روايات مصرية للجيب: حمدي مصطفى.. «رجل المستحيل» في عالم الأدب

أعداد من روايات رجل المستحيل - الصورة: rewayatmasreya

أندرو محسن
نشر في 2017/04/04

تخيَّل أنك شاب توَدُّ أن تجرب القراءة، وتسمع دومًا أن الرواية هي الخيار الأبسط والأسهل والأكثر جاذبية، فتذهب إلى المكتبة ولا تجد إلا روايات طه حسين ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، بالإضافة إلى أعمال قليلة لعدة كُتَّاب آخرين، وعدد أقل من الأعمال المترجمة.

الرواية السيئة ربما تعني أن تعيد التفكير في اختياراتك، أما الرواية صعبة اللغة والتناول فقد تؤجل قراءتك التالية إلى فترة طويلة.

منذ ما يزيد قليلًا على ثلاثين عامًا كان هذا هو الوضع بالفعل، إما تبدأ القراءة مع «الحرافيش» أو تبقى مع مجلات «ميكي» و«سمير». 

هذه المسافة بين ميكي والحرافيش لم يكن هناك ما يملؤها، باستثناء محاولات الراحل محمود سالم مع سلستي «المغامرون الخمسة» و«الشياطين الـ13»، إلى أن قرر صاحب دار نشر اسمها «المؤسسة العربية الحديثة» أن يغامر بإصدار سلاسل أدبية موجهة إلى الشباب، دون أن يدري أن ما هو مُقدم عليه سيكون أحد أهم المشروعات الأدبية في تاريخ العالم العربي.

حمدي مصطفى: الرهان على ما لا يكسب

الناشر حمدي مصطفى مع الكاتب خالد الصفتي
الناشر حمدي مصطفى (يمين) والكاتب خالد الصفتي (يسار) - الصورة: rewayatmasreya

رغم رحيله منذ وقت قريب في سبتمبر 2011، إلا أنه من النادر أن نعثر على لقاء صحفي أو تليفزيوني أو حتى صورة لمؤسس «المؤسسة العربية الحديثة»،  وربما في هذا ما يزيد من الهالة المرتسمة حوله.

أنشأ مصطفى مؤسسته للنشر والتوزيع في عام 1960، وظلَّت لفترة طويلة تهتم بنشر كتب تقدم المناهج المدرسية بشكل أوضح وأمثلة أكثر، وعلى رأسها سلسلة «سلاح التلميذ».

كان حمدي مصطفى يعرف جيدًا كيف يخاطب جمهوره.

في عام 1984، قرر الاتجاه إلى منطقة أخرى هي الأدب. لم تكن صناعة النشر رائجة في المنطقة، وكان معدل القراءة في الدول العربية ربع صفحة للفرد سنويًّا، وهو معدل شديد الضآلة مقارنةً بالدول الأخرى، لهذا فدخول هذه الصناعة فيه رهان كبير على أمر غير مضمون المكسب، وكان هذا هو رهان حمدي مصطفى الأول.

قد يعجبك أيضًا: لغة العصر في مأزق: هل تنتهي هيمنة الإنجليزية على العلوم؟

كانت هناك هُوَّة آنذاك في الأدب الموجه إلى الشباب، ولسبب ما رأى الراحل حمدي مصطفى أن هذه المنطقة تحديدًا هي ما عليه أن يغامر فيه، فإما أن ينجح ويقدم نموذجًا مختلفًا في الأدب العربي على غرار التجارب المشابهة في الأدب الغربي، مثل روايات «أجاثا كريستي» البوليسية وغيرها، أو يفشل المشروع وتكتفي المؤسسة بإصدار الكتب الدراسية.

لكن القراءة المتأنية للشكل الذي ظهرت به روايات وسلاسل المؤسسة تشي بأن الرجل كان يعرف جيدًا كيف يخاطب جمهوره.

