مأرب: واحة إنسانية وسط حطام حرب اليمن

أيمن محمود
نشر في 2017/12/11

بيت في مأرب - الصورة: Getty/DEA/C.DANI/I.JESKE

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


تركت الحرب في اليمن بصمتها على طابع المدن، فتلك الحرب التي جمعت بين الموت والصراع من أجل البقاء، والانتصارات والهزائم، والوطنية والفدائية المطلقة والخسة والخيانة في مكان واحد، استطاعت أيضًا أن تجمع حجم دمار وكوارث إنسانية لم تشهدها البلاد من قبل، مع نموذج للتمسك بالحياة والحضارة يصعب أن يشهده التاريخ مرة أخرى وسط تلك الظروف العصيبة.

محافظة مأرب، التي ظلت لفترة طويلة أحد معاقل تنظيم القاعدة المتشدد، حتى سماها بعضهم عاصمة الإرهاب في اليمن، فاجأت الجميع مع اشتعال فتيل الحرب وحلول الدمار في معظم أنحاء البلاد، بأن أصبحت عاصمة غير رسمية لازدهار الأعمال والتعليم، ليجتمع الذعر من الموت والأمل في مدينة واحدة. وسلط مقال على موقع «دير شبيغل» الضوء على تلك الحالة الفريدة من نوعها.

في مأرب، الألغام تهزم الكوليرا

تطور مركز الأطراف الصناعية في مستشفى مأرب

استوحش وباء الكوليرا في اليمن مع بدايات 2017 حتى أصاب 800 ألف شخص، وأودى بحياة ألفين منهم، إلا أنك عندما تستمع إلى أحد أطباء مأرب قد تظن أنه يتحدث عن مدينة أخرى في بلد مختلف، إذ يقول الطبيب محمد القباتي، مدير مستشفى مدينة مأرب، لكاتب المقال: «كوليرا؟ لا، ليست الكوليرا أسوأ مشاكلنا هنا في مأرب، فهذا المرض يأتي في المرتبة الثالثة أو الرابعة بين أكثر أسباب الوفاة شيوعًا، والألغام الأرضية هي المسؤول الأول عن الوفيات لدينا».

رغم وضع البلاد، يضم مستشفى مأرب أطباء ذوي كفاءات، ويعمل بالحد الأدنى من الخدمات العامة والمياه النظيفة.

يمتد الوادي الصحراوي لمدينة مأرب إلى 172 كيلومترًا شرقي العاصمة صنعاء، وفي عام 2015، كانت المدينة تقع على الخط الأمامي لحرب أهلية شرسة بدأها الحوثيون، وكان من نتاجها أن زرعوا عشرات الآلاف من الألغام في طرق المدينة، بل وفي الحقول والحدائق أيضًا، ولا تزال تلك الألغام حتى يومنا هذا تُزهق أرواح العسكريين والمدنيين على حد سواء، فضلًا عن الإصابات البشعة التي تسببها لمن تصيبهم ولا تقضي عليهم.

يتلقى مثل هؤلاء المصابين العلاج في مستشفى المدينة، الذي لا يمتلك سوى 120 سريرًا، لا يخلوا أحدها أبدًا من المرضى، فكلما تلقى أحدهم القدر الكافي من الرعاية الطبية أخذ مكانه غيره، رغم أن أحد أبرز المشاكل هي بُعد المستشفى عن أماكن زراعة الألغام، وهو ما يجعل المصابين يقطعون مسافة تستغرق ساعات للوصول إليه.

يحمل مستشفى مدينة مأرب أحد الجوانب الباعثة على الأمل التي تتعدد في تلك المدينة. يقول القباتي، بمزيج من الفخر والتواضع، إن مستشفاه يدرب أخصائيين لإجراء عمليات تركيب أطراف صناعية، بعد أن ظهرت الحاجة إليها في السنوات الأخيرة بسبب حالات الإصابة ببتر الأطراف في الانفجارات الأرضية، وأصبح المستشفى الآن يمتلك كوادر بإمكانهم إتمام تلك العمليات، ويمتلئ المخزن بمستلزمات تلك العمليات.

