مرض أم اختيار: جدال لا ينتهي حول الإدمان
يسود في الأوساط الطبية اعتقاد بأن الإدمان مرض عضوي، ويعتبر المعهد الوطني لتعاطي المخدرات في أمريكا أن الإدمان مرض مزمن، وأن المريض يتعاطى لا إراديًّا رغم إدراكه العواقب الوخيمة.
السبب الرئيسي في اعتبار الإدمان مرضًا، كما يرى الباحثون في المعهد، أن تعاطي المخدرات يغيِّر طبيعة المخ وكيميائه بشكل جذري، فيكون التعاطي قهريًّا خارجًا عن سيطرة المريض، ويتغير سلوكه بالكامل، ولا يتمكن أصلًا من تغييره ولو على المدى الطويل.
تناولت مجلة «Scientific American» الأمريكية مسألة الإدمان في مقال تحمل فكرته الأساسية تساؤلًا: هل ينبغي التعامل مع الإدمان بوصفه مرضًا عضويًّا، أم اختيارًا حرًّا، لكنه سيئ؟
الإدمان مرض: رأي يحتمل الخطأ
إذا كان الإدمان مرضًا، فهذا يعني أنه لا يمكن لوم المدمن بأي شكل، ما قد يساعد في إزالة الوصمة عن المدمنين، وفتح الباب أمام توفير سبل علاج أفضل، وضخ مزيد من الأموال في مجالات البحث العلمي عن علاجات متطورة للإدمان، وفهمه باعتباره ظاهرة طبية مرضية.
من المبشر أن يتغير التعامل مع مفهوم الإدمان، وأن يبتعد الرأي العلمي عن اعتباره سقطة أخلاقية واختيارًا من المدمن. فطبقًا للفهم الجديد، يكون لدى المدمن استعداد جيني مسبق، وقابلية لتعاطي المواد المخدرة.
رغم المميزات التي يحملها ذلك التصور الجديد للإدمان، فلا يمكن إغفال أن اعتباره مرضًا ينطوي على قدر كبير من التشاؤم. صحيح أن الإدمان يُحدِث تغييرات في كيمياء المخ، غير أنه ليس معديًا أو مستعصيًا على العلاج، وفق كاتبة المقال.
عبر الملاحظات اليومية يمكننا استنتاج أنه لا يصبح كل من يتعاطى المخدرات مدمنًا، وأن كثيرًا من المدمنين يتغلبون على الإدمان حتى بعد وقوعهم في براثنه، وإن تفاوتوا بالطبع في قوة مواجهتهم لرغبة العودة إلى المواد المخدرة، فبعضهم يتوقف دفعة واحدة، بينما يحتاج بعضهم الآخر إلى محاولات عدة، ويختار آخرون تعاطي المواد المخدرة بصورة معتدلة دون الإقلاع التام ودون السقوط في فخ الجرعات الزائدة، وإن مثلت الفئة الأخيرة أقلية بين الفئات الأخرى.
هناك أدلة علمية تشير إلى أن كثيرًا من المدمنين يتعافون دون حاجة إلى مساعدة طبية، ما يوهن الحجة القائلة بأنه مرض.
قد يهمك أيضًا: هل الإدمان مرض؟
يمكن الكف عن التعاطي دون مساعدة طبية
يتغلب معظم المدخنين والأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة على إدمان النيكوتين أو الأطعمة السريعة دون أي مساعدة طبية.
في عام 1974 أنهت عالمة الاجتماع «لي روبينز» دراسة موسعة شملت جنودًا أمريكيين عائدين من فيتنام كانوا قد أدمنوا الهيروين.
أرادت لي أن تعرف كم من بين هؤلاء الجنود نجح في الإقلاع عن الهيروين، وكم منهم استمر في إدمانه بعد عودته. اكتشفت أن معدل التعافي كان عاليًا بصورة فاجأتها، فقد استمر نحو 7% فقط من الجنود في إدمان الهيروين بعد العودة إلى الوطن، وانتكس من 1 إلى 2% فقط وعادوا إلى إدمانه، في الوقت الذي توقفت الغالبية العظمى من الجنود عن تعاطي الهيروين دون مساعدة بمجرد زوال الظروف التي كانت تدفعهم إليه.
وفي 1970 أجرى علماء النفس في جامعة سايمون فريزر الكندية تجربة شهيرة، إذ حقنوا فئرانًا محبوسة بصورة انفرادية بجرعات متزايدة، وأحيانًا قاتلة، من المورفين. وعندما أدخل الباحثون إلى تلك الفئران أزواجًا مغايرة لجنسها، وأعطوها بدائل للمورفين، توقفت الفئران بشكل مفاجئ عن التعاطي.