روايات مصرية للجيب: النجاح قبل عصر التسويق

أعداد من سلسلة سماش لخالد الصفتي
أعداد سلسلة «سماش» - الصورة: خالد الصفتي

كان لدى حمدي مصطفى أفكار كثيرة للتغلب على نقص إمكانيات التسويق، والبداية كانت من الشباب.

البداية كانت بإعلانٍ عن مسابقة لاختيار كُتَّاب. أراد حمدي مصطفى كُتَّابًا جُددًا من أجل تجربة جديدة، ولم يلجأ إلى أسماء موجودة من قبل ونجاحها مضمون.

وقع الاختيار في البداية على شريف شوقي الذي كتب سلسلة «المكتب رقم 19»، ثم الدكتور «نبيل فاروق» الذي بدأ السلسلتين الأشهر لاحقًا، «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل»، وهكذا أمكن الإعلان عن ميلاد مشروع القرن الثقافي كما أطلقوا عليه: «روايات مصرية للجيب».

نحن في نهاية عام 1984 وبداية عام 1985، ولم يكن هناك إنترنت أو صفحات رسمية للكُتَّاب والسلاسل، لم تكن هناك إعلانات مبتكرة على التليفزيون، لم تكن هناك مكتبات أنيقة كالموجودة حاليًا، وكانت الدعاية تحدث في الصحف عادةً، والكتب نفسها توجد لدى باعة الجرائد، وربما يتذكر البعض مظهر الأعداد الجديدة معلقةً على حبل بشكل واضح لدى الباعة للإعلان عن صدورها.

كان لدى صاحب المشروع أفكار أخرى كثيرة للتغلب على نقص إمكانيات التسويق. عرف الرجل الجمهور الذي يتوجه إليه جيدًا، الشباب، الذي عادةً ما يكون متمردًا ويبحث عن الاختلاف، ولهذا حاول أن يساير هذا الاختلاف بكل الطرق، ويمشي معه حتى النهاية.

تعاقد حمدي مصطفى مع الرسام المصري الراحل إسماعيل دياب لرسم أغلفة الروايات، وهكذا ظهرت تلك الأغلفة الملونة الجذابة، وبدأت الشخصيات تتحول من مجرد حروف على ورق إلى ملامح، يعرفها متابعو السلاسل ويحفظونها جيدًا.

استمر البحث عن الاختلاف، فكانت فكرة «الجيب» التي صاحبت اسم «روايات مصرية» حتى عام 2015، أن تتحول الروايات ذات القَطْع الكبير التقليدي إلى روايات «محمولة» إن جاز التعبير، خفيفة الحجم بحيث يمكن اصطحابها في أي مكان، وهو ما أسهَم بالتأكيد في انتشار الروايات بشكل كبير.

ثم كانت الغزارة في الإنتاج مع السلاسل الثلاثة الأولى ولعدة سنوات، فاستمر النشر بمعدل رواية جديدة شهريًّا من كل سلسلة. التنوع هو أحد أهم قواعد التسويق، فهو يأسر القارئ ويجعله يتورط مع الأحداث الجذابة لهذه السلاسل وينتظر المزيد.

يُضاف إلى ما سبق السعر المناسب الذي كانت تُطرح به الكتيبات، فكانت البداية بأقل من جنيه واحد للكتاب، ولم يزد سعرها حتى 2015 عن خمس جنيهات مصرية، بينما كان متوسط أسعار الروايات الأخرى نحو 30 جنيهًا.

كانت لدى حمدي مصطفى تلك الذائقة التي لا تتوافر لدى كثيرين في اختيار كُتَّاب جدد ينمو بهم ومعهم المشروع،  وهكذا ظهر خالد الصفتي، الذي أضاف سلسلتي المنوعات «فلاش» ثم «سماش»، وبعده انضم الدكتور أحمد خالد توفيق بأولى سلاسله «ما وراء الطبيعة»، وتلاهما كثيرون.

