اخترناه وبايعناه: الوصفة الصينية لترويج القمع
في أغسطس عام 1966، الشهر الذي عرفه التاريخ فيما بعد بأغسطس الدموي، غطَّت سحابة من العنف الجماعي الصين كافة، عندما أطلق الزعيم الشيوعي «ماو تسي تونغ» (Mao Zedong)، نداءً مفتوحًا لتسليح «شباب الأمة»؛ لاستئصال «الرأسمالية السرية وأعداء الطبقة الكادحة»، والعثور على ممثلي البرجوازية الذين تسللوا إلى الحزب والحكومة والجيش ومختلف المؤسسات الحاكمة.
بالفعل، اجتاحت حالة من الجنون الثوري الشباب في المدارس والجامعات، تمثَّلت في تجمعهم مع المراهقين في عصابات مسلحة تحت اسم «الحرس الأحمر»، وارتكابهم مجموعة من أبشع الجرائم المُقنَّنة ضمنيًّا تحت غطاء حملات التطهير؛ أبسطها التعذيب الجماعي للنخبة البرجوازية من معلمي الجامعات، وأقساها قتل الأبناء ذويهم «البرجوازيين».
هذه المبالغة في الاستجابة لنداء «ماو» عظَّمت آثار ما كان مفترضًا أن يكون حملة تطهيرية، لتستمر قرابة الأعوام العشرة، وتتحول لواحدة من أعنف الثورات التي عرفها التاريخ، إذ نُفِيَ 20 مليون «مشتبه في برجوازيته» للمزارع في الريف، وأُعدِم مليون ونصف أو دُفِعوا للانتحار؛ لوصمهم بالتأثر بالفكر الأجنبي، بعد تدمير مكتباتهم التي تحوي النصوص الأجنبية.
العدو الذي حرض «ماو» الشعب الصيني للثورة ضده لم يكن له وجود من الأساس.
كان من شأن هذا التمرد العشوائي أن يجعل من دعوة «ماو» كابوسًا مفزعًا، لدرجة إعلان الحزب الشيوعي عقب وفاته أن ما سُمِّي بعد ذلك بـ«الثورة الثقافية» كان أسوأ انتكاسة عانى منها الصينيون منذ الحرب الأهلية، التي نشبت بين الحزبين الشيوعي المعارض والوطني الحاكم.
وبعد مرور خمسين عامًا على تلك الانتكاسة، لا تزال صورة «ماو» تزين العملات النقدية الصينية، وضريحه عنصر جذب لزيارته يوميًّا بواسطة الآلاف في العاصمة بكين، فكيف نجح «ماو» في إلباس نفسه ثوب البطل، والاحتفاظ بتلك الصورة عقودًا في أذهان الناس، رغم أنه، عمليًّا، شرًّد نصف شعبه وجوَّع النصف الآخر؟
امنح شعبك ثورة قبل أن يثور عليك
اخترع «ماو» ثورة بديلة بقيادته، وقرر منحها للشعب الذي التقط الطُعْم سريعًا، حين أنعش ذاكرته بمساوئ الحكم البرجوازي القديم.
الحقيقة أن العدو الذي حرض «ماو» الشعب ضده لم يكن موجودًا من الأساس، ولم يكن أكثر من معنى مجازي
اخترعه «ماو» لتبرير ثورته، في حين أن الهدف الفعلي للثورة الثقافية كان إعادة فرض نسخة «ماو» من الشيوعية، على مجتمع بدا وكأن بعض أفراده ما زالوا يُضمرون الحنين لرأسمالية «الكومينتانغ»، الاسم الحركي للحزب الصيني الوطني، الذي حكم البلاد بقيادة البرجوازي «شيانغ كاي شي» (Chiang Kai-shek)، الذي كان معروفًا بإقصائه العنيف للمعارضة، المتمثلة في الحزب الشيوعي الصيني بقيادة «ماو» آنذاك.
