قراصنة الكرملين: حروب روسيا الافتراضية ترهب العالم
تقتصر معرفة نسبة كبيرة من مستخدمي الإنترنت على فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتمبلر ويوتيوب، فهذه المواقع هي الأشهر والأكثر استخدامًا، وقد يهيأ للبعض أن هذا الفضاء الإلكتروني الواسع مجرد وسيلة للبحث عن شيء ما عبر متصفح جوجل، وإرسال حفنة من الرسائل الإلكترونية، والترفيه عن النفس، لكن ما خفي أعظم.
يُعَد الفضاء الإلكتروني أرضًا لمعارك لا تتوقف، ويعج بالمجرمين وعملاء الحكومات، والعسكريين الذين يفتشون عن نقاط ضعف يكشفها لهم الإنترنت عند الشركات والمؤسسات القومية وحتى الأفراد. ويأتي كثير من أخطر المحتالين والمحاربين الافتراضيين من بلد واحدة، روسيا، ويتعقب مقال منشور على موقع «The Conversation» مصادر هذا الخطر، الذي يتدخل منذ وقت طويل في شؤون البلاد الأخرى مستغلًا مهاراته الإلكترونية الفائقة.
سرق الروس كمية مهولة من البيانات على مدى العقود الماضية، وتحكموا في ملايين من أجهزة الكمبيوتر، وجمعوا مليارات الدورلات. تمكن المخترقون الروس من التحكم في الكهرباء في أوكرنيا وإغلاقها، وتدخلوا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بتضليل العامة وتسريب معلومات سرية، فكانت لهم اليد العليا في نشر الرسائل الإلكترونية الخاصة بهيلاري كلينتون، منافسة دونالد ترامب في الانتخابات، مما أثر بالسلب على حملتها الانتخابية.
من هؤلاء القراصنة الذين يسعون فسادًا في الفضاء الإلكتروني؟ كيف امتلكوا هذه المهارات الاستثنائية؟ ما غايتهم؟
روسيا تخترق الأجهزة الأمريكية
يعود خطر الاختراقات الروسية إلى عام 1980 على أقل تقدير، حين تمكن مدير الأنظمة في مختبر «لورنس بيركلي» الوطني في الولايات المتحدة، «كليفورد ستول»، من اكتشاف اختراق أجهزة الكمبيوتر في المختبر بينما يتفحص خطأ حسابيًّا في الأنظمة.
سعى المُخترق حينها خلف الأسرار العسكرية، وحصل على الوثائق التي تحتوي على كلمات بارزة مثل «نووي».
وصف ستول التحقيقات الأمريكية في كتابه «The Cuckoo's Egg»، وشرح كيف توصلت أمريكا إلى المخترق الألماني الذي باع البيانات المسروقة إلى الاتحاد السوفييتي السابق.
سلطت محاولات اختراق روسيا الأجهزة الحكومية الأمريكية الضوء على الجرائم الروسية الإلكترونية المدمرة عبر الإنترنت.
اقترب مكتب التحقيقات الفيدرالي في هذه الآونة من القبض على «فلاديمير ليفين»، وهو مبرمج الإلكتروني يعيش في إحدى المدن الروسية، وحاول التسلل إلى حسابات «سيتي بنك» وسرقة ما يزيد على 10 ملايين دولار أمريكي.
اخترق الروس في تلك الفترة مواقع إلكترونية أمريكية في أثناء نشوب النزاع المسلح في كوسوفو، الذي حاولت فيه الجماعة المسماة «جيش تحرير كوسوفو» نيل الاستقلال عبر النضال المسلح.
تسلط هذه الوقائع الضوء على بروز روسيا في جرائم الإنترنت، وتنفيذها هجمات إلكترونية مكثفة ومدمرة في العالم الافتراضي.
قد يهمك أيضًا: الهجمات الإلكترونية من العالم الافتراضي إلى الواقع
الحرب الافتراضية على أوكرانيا
استعان الروس في 2015 بتقنيات متقدمة لشن هجوم على شبكة الكهرباء الأوكرانية الرئيسية وإضعاف قدرتها.
خططت روسيا لأكثر الهجمات الإلكترونية تطورًا في السنوات الأخيرة، ومن ضمنها اختراق ثلاث شركات أوكرانية محلية لتوزيع الكهرباء، ما تسبب في قطع التيار عن نحو ربع مليون مواطن. أعلن محللو الأمن الإلكتروني أن هذه الهجمة الممنهجة لن يقدر على تنفيذها سوى مصدر منظم للغاية وتتوافر لديه موارد كثيرة، ومن ثَمَّ اتهمت أوكرانيا روسيا بالضلوع في هذه الهجمة.
استعان المبرمجون بتقنيات متنوعة وطوَّعوها لملاءمة المواقع التي يستهدفونها: أرسل الروس رسائل إلكترونية من مصادر موثوقة لحث المتلقي على الإفصاح عن بيانات مهمة، مما يتيح لهم دخولًا مبدئيًّا إلى الأنظمة، وجاء تخزين البرمجيات الخبيثة المعروفة باسم «Black Energy» كخطوة ثانية لتمكنهم من التحكم في أنظمة التشغيل عن بعد، واعتمدوا هذه البرمجيات ليتاح لها التحرك بسهولة من خلال الشبكات.