تنوُّع لا يتكرر.. تجربة لا تُستنسَخ

إصدارات روايات مصرية في معرض القاهرة الدولي 2017
إصدارات المؤسسة في معرض القاهرة للكتاب 2017 - الصورة: rewayatmasreya

كانت روايات المؤسسة ملهمة لدور نشر أخرى، وبسببها خرجت سلاسل مثل «صرخة الرعب».

لا شك أن معظم الناشرين يتمنون أن يملكوا التنوع نفسه الذي توفَّر في مشروع «روايات مصرية للجيب»، فكاتب واحد أو سلسلة واحدة ممَّا تصدره المؤسسة ربما تكون أقصى طموح أي دار نشر.

في عالم المغامرات البوليسية كان «رجل المستحيل» و«المكتب رقم 19»، وفي الخيال العلمي «ملف المستقبل»، وفي أدب الرعب، الذي لم يكن قد أصبح «موضة» مثلما هو الحال الآن، كانت «ما وراء الطبيعة»، بجانب سلسلة الكوميكس والمنوعات «فلاش» في عصر يسبق انتشار مصطلح «كوميكس».

اقرأ أيضًا: تجربة الكوميكس العربية من سمير وسندباد إلى السمندل وتوك توك

حتى في مجال الترجمة ظهرت سلسلة «روايات عالمية للجيب»، التي تهتم بترجمة أعمال أدبية مهمة من كل دول العالم وتلخيصها بشكل لا يُخِلُّ بها، بينما كانت حركة الترجمة وقتها غير نشطة بالقدر الكافي. هذا إلى جانب عديد من السلاسل الأخرى التي كانت تزداد وتنتشر عامًا بعد الآخر.

بالطبع كانت هذه الروايات والسلاسل ملهمة لدور نشر أخرى، وهكذا ظهرت سلاسل مثل «الفرقة الانتحارية» و«صرخة الرعب» تحاول أن تكرر النجاح نفسه، ولكن أيًّا منها لم ينجح في الاستمرار على الإطلاق، ربما لأن الاهتمام الأكبر كان بتقليد الشكل الذي ظهرت به السلاسل السابقة دون تقديم جديد، وهو ما أدى إلى ابتعاد القراء ورجوعهم إلى المنتَج الأصلي.

قراءة ممتعة.. قراءة مفيدة

لقاء مع نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق

لإدراك ما قدمه هذا المشروع الثوري في عالم الأدب، ربما علينا أن نتذكر ما كان يحدث مع صدور كل عدد جديد، خصوصًا في الفترة التي ظهرت فيها تحولات كبيرة في سلسلتي «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل»، فـكان من الممكن، ولا مبالغة هنا، أن تقابل بعض الشباب يتناقشون في مصير «منى توفيق» إحدى أبطال السلسلة الأولى، وهل ستموت فعلًا أم سيتمكن «أدهم صبري» من إنقاذها.

هذا الحوار كان يمكن أن تسمعه في عدة أماكن، كما كان تبادل الكتيبات بين الأصدقاء من العادات الأصيلة.

قد يعجبك أيضًا: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟

يعرف قراء «ملف المستقبل» الأشعة الهولوجرامية، بينما لم يسمع آخرون بهذا المصطلح أصلًا.

لم تكن هذه هي البصمة الأهم، لأن روايات الجيب فتحت شهية جيل كامل على القراءة والمزيد من القراءة. لم تكن مجرد مرحلة يتوقف بعدها المرء عن الاطِّلاع، بل كأنما هي جسر إلى عالم أكبر. بشكل مباشر، كان هذا يحدث لأن القراءة عملية يصعب الانتهاء أو الشبع منها، وبطريق غير مباشر، بالهوامش المعلوماتية التي زينت صفحات الكثير من السلاسل.

كانت أعداد «ملف المستقبل» تضم كثيرًا من المعلومات العلمية، وعن طريق «رفعت إسماعيل»، بطل روايات «ما وراء الطبيعة»، تعرفنا على «كافكا» و«إدغار آلان بو» وغيرهما،  بشكل عابر أحيانًا ومكثف في أوقات أخرى، بالإضافة إلى باب شبه ثابت في سلسلة «فلاش» بعنوان «العظماء»، يروي سِيَر أهم الشخصيات العالمية، سياسية وعلمية.