أما سبب حنين الشعب لـ«الكومينتانغ»؛ فكان نتيجة لمبادرة «ماو» الإصلاحية التي أطلق عليها «القفزة الكبيرة إلى الأمام»، حين ألزم شعبه بترك المزارع والعمل في المصانع لتحقيق الإنتاج؛ ما أرهق الصينيين معنويًّا لعدم خبرتهم بالعمل الصناعي، واقتصاديًّا لحدوث ما يعرفه التاريخ باسم «المجاعة الكبرى»، التي راح ضحيتها قرابة الـ40 مليون مواطن.
أما ما زاد الشعب حنقًا فكان مشاهدته زعيمه، الرافض للبرجوازية، يستورد الطعام من دول «رأسمالية» للتغلب على المجاعة.
ببساطة، أدرك «ماو» ان اجتماع عنصرين كالإرهاق المعنوي والاقتصادي على الشعب من شأنه خلخلة مكانته كزعيم شعبي، تمهيدًا لإزاحته عن الحكم نهائيًّا.
ولتفادي احتمالية الثورة ضده؛ اخترع «ماو» ثورة بديلة بقيادته وقرر منحها للشعب، الذي التقط الطُعم سريعًا، حين أنعش ذاكرته بمساوئ الحكم البرجوازي القديم، وناشده القضاء على بؤر البرجوازية بثورة استُلهم اسمها من المستجيبين لها من طلبة الجامعات ومثقفي الشعب، ليصبح «الثورة الثقافية».
رأى «ماو» أن الدعوة لثورة بقيادته هو الحل الأمثل، من جهة لإشباع الغريزة التدميرية المتولدة عن كبت هذا الشعب عقودًا، التي تسببت في توحش الثورة الثقافية ودمويتها بهذا الشكل، ومن جهة ثانية لإيهام أفراد الشعب بأنهم المالكون الحقيقيون لمفاتيح السلطة.
كان «ماو» ابتكاريًّا في حلوله؛ فمهادنة الشغب بدلًا من مكافحته، وتفريغ الكبت بدلًا من زيادته، كانت حلولًا مثيرة للانتباه بلا شك.
لا بأس من تجويع دولتك، لكن اخلقها أولًا
لا شيء قد يثير غضب المواطن الصيني أكثر من صحن أرز خاوٍ.
وصول «ماو» للحكم كان عملية إنقاذ شاملة لدولة أوشكت على التآكل، فبين الحروب الأهلية الداخلية، ونزاعات الدول الخارجية للاستيلاء على مقاطعاتها الشمالية، كانت الصين قد تفسَّخت وتحولت لمستعمرات صغيرة تتنازع فيما بينها.
ومثلما يعرف التاريخ «ماو» بوصفه مسبب المجاعة الكبرى، عرفه أيضًا أبًا روحيًّا أنهى كل تلك الحروب، ليصبح المؤسس الفعلي لجمهورية الصين الشعبية، مانحًا إياها الشكل الذي نعرفها عليه اليوم.
لذلك، فقد يكون أنسب تعريف لـ«ماو» هو نصف إله ونصف شيطان. ففي فترة حكمه قفزت الصين عدة قفزات تاريخية لتلحق بموكب التقدم الغربي؛ فطُوَّر في عهده أول سلاح نووي صيني، وأُطلق أول قمر صناعي للفضاء.
لكن من جهة أخرى، تسبب هوس «ماو» بالنهوض وتركيزه على الصناعة في إضعاف اقتصاد الدولة بمعدل سريع جدًّا؛ بسبب نقل المزارعين للعمل في مجالات صناعية لا خبرة لهم فيها، مقابل إهمال مساحات كبيرة من الأراضي دون زراعة، ما أدى لحدوث المجاعة الكبرى التي لم يتسامح معها الشعب.
لا شيء قد يثير غضب المواطن الصيني أكثر من صحن أرز خاوٍ!
بالتالي، فإن مجاعة الصين وما تلاها من فترات مظلمة أثرت سلبًا في شعبية «ماو». ومع تولي «دينغ شياو بينغ» (Deng Xiaoping)، كان الشعب الصيني على استعداد للتخلي عن إيمانه المُفرِط بـ«ماو»، وطيِّ تلك الصفحة للأبد.
