه فسيح جناته.
عبد الوهاب الرفاعي - الكويت
كانت بداياتي كقارئ لكتابات أحمد خالد توفيق امتدادًا لقراءة نبيل فاروق أطال الله عمره. كنت متابعًا جيدًا لـ«روايات مصرية للجيب» وأنتظر جديدها دومًا، ففوجئت بولادة سلسلة جديدة اسمها «ما وراء الطبيعة» عام 1993.
اشتريت العدد الأول مباشرةً خلال إحدى زياراتي للكويت في فترة العطلة الدراسية، إذ كنت أدرس الهندسة الكيميائية في الولايات المتحدة الأمريكية.
قرأت الرواية في الطائرة بعد انتهاء العطلة، أنهيتها في ساعة واحدة فقط، غصت خلالها في أحداثها ونسيت كل ما يتعلق بالطيران، لأحرص بعدها دومًا على اقتناء كل ما يكتبه الدكتور أحمد، بل وكنت أتواصل مع والدي باستمرار وأطلب منه إرسال أي كتابات جديدة للدكتور.
أخبرني الدكتور برد مباشر سريع أن أقتبس ما شئت من كتاباته، ثم أكمل مازحًا: «ابعث لي كتابك لأقرأه وأخبرك برأيي، إشمعنى إنتو بس اللي تنتقدوا كتاباتي؟».
نعم، لاقينا صعوبة في العثور على جميع إصداراته في الكويت، لكني كنت أبذل قصارى جهدي للحصول على كتبه، بل وطلبت من أحد الأصدقاء المصريين في الكويت ذات مرة أن يحضر لي إصداراته، فخاطب الصديق مشكورًا أقاربه في مصر لإرسال كل ما ينقصني.
كان أحمد خالد توفيق السبب الأول وراء كل ما حققته في حياتي الأدبية، وما زلت أعيش صدمة وفاة «أعظم أديب عرفته». كان المحرك الأساسي لي، وكان دومًا بين سطور كلماتي ومؤلفاتي.
لن أنسى أبدًا حين قررت كتابة أول رواية عام 2003، وحينذاك راسلت الدكتور وطلبت منه بخجل أن يسمح لي باقتباس عبارات من كتاباته لإنتاجي الأدبي الأول، فأخبرني برد مباشر سريع أن أقتبس ما شئت، ثم أكمل مازحًا: «ابعث لي كتابك في ما بعد لأقرأه وأخبرك برأيي. إشمعنى إنتو بس اللي تنتقدوا كتاباتي؟». أخبرني الرجل كذلك أنه من الطبيعي جدًّا أن أتأثر في بداياتي بكاتب أحبه، ثم سأتخذ خطًّا خاصًّا بي بمرور الأيام، وهكذا خرج كتابي «الأبعاد المجهولة» إلى النور.
التقيته لأول مرة وجلست معه إلى طاولة واحدة في ندوة عن أدب الرعب عام 2014 بمعرض الكويت الدولي للكتاب. لم أصدق أني أجلس جنبًا إلى جنب مع الرجل الذي طالما عشقت كلماته ووجدت أجزاء مني في كل قصة كتبها. صداقتنا انطلقت في ذلك اليوم، وقابلته بعدها في أكثر من مناسبة. كنت أردد لنفسي باستمرار أنني سأسافر إلى مصر يومًا لقضاء بعض الوقت معه بعيدًا عن زحمة العمل، لكن هذا لم يحدث مع الأسف.
المؤلم ليس رحيل الدكتور أحمد فحسب، بل حقيقة أنني لم أمنحه ما يستحق قبل وفاته، لكني أعزي نفسي بوجود أعماله في أهم ركن في مكتبتي، لذا هو ما يزال حيًّا في قلبي وقلوب محبيه، فالأبطال يموتون ونتذكرهم، أما الأساطير فخالدة لا تموت.
أرسل إلينا قصتك الخاصة مع أحمد خالد توفيق على إيميل contact@manshoor.com.
يحيى