ذلك المستشفى، الواقع على أطراف الصحراء، يمثل حالة غريبة من الجمع بين المتناقضات. فرغم أن الوضع المتردي في البلاد ألقى بظلاله عليه، لا يزال يؤدي عمله، يضم الأطباء ذوي الكفاءات، ويعتمد على الحد الأدنى من الخدمات والمرافق العامة مثل الكهرباء ومصادر المياه النظيفة، التي حمت المدينة من تفشي وباء الكوليرا فيها على نطاق واسع، مثل مناطق يمنية أخرى.

كل ذلك يحدث بفضل تحول المدينة من معقل للإرهابيين إلى قبلة للشركات والبنوك والخبراء، وحتى اللاجئين من مختلف أنحاء البلاد.

اقرأ أيضًا: ما ﻻ يخبرنا به الإعلام عن صراع السعودية وإيران في اليمن

مأرب: عاصمة الازدهار الاقتصادي

سد مأرب - الصورة: Max-M

على مدار عقدين من الزمن، ظلت مأرب، المدينة التي كان يسكنها نحو 40 ألف شخص، معقلًا لإرهاب تنظيم القاعدة، وظلت محكومة بقبائل اعتادت تفجير خطوط الغاز وتدمير خطوط الكهرباء لابتزاز الحكومة من أجل المال، واشتهرت بأنها أكثر الأماكن في اليمن تعرضًا للغارات الأمريكية على مسلحي القاعدة.

في 2011 بدأ سقوط اليمن، وفي نفس الوقت ازدهار مأرب، إذ اجتاحت ثورة شعبية جميع أنحاء اليمن للمطالبة بتنحي الرئيس آنذاك علي عبد الله صالح، أسفرت عن استجابته لرغبة الجماهير بعد أكثر من 30 عامًا على كرسي الحكم. خلف صالح نائبه عبد ربه منصور هادي، لكن علي عبد الله تحالف مع ميليشيات الحوثيين عام 2015 ضد القوات الحكومية، واستطاع السيطرة على العاصمة صنعاء.

بدأت المأساة حين قررت المملكة العربية السعودية والإمارات شن حملة عسكرية ضد الحوثيين وصالح في مارس 2015، عُرِفت بـ«عاصفة الحزم»، اتخذت في بادئ الأمر شكل غارات جوية على القواعد العسكرية والمستشفيات والمناطق السكنية على حد سواء، فيما استمرت إيران تدعم الحوثيين بالصواريخ والألغام الأرضية، وفقًا للمقال.

استمر الوضع على ما هو عليه لعامين ونصف، لم تصل فيها الأطراف إلى حل لوقف العنف، ما أسفر عن إصابة البلاد بإحدى أسوأ الكوارث الإنسانية. وبعد أن حظرت السعودية دخول المواد الغذائية إلى اليمن، أصبح 27 مليون شخص يواجهون خطر المجاعة، وازداد الأمر سوءًا بإغلاق عدد من مواني ومطارات البلاد في نوفمبر 2017.

لكن يبدو أن عراقة وقوة تاريخ مدينة مأرب أمداها بالقوة في حاضرها، فتلك المدينة التي تحتوي على آثار تشهد على تاريخ يرجع إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، كانت عاصمة مملكة سبأ، وكان سد مأرب الشهير يمد المدينة والأراضي المحيطة بها بالمياه، ووقف شامخًا حتى يومنا هذا ولم ينضب عطاؤه، فمنسوب المياه وراءه لا يزال مرتفعًا.

في 2016، قرر البنك المركزي اليمني فتح فرع له في مأرب، وتبعته أربعة بنوك أخرى.

صحيحٌ أن القوافل التجارية التي ساعدت على ازدهار مأرب في الماضي انتهت منذ زمن بعيد، إلا أن المدينة قريبة من مقر شركة نفط «سفير» الحكومية، التي تنتج يوميًّا 1900 طن من الغاز الطبيعي والسولار والنفط الخام، لتشغيل محطات الكهرباء التي تعتبر المصدر الوحيد للطاقة في المدينة، إضافةً إلى أن 20% من عائدات الشركة تعود إلى إدارة المدينة.