وبحلول عام 1982، بات مسموحًا بانتقاد سياسات «ماو» علنًا، خصوصًا مع سياسات «دينغ» الإصلاحية المغايرة تمامًا لسياسات «ماو»، وتأثيرها في النمو السريع للاقتصاد.
إلا إن هذا التخلي لم يستمر للأبد، فسياسة «دينغ» أدت لخلق فجوة أخذت في الاتساع بين طبقات المجتمع؛ لانحيازه لخريجي الجامعات واقتصار المناصب القيادية في الحزب عليهم، بعكس «ماو» الذي أولى غير المتعلمين مناصب مهمة. الفجوة المستحدثة خلقت بدورها نوعًا من الحنين لليسارية الماوية في نفوس الشعب، خصوصًا المزارعين غير المتعلمين، إذ سعت مبادئ الماوية لخلق مجتمع منعدم الطبقية تُوزَّع فيه الثروات بالتساوي.
وبسخرية مريرة، يمكن اعتبار أن الاقتصاد الذي أمات أسطورة «ماو» ذات مرة، هو نفسه الذي أعاد إحياءها، ليس لعام أو اثنين بل لأكثر من نصف قرن.
النساء يرفعن نصف السماء
«أن تكون المرأة عديمة الموهبة، فتلك فضيلة».
قبل حكم «ماو»، كان النمط السائد في الصين هو التقليل من شأن النساء، فالجملة السابقة واحدة من الحكم الكونفوشية التي كان معتدًّا بها للغاية، فمثلًا لم يكن للمرأة حق العمل أو امتلاك العقارات والأراضي، كما كانت تُجبر على نظام «الزيجات المرتبة»؛ إذ يتحكم الأبوان في اختيار زوج ابنتهم.
وهي التقاليد التي ألغاها «ماو» كلها فور توليه الحكم، ليستبدل بالحكمة الكونفوشية السابقة شعارًا استحدثه يقول «النساء يرفعن نصف السماء»، ويمنع تقليد «ربط الأقدام» (ربط أقدام الفتيات لمنعها من النمو)، ويمنح النساء الحق في العمل وحيازة الممتلكات.
لكن، هل كان «ماو» حقًّا مناصرًا للمرأة؟
قرار الزواج في عهد ماو تحول مما يمليه الأب لما تمليه الثورة؛ نوع مغاير من السلطة ليس إلا.
أغلب الظن أن زعيمًا بذكائه كان مدركًا أن الحركة النسوية الغربية ستجتاح الصين عاجلًا أم آجلًا، لتخرج النساء للمطالبة بحقوقهن، ومن ثم، قرر تقديم ثقافة النسوية كأحد منتجات الثورة الثقافية الصينية، بدءًا من منح النساء حق الانضمام للحرس الأحمر، وصولًا لحثهم على الخروج للعمل والمشاركة في بناء دولتهم، وتلقيبهن بـ«الفتيات الحديديات»، نظرًا للعمل في ظروف شديدة القسوة ساعات طويلة.
ربما يهمك أيضًا: من أمريكا إلى ليبيا: قصة التحاق النساء بالجيوش
إلا إن الحقوق التي منحها «ماو» للنساء بيده اليمنى، استردها مرة أخرى وبصورة مراوغة. على سبيل المثال، أُلزمت النساء بتقصير شعورهن ومُنعن من ارتداء الملابس النسائية كالتنانير، في مقابل إلزامهن بزي موحد، وإن لم يفعلن، يُعدُّنَّ «برجوازيات» مصيرهن النفي للريف لإعادة التأهيل.
الأكثر مراوغةً، استبداله بتقليد «الزواج المرتب» زواجًا إجباريًّا من نوع آخر. فعلى مدار سنوات الثورة الثقافية، وكجزء من إذابة الفوارق بين الطبقات، أعلن «ماو» أن الطريقة الوحيدة لإثبات الانتماء للثورة هي الموافقة على الزواج من المزارعين، بوصفهم طبقات أقل.
