الخبز والهراوة: حنين الروس المربك للاتحاد السوفييتي
بعد مرور أكثر من ربع قرن على انهياره الرسمي في عام 1991، لا يزال الاتحاد السوفييتي موضع حنين لدى كثير من المواطنين الروس. فالدولة القوية (الشمولية) والإمبراطورية الكبيرة (الإمبريالية) التي شكلت العالم خلال صراعها مع القطب الإمبريالي المنافس: الولايات المتحدة، لما يزيد عن نصف قرن، ما زالت تداعب أذهان كثيرين داخل، وربما خارج، مركز الإمبراطورية المُنهارة: روسيا.
عاصمة قوية لدولة عظمى نجحت في تحطيم أكبر مشروع إبادة في التاريخ الحديث، أي النازية، مستويات أمانٍ اجتماعي ورعاية صحية مكفولة نظريًّا ومستقرة عمليًّا، وشعب يحمل آمال الإنسانية في التقدم. هكذا يدافع، بصورة تأسيسية، هؤلاء من يشعرون بخيبة الأمل نتيجة انهيار ذلك المشروع الضخم الذي غير، دون شك، مجرى التاريخ البشري.
أردنا الحرية، وليس السرقة
«ثرثارو المطابخ كانوا يركضون إلى المظاهرات والاجتماعات. تنشَّقوا نسمات الحرية، في حين كان الأذكياء يتقاسمون في ما بينهم النفط والغاز» - من كتاب «زمن مستعمل: نهاية الإنسان الأحمر».
في 19 أغسطس 1991، احتشد المواطنون الروس في شوارع موسكو، وأمام مبنى البرلمان، للوقوف ضد محاولة الانقلاب التي نفذها مجموعة من جنرالات الاتحاد السوفييتي، تحت مسمى «لجنة الدولة لحالة الطوارئ» بقيادة «سيرغي أخرومييف»، وزير الدفاع السابق، للإطاحة برئيس الاتحاد «ميخائيل غورباتشوف» كمحاولة أخيرة للإبقاء على الاتحاد وحماية «الكتلة الاشتراكية» من الانهيار.
حتى ذلك الوقت، كان هناك اتفاق بين روسيا ومجموعة الجمهوريات المكوِّنة للاتحاد، تحت رعاية غورباتشوف، على إنشاء حكم فيدرالي غير مركزي، بدلًا من الحكم المركزي التاريخي للاتحاد السوفييتي. كان قادة الانقلاب يرون اتفاق الحكم الفيدرالي إعلانَ نهاية الاتحاد، لكن تحركات المعارضة «الديمقراطية» المناهضة لـ«الشيوعيين»، بقيادة الرئيس الروسي «بوريس يلتسين»، ضد محاولة الانقلاب، تمكنت من الانتصار خلال ثلاثة أيام، واعتُقِل أعضاء اللجنة التي انتحر قائدها أخرومييف قبل اعتقاله.
مع انهيار العملة في الأعوام التالية لتفكك الاتحاد، تحول المجتمع إلى آلة وحشية للبحث الشغوف عن الربح، بالتزامن مع ازدهار المافيا.
اليوم، يرى كثير من المواطنين الروس الذين كانوا مؤيدين ليلتسين وإنهاء الاتحاد، أنهم تعرضوا للخداع والتحايل على مطالبهم التي واجهوا لأجلها دبابات انقلاب أغسطس: الطُغمة السوفييتية الحاكمة جاء مكانها أقلية من رجال الأعمال الشباب (أوليغاركية)، قادت الخصخصة في عملية كثيرًا ما تُوصف بأنها أحد أكبر عمليات السرقة في التاريخ: القاعدة الصناعية الضخمة ومصادر الطاقة والمعادن الوفيرة لجمهورية روسيا، استولوا عليها وحوَّلوا أرباحها إلى جيوب المستثمرين الذين بدأوا صغارًا جدًّا في تجارة الملابس الداخلية وسراويل الجينز، وتحولوا خلال سنوات قليلة إلى أباطرة، باستخدام عمليات ضخمة لغسيل الأموال وشراء الولاء بالرشاوى أو الاغتيالات.