صمم الروس برامج خبيثة خصيصًا لتعطيل أجهزة التحكم في الأنظمة المستهدفة، وسرقوا نظام التحكم في بيانات غلق التيار في المحطات الكهربائية، ومسحوا السجل الرئيسي الذي يحتوي على بيانات الأجهزة المخترَقة، حتى أنهم أوقفوا المخزون الاحتياطي، وورَّطوا مركز خدمة العملاء الخاص بالشركات في آلاف المكالمات الغاضبة من المواطنين.
لم ينتهِ هجوم الروس على أوكرانيا عند هذا الحد، بل عادوا من جديد في 2015 واستعانوا بتقنيات أكثر تقدمًا لشن هجوم على شبكة الكهرباء الرئيسية لإضعاف قدرتها. ونفذت روسيا هجمات مماثلة تستهدف شركات الطاقة الأمريكية، خصوصًا تلك المسؤولة عن تشغيل محطات الطاقة النووية.
اقرأ أيضًا: إدوارد سنودن: خصوصية الإنترنت التي حولت جاسوس أمريكا إلى لاجئ في روسيا
السر يكمن في المعرفة
تملك روسيا كثيرًا من المبرمجين المحترفين، ويرجع ذلك إلى تركيز النظام التعليمي على تكنولوجيا المعلومات وعلوم الكمبيوتر بشكل أكثر كثافةً مما يقدمه التعليم الأمريكي.
ترتبط فرق المبرمجين الروس في الجيش والمخابرات العامة بالاختراقات الإلكترونية المهمة، ويشمل ذلك اختراق الانتخابات الأمريكية.
تحتل الجامعات الروسية مراكز متقدمة في مسابقة البرمجة الدولية، ففي عام 2016 فازت جامعة سانت بطرسبرغ بالمركز الأول للمرة الخامسة على التوالي، وضمنت أربع جامعات أخرى ترتيبًا ضمن الـ12 الأوائل. وتكرر الأمر نفسه في 2017، عندما حازت جامعة «ITMO» الروسية المركز الأول، وتمكنت جامعتان أخريان من البقاء ضمن المراكز الـ12 الأولى، في حين حصلت أفضل جامعة أمريكية على المركز الثالث عشر.
تابع وزير الدفاع الروسي أداء الطلبة الروس المشاركين في هذه المسابقة، نظرًا لرغبة روسيا في إنشاء قطاع مختص بالعالم الافتراضي داخل صفوف الجيش، وهذا ما يؤكده تصريحه في أثناء اجتماع عام مع مديري الجامعة، قال فيه: «يجب علينا العمل مع هؤلاء الشباب بطريقة ما، لأننا نحتاجهم، وبشدة».
تعين روسيا المبرمجين ضمن الجيش والمخابرات العامة، ومن المرجح ارتباط بعض الفرق المتسببة في الاختراقات الإلكترونية المهمة بالاستخبارات الروسية العسكرية والهيئات التابعة لها، مثل الجماعات التي شاركت في مئات الهجمات الإلكترونية خلال العشر سنوات الماضية، ويشمل ذلك اختراق الانتخابات الأمريكية.
تنتقي روسيا النابغين في مجال الكمبيوتر منذ دراستهم في الكليات، وتختار من مجرمي الإنترنت المقبوض عليهم عن طريق قطاعات مكافحة جرائم الإنترنت والمحافظة على الأمن الإلكتروني، فتعفو عنهم بشرط تعاونهم مع الحكومة وابتعادهم عن الأهداف الروسية.
يشرح خبير الأمن الرقمي «ديمتري ألبيروفيتش» الكيفية التي تتعامل بها روسيا مع مجرمي الإنترنت، إذ تختار أكثرهم موهبةً وتُسقط أي قضية جنائية موجهة إليه، ثم تضمه إلى الاستخبارات الروسية. ألبيروفيتش أعلن سابقًا أن القرصان الشهير «إفغيني بوغاتشيف» يعمل تحت أنظار روسيا وطبقًا لأوامرها، وهو المطلوب القبض عليه من وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتبلغ مكافأة الإبلاغ عنه ثلاثة ملايين دولار.
تعاونت الحكومة الروسية مع وسائل الإعلام المحلية للترويج لما تفعله، فلم تكتفِ بمهارات أمهر عقول العالم الافتراضي التي ضمتها إلى مؤسساتها، بل لجأت إلى مبرمجين آخرين للمشاركة في تطوير أدوات إلكترونية خاصة بالاستخبارات الروسية، واختراق الأنظمة الحاسوبية وقواعد البيانات لدعم الأمن الروسي.
قد يهمك أيضًا: تجربة عملية تفضح مدى هشاشتنا أمام قراصنة الإنترنت
لا يتوقف هذا الخطر الإلكتروني على روسيا، فقد بدأت دول أخرى في تمثيل خطر مثل الصين وكوريا الشمالية وإيران. لا تجدي إجراءات الحماية الالكترونية نفعًا مع هؤلاء القراصنة، فهل ستجد الدول التي تتعرض للهجوم مخرجًا من هذا المأزق وتنشئ حوائط صد لا سبيل لاختراقها، أم ستعلن هي الأخرى الحرب الإلكترونية في العالم الافتراضي لتحد من الخطر الروسي، والتهديدات الناشئة من الدول الأخرى؟
ندى حنان