المدن الضائعة في التاريخ: ماذا نعرف عن هشاشة الوجود الإنساني؟
حين كتب أفلاطون في محاوراته الشهيرة باسم «تيماوس وكريتياس» (Timaeus et Critias) حول قارَّة أتلانتس المفقودة، خلق حولها مساحة جيدة للخيال الإنساني، وربما اعتمد الفيلسوف اليوناني الأشهر في بنائه هذه الأسطورة على قصص سحيقة الزمن، تدور تفاصيلها على أراضٍ وممالك اختفت من كوكب الأرض.
لكن الأسطورة ظلَّت حبيسة اسمها لفترة طويلة، وكأنَّ الفكرة نفسها لم يكُن ممكنًا دَحْض منطقيتها، فبعد مرور آلاف السنوات على حديث أفلاطون عن أتلانتس، كان الفضول الإنساني ينحت في الصخر، والاكتشافات العلمية تتوالى حول عدد من القارات أو المدن التي غطَّاها المحيط أو الرمال في فترة زمنية سابقة.
يستطيع المرء في سن صغيرة أن يكوِّن يقينًا راسخًا بأن الأرض تحمل بين طياتها أجزاءً مختفية في أعماق المحيط أو تحت حرارة الرمال.
يبدو الأمر منطقيًّا؛ أرض قديمة ربما أقام البشر عليها حضارات ومدنًا وأنظمة وعلاقات إنسانية متشابكة، ثم غطَّتها ظروف جيولوجية وجغرافية دون هوادة، وربما تَسبَّب الإنسان في ذلك بنفسه بالحروب، أو المشروعات التي تتطلب إغراق وديانٍ ومدنٍ بأكملها في سبيل تطوُّره.
كان هذا مدخلًا لفلسفة تؤصِّل لفكرة الخوف، الخوف من هشاشة ما تعيشه البشرية في الوقت الحالي، وأن هذا الوجود معرَّض للاختفاء كما حدث في العصور السابقة، وفي لمح البصر.
تحت أقدامنا مستقبل القدماء
آخر ما توصل إليه العلم حديثًا حول تلك الأراضي التي كانت يومًا مكشوفة تحت الشمس كان قارَّة مساحتها تساوي ثلثَي مساحة أستراليا، غارقة تحت مياه الجزء الجنوبي الغربي من المحيط الهادي، وفق ما أعلنه علماء لدورية المجتمع الجيولوجي الأمريكي (Geological Society of America) في فبراير 2017.
قبل ذلك بعدة أعوام في 2013، عثر علماء من النرويج وجنوب إفريقيا وألمانيا وإنجلترا على بقايا قارَّة يُعتقد أنها غرقت في أعماق المحيط الهندي قبل ملايين السنين. وأوضح بحث نُشِرَ في مجلة «علوم الأرض الطبيعية» اكتشاف كتلة بسُمْك 25 إلى 30 كيلومترًا، ترجع إلى ما بين 50 و80 مليون عامًا، في أعماق المحيط الهندي.
أطلق العلماء اسم «ماوريتيا» (Mauritia) على ما يُعتقد أنه قارَّة غرقت في خِضَمِّ أمواج المحيط الهندي، في أثناء تفكُّك ما يسميه العلماء قارَّة «رودينيا» (Rodinia)، التي كانت موجودة منذ مليار سنة قبل جميع القارات.
في الهند، ترقد مدينة «دواراكا» (Dvārakā) في خليج «كامبات» على عمق 40 مترًا تحت سطح المحيط. اكتُشِفَت المدينة عام 2000، وقيل إنها كانت أحد الأماكن التي دارت فيها قصص الإله كريشنا (Krishna)، الذي شيَّد مدينة من الذهب والفضة و700 ألف قصر، وظلت قائمة حتى موته.
هل يبدو الوجود الإنساني على كوكب الأرض بهذه الهشاشة، أم إن البشرية تطورت بما يكفي لتحافظ على وجودها؟
تتعدد أمثلة المدن التي شيَّدَها البشر في عصور أقرب إلينا من الحقب الجليدية، ثم غطَّتها المياه بعد ذلك لتُخفِي آثارًا لحضارات إنسانية على أرضها بمنتهى القسوة.
هناك مدينة «أسد بحيرة كيانداوهو» (Qiandao) في الصين، التي أغرقتها مياه سدِّ البحيرة عقب إنشائه في خمسينيات القرن العشرين، وتقبع على عمق 25 إلى 40 مترًا تحت سطح بحيرة «كيانداوهو»، وكذلك قرى النوبة في جنوب مصر، التي أغرقتها مياه بحيرة ناصر الصناعية في السبعينيات.