مليارات الدولارات استولى عليها هؤلاء من قطاعات الاقتصاد الروسي المختلفة، وحتى من المساعدات الخارجية، في وقت خسر فيه الملايين وظائفهم، وانهارت شبكة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية. تعرضت روسيا لبرنامج «علاج» قاسٍ عن طريق «الصدمة»، قاده «أناتولي شوبايس»، مدير مكتب يلتسين، ما أدى إلى تدهور مستوى المعيشة إلى الحدود الدنيا، وتحطيم الشعور بالأمان الاجتماعي. ورغم ذلك، يبدو أنه لم ينجح في تحويل روسيا إلى ديمقراطية على النمط الغربي، وإنما إزاحة الطغمة القديمة بأخرى جديدة، مع فارق أن الأخيرة لا تعترف بالحقوق الأساسية للمواطن، وإن كانت الأولى اعترفت بها، حتى لو نظريًّا.
هكذا انهارت المفاهيم القديمة لـ«المواطنيين السوفييت» عن حقوق السكن والتعليم والعلاج «غير المشروطة». ومع انهيار العملة في الأعوام التالية لتفكك الاتحاد، وبخاصة أزمة 1998 الاقتصادية، تحول المجتمع إلى آلة وحشية للبحث الشغوف عن الربح، بالتزامن مع ازدهار المافيا الروسية التي بدأ صعودها مع بداية عقد الثمانينيات، مستفيدة من تدهور الأوضاع الاقتصادية لعجز البيروقراطية السوفييتية الحاكمة حينئذ عن تحديث الاقتصاد الروسي، كي يواكب الوضع الاقتصادي العالمي.
لكل ذلك تحن تلك الشريحة الواسعة من المواطنين الروس، والمتضررة من العهد الجديد، إما لأنه لم يحقق آمال من خرجوا في مظاهرات أغسطس بديمقراطية ونمط حياة غربي، وإما لأنه أنهى مشروع روسيا اليوتوبي الإنساني المتمثل في الشيوعية. هذه الشريحة إلى العهد المستقر للاتحاد السوفييتي، وقت الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
والاقتصاد الذي يدار مركزيًّا، حتى إذا عانى من مشكلات ضخمة، فإنه يضمن روتينًا ثابتًا للحياة اليومية، ويمنح المجتمع استقرارًا يكفله عقد اجتماعي واضح نوعًا ما، رغم تذبذبه الشديد في السنوات العشرة الأخيرة من حياة الاتحاد، تحت ضغط الظروف الاقتصادية. عقد اجتماعي بين الحكومة الشمولية والمواطنين الذين يشعرون، رغم كل شيء، بارتياح نتيجة عيشهم داخل دولة عظمى تحمل راية مشروع الإنسانية المستقبلي المتمثل في «اليوتوبيا الشيوعية».
«لقد ظهر عندنا من جديد أمراء ونبلاء وشعب مسحوق. لقد نسيت متى جلست في المقهى أو المطعم، إنه أكبر من مقاس جيبي. الدخول إلى المسرح أصبح رفاهية، أما في السابق، فلم أكن أتخلف عن حضور جميع العروض المسرحية الأولى. أنا مستاءة، مستاءة جدًّا. يا لها من قماءة ألا يُسمح لنا بالدخول إلى هذا العالم الجديد» - من كتاب «زمن مستعمل: نهاية الإنسان الأحمر»
وفقًا لاستطلاع أجراه مركز «ليفادا» الروسي للإحصاء في 2017، فإن 58% من ضمن ألف و600 شخص على امتداد 48 مقاطعة شملهم الاستطلاع، يشعرون بالحنين للاتحاد السوفييتي، علمًا بأن نسبة من يشعرون بالحنين أو الندم على سقوط الاتحاد في الاستطلاعات التي أجريت على امتداد السنوات بين 1992 و2012، لم تنخفض عن مستوى 50 % سوى مرة واحدة، حين سجلت نسبة 49% عام 2012. النسبة الأٌقل من النادمين على تفكك الاتحاد كانت في الفئة العمرية من 18 إلى 24 سنة، وترتفع في الفئة من 25 إلى 34 سنة، لتبلغ النسبة الأعلى بين من تبلغ أعمارهم 55 سنة، فأكبر.