فعمليًّا، وفي حقبة كانت تتحول فيها الشكوك لاتهامات صريحة دون دليل؛ لم تملك الفتيات أي فرصة للرفض، فإن رفضن يُتهمن بالانتماء للبرجوازية.
بالتالي، يمكن اعتبار أن قرار الزواج في عهد «ماو» تحول مما يمليه الأب لما تمليه الثورة؛ نوع مغاير من السلطة ليس إلا.
احشد أتباعًا، وسيتكفَّلون بنشر عقيدتك
ربما تكون العاقبة الأسوأ لثورة «ماو» الثقافية أنها جعلت ممن كانوا ضحاياها بالأمس جناة مدانين في يومنا هذا.
فنجاح «ماو» في تقديم أسطورته الشعبية لم يكتف بالوقوف عند حدود الماضي؛ وإنما تمادى للأجيال الحالية، للدرجة التي دفعت الرئيس الحالي «شي بينغ» (Xi Jinping) لمحاولة محاكاته وتقديم نفسه كخليفته الشرعي، رغم أن أسرته تعرضت للتشريد على يد الحرس الأحمر عندما كان طفلًا؛ إذ نُفي وشقيقته للريف لإعادة تأهيلهما، بعد تعرُّض والده «شي تشونغ شون»، وهو واحد من رجال «ماو» الأوفياء، للإذلال والمحاكمة بتهمة الخيانة وتبني أفكار برجوازية معادية للحكم الشيوعي.
للوهلة الأولى لا تبدو محاكاة «شي بينغ» لـ«ماو» أمرًا مفهومًا.
لكن بالنظر للسطوة التي يحظى بها «ماو»، بعد نجاحه في تقديم ذاته كبطل شعبي خالد، أتى من أقاصي الريف ليصبح سيدًا للبعض وإلهًا للغالبية، لدرجة معاملة كتابه الأحمر معاملة العقيدة؛ فإن ذلك كان من الغواية بما يكفي ليفتن «شي بينغ» تمامًا.
وبطريقة مثيرة حقًا للفضول، لا يتوقف الرئيس الصيني عند محاكاة «ماو» فقط، بل يستمد أيضًا شرعية حكمه منه، فيفاخر بكون والده قد قاتل و«ماو» جنبًا إلى جنب، ويتباهى باستحقاقه الحكم إثر ذلك، فيما يتجاهل تمامًا انقلاب «ماو» الغادر على أبيه.
اقرأ أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
لهذا وذاك، تواجه الأجيال الناشئة في الصين تعتيمًَا مبالغًا فيه بخصوص الجانب المظلم للثورة الثقافية، يرعاه «شي بينغ» ويباركه بمزيد من التضييق وتكميم أفواه كل معارضيه، فليس في صالحه إظهار الجانب القبيح لـ«ماو» وهو يحاول محاكاته.
اليوم، لا تعرف الأجيال الناشئة عن «ماو» إلا كونه المناضل الثوري، والمُبشِّر، والأب الروحي للصين الحديثة، فيما تراه النساء منافحًا عن حقوق المرأة.
أما مَنْ لا يزالون على قيد الحياة ممن عاصروا الحرب الأهلية من 1927م إلى 1949 م، ورأوا نضالات «ماو» ضد الحزب الصيني الوطني، فيرفضون تصديق أن الثورة الثقافية لم تكن إلا مجرد وهم. في المقابل، يعتقدون أن المحيطين به هم مَن خرَّبوا المُثُلَ الشيوعية لتحقيق مكاسب خاصة.
الأكيد أن النصف الأخير من القرن الماضي شهد واحدة من أكثر الحركات ثنائية القطب في التاريخ، فـبقدر ما أحب الصينيون الشيوعية آنذاك، كرهوا ثورتها الثقافية، وبقدر محبتهم لما يمثله «ماو» من أفكار مناهضة للطبقية، كانت كراهيتهم للماوية نفسها.
إسراء مقيدم