قد يعجبك أيضًا: جيل «التهجير» يروي حكايات الظلم والقهر في قلب النوبة
قد تختفي حضاراتنا في لحظات
هل يبدو الوجود الإنساني على كوكب الأرض بهذه الهشاشة، أم إن البشرية تطورت بما يكفي لتحافظ على وجودها وبصمتها في هذا الوجود؟
الأمر برُمَّته يعكس فكرة مهمة قد تبدو حجر الزاوية في هذه الحوادث: الموت، الحقيقة الوحيدة المطلقة في هذا العالَم. ربما تَمكَّن الإنسان من مكافحة الأمراض التي بدت في زمن ما مستعصية على العلاج، ربما تَمكَّن من تطوير أدوات إنتاجه لكي يحجز مركزًا عاليًا في سلسلة الكائنات الحية، إلا أن الموت يظلُّ العائق الرئيسي بين ما يطمح إليه الإنسان وما يُظهِره الواقع. .
كان المستكشف الألماني «هنريك شليمان» (Heinrich Schliemann) قد سحَرَته فكرة الممالك القديمة والمدن المختفية، فقرَّر أن يبحث عن مدينة طروادة (Troy) التي أوردها الشاعر الإغريقي الأسطوري «هوميروس» (Homer) في ملحمتيه «الإلياذة» (Iliad) و«الأوديسة» (Odyssey)، وعثر عام 1871 على أنقاض المدينة في شمال غربي تركيا، ليفصل بين الحقائق والأساطير حول هذه المدينة.
اقرأ أيضًا: 7 أفلام عن الزمن الذي يمر فوق أجسادنا
هل نحارب الموت أم نهرب منه؟
هرب الإنسان من أشكال متعددة للموت، كانت هذه هي معركته؛ البقاء أمام الفناء.
بدا أن قارَّةً مثل أتلانتس ليست خيالًا صِرفًا إذًا، وأنه من المحتمَل العثور عليها وانتشالها من ركام الأساطير.
كان أفراد حضارة المايا (Maya) في أمريكا الجنوبية يؤمنون بأنه كانت هناك قارَّة كبيرة اسمها «أزتلان» (Aztlan) دمَّرَتها الحمم البركانية، وتشبه تلك الأسطورة حكايات أخرى من الثقافات الهندية عن مدن وقارات أفنَتْها عوامل طبيعية.
تَوَالت في ما بعد محاولات الاستكشاف، ليعلن فريق من علماء الآثار الأمريكيين والأوروبيين العثور على ركام مدينة أغرقها إعصار تسونامي تحت المحيط الأطلنطي جنوبي إسبانيا، يُعتقد أنها تعود إلى قارَّة أتلانتس الغارقة، التي ذكرها أفلاطون منذ آلاف السنوات.
لقد هرب الإنسان من أشكال متعددة للموت، كانت هذه هي معركته؛ البقاء أمام الفناء، اختراع وإنتاج كل ما من شأنه تأخير الحقيقة المطلقة قدر الإمكان ولو كان التدمير سبيل ذلك؛ كما حدث في المدن التي أغرقها البشر بمياه السدود، من أجل توليد طاقة تطيل مُدَّة بقائهم على هذا الكوكب.
لكن الحقيقة تبقى حقيقة، وتظلُّ مُطلَقة: الموت، وإن لم يأخذ شكل المرض أو التدمير الطبيعي أو حرب البشر، فإنه جدار سدٍّ لا تزحزحه تلك المحاولات التي تبدو بائسة أمام ضخامته.
هل تتحول جهود الإنسان قريبًا نحو محاربة الموت بدلًا من الهرب منه؟ هل يبدو ذلك منطقيًّا بأي حال؟ إن جوهر الحياة هو أن الشيء يثبَت بنقيضه، ونقيض الحياة هو الموت، وربما إن لم يُوجَد موت، فلن تُوجَد حياة.
لعلَّ على البشر أن يُتبِعوا إدراكهم لهذه الحقيقة بتصرُّف يناسب الوضع.
أورد الكاتب التشيكي «ميلان كونديرا» (Milan Kundera)، في روايته «كائن لا تُحتمَل خِفَّته»، أمثلة لشخصيات تعاملت مع الوجود بخِفَّة منقطعة النظير؛ واجهته، وقرَّرت أن تخلع من حياتها كلَّ ما يُثقِلها كأنها، كما يقول في الرواية، تعيش «مرَّة ليست في الحسبان، مرَّة هي أبدًا، أن لا تستطيع إلا حياة واحدة كأنك لم تعِش البتة».
ترجِم ذلك عن طريق التخفُّف من أعباء الوجود، والتعامل معه بأقل قدر من الجدية والمبالاة، ففي النهاية سيفنى العالم بأي وسيلة، طبيعيةً كانت أو بشرية، ولأنه، كما تحكي الرواية، «لا توجد أي وسيلة لنتحقق أيُّ قرارٍ هو الصحيح، لأنه لا سبيل لأي مقارنة. كل شيء نَعِيهِ دَفعةً واحدة، مرَّة أُولَى، ودون تحضير».
هل يبدو الأمر معقَّدًا كما هو أمام البشرية والموت يحدِّق إلى وجهها من كل الزوايا، كما لو أننا في لعبة استغماية، مبتسمًا بانتصار؟
كريم كيلاني