قال أحمد خالد توفيق ذات مرة إن قراء «ملف المستقبل» يعرفون الأشعة الهولوجرامية، بينما لم يسمع آخرون بهذا المصطلح من الأساس. وفي أحد كتيبات «رجل المستحيل» القديمة، يتحدث نبيل فاروق في الهامش عن الهاتف المحمول ويعرِّفه ويذكر أنه لم يدخل بعد إلى مصر، أي أن المعرفة كانت دائمًا حاضرة بجانب المتعة.

هذا التأثير لم يكن مقصورًا على مصر وحدها، بل امتد إلى الدول العربية كلها حيث كانت توزَّع الروايات. ومع بداية عصر الإنترنت ظهر منتدى «شبكة روايات التفاعلية» الثقافي ليجمع عشاق روايات الجيب من أنحاء الدول العربية، بشكل ربما لم يحظَ به أيٌّ من الكُتَّاب أو المشروعات الثقافية من قبل.

لم تعد للجيب.. لا تزال للجميع

جناح المؤسسة العربية الحديثة
جناح «المؤسسة العربية الحديثة» في معرض القاهرة للكتاب 2017 - الصورة: rewayatmasreya

الجيل السابق لم يكن لديه بدائل أخرى سوى هذه السلاسل لذا وجد فيها ضالته.

رحل حمدي مصطفى قبل أن يتم مشروعه عامه الثلاثين بسنوات قليلة، ولكن الأثر الذي تركته الروايات على جيل كامل يصعب محوه، إلى الدرجة التي دفعت بعض عشاق سلسلة «ما وراء الطبيعة» إلى إقامة حفل تأبين لشخصية «رفعت إسماعيل» على فيسبوك بعد وفاته، والأثر نفسه امتد إلى متابعي سلسلة «رجل المستحيل»، وإن كان كثيرون يتذكرون الآن القوى الخارقة التي كانت لدى «أدهم صبري» بطل السلسلة وينتقدونها بشكل ساخر، إلا أن هذه السخرية تعني أنهم تابعوا السلسلة بالفعل.

توقفت الكثير من السلاسل الرئيسية في المشروع، واختفت كلمة «للجيب» من العنوان لتصبح «روايات مصرية» فقط، مع السعي لمواكبة التطور الحالي في تصميم الأغلفة وشكل الكتب، ولهذا بدأت الروايات تظهر في قَطْع أكبر من المعتاد سابقًا، وكأنها تؤرخ لنهاية جيل وبداية آخر.

لم تُحدث السلاسل الجديدة الزخم نفسه الذي أحدثته الأولى، وربما يعود هذا إلى اختلاف الأجيال، فالجيل السابق لم تكن لديه بدائل غير سلاسل المؤسسة العربية الحديثة، أما حاليًا فهناك الكثير من الروايات التي تهتم بالشباب، بالإضافة إلى نُمُوِّ حركة الترجمة.

يؤثر النشر الإلكتروني وعمليات القرصنة كذلك على الكتاب المطبوع. ورغم إنشاء موقع إلكتروني للروايات، نُشرت عليه بعض الأعداد القديمة من السلاسل بالفعل، إلا أن الموقع توقف لاحقًا لأسباب غير معلنة.

قد يهمك أيضًا: نُبوءَة «نهاية الكتاب المطبوع» تفضح خوفنا من التغيير

على الرغم من عدم وجود أرقام مؤكدة لمعدلات التوزيع، إلا أنه يمكن القول بالتأكيد إن «روايات مصرية للجيب» باعت ملايين النسخ، وإلى الآن يظل الإقبال كثيفًا على مطبوعات حمدي مصطفى، فعند مرورك بجانب مقر «المؤسسة العربية الحديثة» في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ستشعر أن هناك مظاهرة بالداخل.

مواضيع مشابهة