يُلخِّص الاستطلاع دوافع الحنين، من الأهم إلى الأقل أهمية في الأسباب الآتية:
- تدمير النظام الاقتصادي المُوحَّد
- حقيقة أن الناس لم يعودوا يشعرون بالانتماء إلى قوة عالمية عظمى
- زيادة الشعور المشترك بالمعاناة وانعدام الثقة
- تفسخ العلاقات الاجتماعية بين الأقارب والأصدقاء
- خسارة الشعور بأنك في وطنك أينما كنت داخل الاتحاد السوفييتي
- أصبح من الصعب السفر في عطلة أو التنقل بحرية بين بلدان الاتحاد السوفييتي
اليوم، يعد «الحزب الشيوعي لروسيا الاتحادية» (سليل الحزب الشيوعي السوفييتي) ثاني أكبر حزب في البلاد بعد الحزب المؤيد للرئيس الحالي «فلاديمير بوتين» «روسيا الموحدة». صفحات كثيرة على فيسبوك تحمل أسماءً وتنشر محتويات مرتبطة بالاتحاد السوفييتي أو «ستالين»، هناك قناة تلفزيونية ظهرت عام 2004 باسم «نوستالجيا»، تحمل شعار «المنجل والمطرقة» الشهير، وتنتشر صورة ستالين بشكل ملحوظ على قمصان الشباب، وحتى على سيارات النقل العام، كأيقونة تعبر عن هوية ما مفقودة أو مركز ثقل تاريخي لروسيا الحديثة، كما يشعر قطاع مهم من الشعب الروسي.
اقرأ أيضًا: جوزيف ستالين: ذات مرة كان الشيوعيون في السلطة
انتصرنا في حرب عالمية، ورجُلنا صعد إلى الفضاء
«لا أعرف كيف الوضع في موسكو. أما عندنا، فصوره مُعلقة على زجاج السيارات والباصات. سائقو الشاحنات يحبونه بشكل خاص. في بزة الجنرال العسكرية.. إنه الشعب! الشعب! وماذا بالنسبة إلى الشعب؟ الشعب قالها بنفسه: سنجعل منه هراوة وأيقونة» - «زمن مستعمل: نهاية الإنسان الأحمر»
«الشعور بعدم الانتماء إلى دولة عظمى»، ثاني أكثر أسباب الحنين للاتحاد السوفييتي، يفتح المجال مجددًا أمام الحديث عن ستالين.
يرى من يشعرون بالحنين لعهد ستالين، أنه حقق نصر عسكري ونجح في إقامة نفوذ خارجي قوي للدولة السوفييتية.
في كتابها «زمن مستعمل: نهاية الإنسان الأحمر»، تنقل الكاتبة والصحفية البيلاروسية، المولودة في «أوكرانيا السوفيتية»، «سفيتلانا أليكسيفتش»، قصص مواطنين من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق عبر العقدين التاليين لسقوطه. واللافت للنظر لدى بعضهم هو الحنين لحقبة ستالين، رغم اعترافهم الصريح بجرائمه، حين كانت الدولة قوية، وانتصرت على المحتل النازي، وأقيمت أسس دولة عظمى نجحت في قيادة نصف العالم تقريبًا، والصعود إلى الفضاء في ما بعد.
قيام روسيا الحديثة معروف تقريبًا لدى جميع الناس بأنه حدث بفضل القائد الذي أدار عملية تحويل الاقتصاد الروسي من الزراعة إلى الصناعة خلال عقدين من الزمن. مِن بين من تحدثوا إلى سفيتلانا، مَن يرى أن النصر الذي حققته روسيا على ألمانيا النازية في الحرب العالمية، لم يكن ممكنًا بأي شكل دون سياسات «القبضة الحديدية» التي طبقها على كل مفاصل الدولة والمجتمع، حين أُقام ستالين دولة بوليسية راقبت كل شيء، ولم تستثن أحدًا من العقاب لأتفه الأسباب الممكنة.
ما زالت ذكريات معسكرات العمل القسري «غولاج» (معسكرات اعتقال وأشغال إلزامية نُكِّل فيها بكل من اشتُبِه بمعارضته نظام ستالين) تسبح في بحر دماء القرن العشرين. جميع الناس في روسيا وحول العالم يعلم أن عددًا كبيرًا من البشر قتلهم ستالين. لكن على الجانب الآخر، يرى من يشعرون بالحنين لعهده، حتى وإن اعترفوا بجرائمه، أنه حقق النصر العسكري ضد احتلال الألمان، ونجح في إقامة نفوذ خارجي قوي للدولة السوفييتية المكتظة بالعلماء في كل المجالات، والتي نجحت في قيادة سباق الفضاء الذي كان أول من صعد إليه روسيًّا.
في مقال بصحيفة «The Independent» البريطانية، عام 2008، حول شعبية ستالين، يذكر «شون ووكر»، الكاتب والمراسل المهتم بالشأن الروسي، أن كتابًا مدرسيًّا للتاريخ صدر في 2007، ويغطي القرن العشرين، يصف عمليات القمع الستالينية باعتبارها «شرًّا ضروريًّا»، بالطريقة الآتية: «كانت نتيجة عمليات التطهير الستالينية، تكوين طبقة جديدة من المديرين القادرين على إنجاز مهمة التحديث في ظل نقص الموارد. هذه الطبقة موالية للسلطة العليا، ونظيفة اليدين من وجهة نظر الانضباط التنفيذي (البيروقراطي)».