بعد انتهاء المواجهات العسكرية بين الحوثيين والقوات الحكومية في أواخر 2015، توافدت موجات النازحين من كل مكان في اليمن على مأرب، وتراوحت أعدادهم ما بين 1.5 إلى 2 مليون نازح، كثير منهم فقراء، لكن بينهم أيضًا رجال أعمال ومحامون وصحفيون وفنانون، فروا من حملات الاعتقال التي يشنها الحوثيون في صنعاء وإرهاب تنظيم القاعدة، والفساد الذي ضرب مفاصل الدولة.

انتعشت الحياة الاقتصادية في المدينة عندما بدأت عودة عديد من أثرياء المدينة الذين كانوا قد هجروها منذ عقود، ومع تزايد عدد السكان، شهدت سوق العقارات رواجًا كبيًرا، تبعه إنشاء شركات ومشروعات جديدة، ما بين مصانع للطوب وتعبئة مياه شرب، وغير ذلك من المشاريع التي احتاجت إلى أعداد كبيرة من الأيدي العاملة، فصار من يسير في المدينة يرى مواقع البناء في كل مكان.

وفي عام 2016، قرر البنك المركزي اليمني فتح فرع له في مأرب، بعد أن سبق ونقل مقره من صنعاء إلى عدن، وتبعته أربعة بنوك أخرى قررت افتتاح فروع لها في المدينة.

قد يهمك أيضًا: الإرهاب في اليمن: حرب القبور ضد الزهور

رجل المهام الصعبة

محافظ مدينة مأرب يتحدث عن الوضع اليمني

يرجع الفضل في تطور التعليم في مأرب إلى المحافِظ، الذي رفع عدد طلاب الجامعة وسخّر حافلات لنقل الطالبات إلى الجامعة.

وراء هذا النجاح قائد حافَظَ على أن تستفيد مأرب من الفوضى والدمار اللذين يحيطان بها من كل جانب، بدلًا من أن تغرق في ويلات الحرب كما غرقت غيرها من المدن. هذا الرجل يُدعى سلطان بن علي العرادة، يبلغ من العمر 59 عامًا، وهو محافظ مدينة مأرب منذ 2012، له خبرة سياسية وعسكرية، إذ سبق أن كان لواءً في الجيش اليمني ونائبًا في البرلمان، بالإضافة إلى أنه أحد القيادات القَبَلية في المحافظة.

لم يصبح العرادة أحد مقومات نجاح، بل بقاء المدينة، من فراغ، فهذا الرجل رفض الانحناء أمام سلطة الحوثيين، وكان له دور في وقف الغارات الأمريكية على المدينة. ورغم أنه ظل عضوًا في البرلمان لفترة، فإنه لم يكن يهتم بالعمل السياسي في عهد علي عبد الله صالح. ويؤكد لكاتب المقال أنه يتمنى أن تمنحه أمريكا الفرصة للقبض على العناصر الإرهابية قبل أن تشن غاراتها على المدينة، 

يرجع إلى العرادة الفضل في جذب أفضل العقول إلى مأرب، إذ أن ثلثي الأساتذة الجامعيين في المدينة وافدون من خارجها، وارتفع عدد طلاب الجامعة فيها من 1200 طالب إلى خمسة آلاف، نصفهم من الفتيات، اللاتي سخرت لهن سلطات المدينة حافلات تقلهن إلى الجامعة، بهدف تشجيع العائلات على تعليم بناتهن.

أصبح اليمن منذ 2011 أحد أشهر نماذج الحرب بالوكالة بين السعودية وإيران، فرغم اختلاف التوجهات السياسية لدى اليمنيين، نجدهم متفقين على الشكوى من التدخلات الأجنبية، سواء أكانت من إيران لدعم الحوثيين، أو من السعودية لدعم منصور هادي، فكلتا القوتين الأجنبيتين تسعيان إلى تحقيق مصالحهما وتوسيع نفوذهما في المنطقة.

لا أحد يبكي على مستقبل اليمن الغامض حتى الآن سوى شعبها، فحتى إن وُجد الأمان النسبي في محافظة مثل مأرب، فالحرب التي لا تزال تجري أحداثها في اليمن تجعل كل ازدهار هشًّا، وكل أمان مؤقتًا.

أيمن محمود