وفي 1982 قدم عالم الاجتماع في جامعة كولومبيا «ستانلي شاكتر» أدلة على أن معظم المدخنين ومن يعانون السمنة المفرطة يتغلبون على إدمان النيكوتين والأطعمة السريعة دون أي مساعدة أو تدخل طبي.
رغم أن تلك الدراسات واجهت هجومًا، فإن مزيدًا من الأدلة الحديثة باتت تعزز ما أفضت إليه من نتائج.
الإدمان عادة.. يمكن تعلم الإقلاع عنها؟
ترتبط عملية الإقلاع عن المخدرات بنظرة الإنسان إلى نفسه والبيئة من حوله.
في كتابه «The Biology Of Desire» يرى «مارك لويس»، عالم الأعصاب الأمريكي والمدمن السابق، أن الإدمان «شيء طبيعي بشكل غامض»، ويعرض ما أسماه «نموذج التعلم الخاص بالإدمان»، ويعقد مقارنة بينه وبين الرأي الذي يرى الإدمان اختيارًا، وذلك الذي يرى الإدمان مرضًا من ناحية أخرى.
يُقر لويس بأن الإدمان يغير من طبيعة المخ، ولكنه يُرجع ذلك إلى مرونة الأعصاب واستجابتها لعملية التعلم والاعتياد، التي يعززها وجود مكافآت مغرية.
عن طريق مراجعة عدد من دراسات الحالات، يقترح لويس أن معظم المدمنين لم يروا أنفسهم مرضى، وأن من تغلبوا على الإدمان لم يتحدثوا عن الإدمان باعتباره مرضًا أو إحساسًا بالعجز، واعتبروا التعافي مرتبطًا برحلة من التمكين وإعادة صياغة الحياة.
يمكن القول بطريقة أخرى إنه ينبغي على المدمنين أن يصلوا إلى معرفة بأنفسهم أولًا كي يفهموا حالة الإدمان التي وصلوا إليها، ثم يجدوا شكلًا آخر لحياتهم المستقبلية.
وعليه، فإن التعافي من الإدمان، مثله مثل أي عملية تَعلُّم، يُحدِث تغييرًا في «وصلات» المخ إذا جاز التعبير، ما يعني أن عملية الإقلاع عن المواد المخدرة ترتبط بنظرة الإنسان إلى نفسه والبيئة من حوله، وأن هذه العملية تتضمن بالتالي علاجًا نفسيًّا لو لزم الأمر، لا مجرد عقاقير مضادة لتأثير المواد المخدرة.
اقرأ أيضًا: المخدرات عوضًا عن أدوية الاكتئاب
هل الإدمان سوء اختيار؟
في كتابه «Addiction: A Disorder of Choice»، يوضح عالم النفس في جامعة هارفارد «جين هايمين» أن الإدمان، وإن لم يكن مرضًا، فهو اعتلال إرادة يصاب به المدمن.
يقدم هايمين أدلة قوية تعضد رأيه، فيقول إن نحو 10% فقط ممن يتعاطون المخدرات ينتهي بهم الحال إلى إدمانها، وإن نحو 15% فقط ممن يتناولون المشروبات الكحولية بانتظام يطوِّرون عادات إدمانية، فضلًا عن أن نحو 80% من المدمنين يتعافون وحدهم لدى بلوغهم الثلاثين استجابة لمتطلبات الحياة في تلك السن، مثل الرغبة في الاحتفاظ بوظيفة أو رعاية طفل، فهي مسؤوليات تتعارض مع تعاطي المخدرات، وتوفر حافزًا قويًّا للكف عن التعاطي.
قد تبدو أدلة هايمين مخالفة لما نعتقده، فهناك أدلة تشير إلى أن المدمنين ينتكسون، حسبما تقول كاتبة المقال، لكن معظم الدراسات التي تتناول تجارب المدمنين تدرس حالات خاضعة بالفعل للعلاج، ما يشوه العينة موضع الدراسة، وبخاصة أن معظم المدمنين لا يلجؤون إلى العلاج من الأصل، أما من يتلقون العلاج فيمثلون القلة التي فشلت في التغلب على الإدمان دون مساعدة.
الواضح أن المدمن الذي يستطيع الاستفادة من البدائل المتاحة يفعل ذلك بنجاح، فخيار الإقلاع موجود وإن لم يكن سهلًا، وهذا ما يقترحه نموذج التعلم الذي وضعه مارك لويس في كتابه، فالمدمن هو الشخص الوحيد الذي يستطيع اتخاذ قرار تغيير حياته.