وصف بوتين الممثل الحالي للأوليغاركية الحاكمة، انهيار الاتحاد السوفييتي، بـ«أكبر كارثة جيو-سياسية» عززت النزعات الانفصالية في أوروبا الشرقية.
قد يكون الإحباط الناتج عن شعور الروس بأنهم تُرِكوا وحيدين تحت رحمة المؤسسات المالية الكبرى والأوليغاركيين الروس، دفع جزءًا منهم إلى طلب المُنقِذ، غالبيتهم من الأجيال الكبيرة نسبيًّا، والتي عاشت الجزء الأهم من عمرها في حكم الاتحاد السوفييتي، وحتى بين الشباب، حينما يبحثون عنه، فإنه بالتأكيد لن يكون القيصر «نيقولا الثاني» أو حتى «لينين»، لكنه ستالين الذي صنع «روسيا قوية».
قد يشعر هؤلاء بأنه ما دام القتل مستمرًّا في كل العصور، فإن العيش تحت ظل حكم ستالين، وقت ضمان الرعاية الاجتماعية المقبولة والدولة العظمى، أفضل من العيش تحت حكم المافيا الروسية الجديدة التي تقتل، أو تترك من لا تقتله يموت بطيئًا من الجوع والتشرد.
بالنسبة إليهم، إذا كانت الحكومات الغربية غير قادرة على استيعاب كيف يمكنهم القبول بذلك، فإنها ستستوعبه بشكل جيد في الصين، حيث جزار شيوعي آخر مُبجَّل رسميًّا حتى الآن اسمه «ماو»، دولة الحزب الواحد (الشيوعي) المنخرطة بقوة في الاقتصاد العالمي، والتي تقيم، باعتبارها ثاني أقوى اقتصاد على مستوى العالم، علاقات اقتصادية متينة مع تلك الحكومات التي لا تعير اهتمامًا جوهريًّا لمسألة الحرية أو الديمقراطية هناك.
ربما لو كان الاتحاد السوفييتي نجح في إحداث تحول رأسمالي والانخراط في الاقتصاد العالمي، كما فعلت الصين، مع الإبقاء على الهيكل السياسي (الأيديولوجي) كما هو، لربما ظل تبجيل لينين وستالين على المستوى الرسمي، قائمًا حتى الآن.
يدرك أصحاب الحنين (السوفييتي/الستاليني/الديمقراطي/اليلتسينيي) نقطة مهمة، وهي أن ما يهم جميع المواطنين في المقام الأول هو حركة الأسهم. لذلك، فإن بعضهم يبحث عن شكل الدولة الذي ينقذهم من جحيم العمى غير الإنساني الطائش للأسهم، بغض النظر عن كم من الناس تقتلهم تلك الدولة في السر. ربما لأن كل السلطات التي جرَّبها هؤلاء الروس تقتل في النهاية.
قد يعجبك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
المفارقة أن الرئيس بوتين، الممثل الحالي للأوليغاركية الحاكمة، وصف انهيار الاتحاد السوفييتي بـ«أكبر كارثة جيو-سياسية» عززت النزعات الانفصالية في أوروبا الشرقية. وفي أثناء أزمة القرم في أوكرانيا، استعمل خطابًا حرَّك المشاعر القديمة للدولة العظمى التي يدعو دومًا إلى إعادة إنتاجها (على النمط القديم).
لا يندرج الحنين للاتحاد السوفييتي ضمن رغبة سادية في العيش تحت حكم شمولي، بقدر ما يندرج ضمن الإحباط، أو كدعاية لـ«الدولة القوية» في حالة الرئيس بوتين، وإدراك أن كل تلك الأنظمة البيروقراطية متشابهة إلى حد كبير. وسط كل ذلك، يبقى الحنين للاتحاد السوفييتي مقبولًا ومرفوضًا في الوقت ذاته، وبطريقة منطقية. لذلك يظل مُربكًا، وبخاصة لأولئك الذين خرجوا من منازلهم يُطالبون بنزع الفقر وأعين المتلصصين عن منازلهم، وعادوا ليجدوا أن منازلهم نفسها قد اُنتزِعت منهم.
أمين حمزاوي