من ناحية أخرى، فإن القول بأن الإدمان ينطوي في جزء منه على اختيار واعٍ لا يعني أن أي مدمن ضعيف النفس، ولا يعني كذلك أن التغلب على الإدمان مسألة سهلة، بل على العكس تمامًا، فالشفاء منه أمر بالغ الصعوبة، وقد يستمر عدة سنوات، وربما يفشل بعض المدمنين في الشفاء منه بشكل كامل إلى الأبد.
لكن على ما يبدو، فإن البدائل المتاحة أمام المدمن هي التي تحدد بشكل كبير فرصته في التخلص من الإدمان، لأن وجود بدائل حقيقية أمر حتمي للمساعدة على الكف عن التعاطي، لكن غيابها يمثل مشكلة حقيقية، فكثير من المدمنين يعانون من مشكلات أخرى إلى جانب الإدمان، ما يضاعف من معاناتهم، فقد ينتمون إلى أقلية ما، أو إلى طبقة فقيرة، أو يعانون من سوء المعاملة.
بالتالي، لو كان الاختيار متاحًا من حيث المبدأ، فإن وجود خيارات حقيقية صالحة أمر يتحدد بوجود عوامل خارج سيطرتهم، ما يعني أنه لا يمكن تحميلهم المسؤولية كاملة.
هذا الاستنتاج مهم لأنه متى وُجِدَت مساحة الاختيار وُجِدَت المسؤولية، وهي وحدها التي تبرر توجيه اللوم إلى المدمن، وما يستتبع ذلك من من ضرر وصمة العار التي تلتصق به، وما لها من تأثير سلبي في العلاج والتمويل لأبحاث الإدمان.
نحو فهم أوسع للإدمان تنقسم فيه المسؤولية
تقدم «هانا بيكارد»، الفيلسوفة وطبيبة الصحة النفسية، بديلًا يحل معضلة الاختيار بين النموذج الطبي الذي يعفي المدمن من اللوم على حساب تحمله المسؤولية، ونموذج الاختيار الذي يُحمِّل المدمن وزر اختيار الإدمان بما يحمله من خزي ووصمة للمدمن. ترى هانا أن كلا النموذجين يلقي بالمسؤولية بعيدًا عنا، وبذلك يكون الإدمان إما خطأ المدمن وإما مرضًا.
إذا كنا جادين، فينبغي أن ندرس محددات الاختيار ونعالجها، ونتحمل مسؤولياتنا كمجتمع تجاه العوامل التي تؤدي إلى معاناة هؤلاء الأشخاص، وتحد من الاختيارات المتاحة أمامهم. ولكي نفعل ذلك علينا أن نميز بين المسؤولية واللوم، فيمكننا أن نُحمِّل المدمن مسؤولية اختياره دون أن نلومه، فنُظهِر له التعاطف مع محنته ونعامله باحترام واهتمام، وهو أمر مطلوب ليكون العلاج أكثر فعالية، وفق الكاتبة. بل يمكن فك الارتباط بين اللوم والمسؤولية إذا ما أدركنا أن المسؤولية تتعلق بمن يختار، أما اللوم، فيرتبط باختيارنا لرد الفعل الذي نواجه بها مشكلة الإدمان.
جدية مشكلة الإدمان ومعاناة المدمنين ومَن حولهم تتطلب أن نتأمل الأدلة والمعلومات المتاحة، وما تقود إليه في مسألتي المسؤولية والاختيار من طرف كلٍّ من المدمن والمجتمع. يمكننا أن نسمي الإدمان مرضًا، وبخاصة أن مفهوم المرض ليس معرَّفًا بشكل واضح، لكننا إذا ما أردنا بوصفه مرضًا أن نَقصر جوانبه كلها على تغيير طبيعة المخ الكيميائية بشكل يحرم المدمن من الاختيار، فهناك أدلة جديدة تشكك في ذلك الرأي.
لن نستطيع فهم الإدمان إذا قصرناه على ما يُحدثه من تغييرات في المخ وفقدان السيطرة، بل ينبغي أن نفهمه من خلال السياق الأوسع للحياة والمجتمع، الأمر الذي قد يُرغم بعضهم على الوقوع في اختيارات سيئة، ومن خلال فهم المجتمع كمجال أوسع، يدفع أفراده نحو طرق، ثم يعاقبهم عليها، دون أن يوفِّر لهم طرقًا أخرى بديلة.
دينا ظافر