المكان كله مراقَب: ماذا يخسر الأوروبيون مقابل الأمان؟
هذا الموضوع ضمن هاجس شهر نوفمبر «من نراقب؟ من يراقبنا؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
كمواطن أوروبي، ستكون قد أمضيت سنوات طويلة تسخر من أفكار مثل «الأخ الأكبر» ومراقبة الدولة اللصيقة للمواطنين، وستكون قد اعتبرت ذلك مجرد خيالات سوداوية عند بعض الكتاب مثل «جورج أوريل» بسبب ظروف الحرب العالمية وصعود الفاشية، وستكون أيضًا قد قضيت وقتًا طويلًا في نقد آليات المراقبة في دول الاتحاد السوفييتي السابق.
الخصوصية بالنسبة إليك كمواطن أوروبي أمر محسوم، تشكل هوية وروح الدول التي تعيش فيها، دول العالم المتقدم التي تمكنت من تحقيق نظام يحفظ للمواطنين حقهم في حياة خاصة بدون رقيب.
ربما كان هذا صحيحًا لسنوات طويلة، فبشكل نظري، تبدو الدول الأوروبية مقرة تمامًا بحق المواطنين في الخصوصية، وتحمي قوانينها خصوصية مواطنيها، ويمكن تبين ذلك بفحص بعض قوانين الخصوصية لدى الدول الأوروبية.
ففي فرنسا، تؤكد وزارة الشؤون الخارجية أن الاحترام الفعلي للبيانات الشخصية وللخصوصية أمر أساسي من أجل ضمان سلامة الأفراد، وأنه من الضروري درء الأعمال التي تنتهك الخصوصية، سواء بتخزين البيانات الشخصية بصورة غير شرعية أو الاستخدام التعسفي للبيانات أو كشفها بدون إذن.
أما ألمانيا، فلا يتضمن الدستور هناك الحق في التقرير الذاتي للمعلومات بشكل واضح، لكن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يتضمنه كحق أساسي من حقوق الإنسان، إلا أنه لا يمكن استخدامه كمادة ملزمة قانونيًّا لحماية البيانات والخصوصية.
في هذا الصدد، ينتقد مفوض حماية البيانات في ولاية هامبورغ الألمانية، «يوهانس كاسبر»، في لقاء له مع «DW»، عالم السياسة الذي يرغب باستمرارية المخابرات وشركات الاتصالات في تجسسها، ويرى وجوب حماية الخصوصية بشكل واضح من الحكومات.
«هانز شوماخر»، السفير الألماني لدى مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أكد حق كل إنسان في امتلاك مجال خاص دون تدخل أو مراقبة «دون ضرورة» من الدولة أو جهات فاعلة أخرى، وأنه يجب على مجلس حقوق الإنسان تحقيق توازن سليم بين الشواغل العامة والأمنية المشروعة، وحق الإنسان الأساسي في الخصوصية في العصر الرقمي.
تنطق الصورة القانونية للاتحاد الأوروبي إذًا بمدى حرصه، نظريًّا، على حق مواطنيه في الخصوصية، وتتضافر الجهود الحكومية للدول الأعضاء لضمان هذا الحق، سواءً كان متصلًا أو غير متصل بشبكة الإنترنت.
ظلت صورة أوروبا مشرقة في ما يخص احترامها للخصوصية لسنوات طويلة، لكنها انهارت عام 2013، حين أقدم شاب أمريكي يُدعى «إدوارد سنودن»، يعمل كمتعاقد فني وعميل لدى وكالة الأمن القومي الأمريكية، على الهروب من الولايات المتحدة ليكشف فضيحة الوكالة بشأن الشراكة والتعاون الاستخباراتي مع دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية ومكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية، واشتراكهم في اختراق خصوصية المواطنين.
بعد طلبه الجوء إلى روسيا وتسليمه كل الأدلة إلى صحيفة الغارديان البريطانية، رتَّبت صحيفة «سبيغل» الألمانية لقاء مع سنودن، الذي انتقد أساليب وكالة الأمن القومي الأمريكية في التعدي على خصوصية شعوب العالم بأكمله، بالتعاون مع شركات الاتصالات، لاستهداف الأفراد من خلال محتويات حسابات موقع فيسبوك والبريد الإلكتروني.
حينها، أعلن «هانز جورج ماسن»، رئيس المكتب الفيدرالي لحماية الدستور والمسؤول عن التصدي للجاسوسية، أنه لا يمتلك أي معلومات تنفي أو تثبت تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكية على شبكة الإنترنت الموجودة في ألمانيا.
أوروبا تحت المراقبة
وفق ما كشفه سنودن بشأن فضيحة التجسس واسعة النطاق، استخدمت أجهزة الاستخبارات الأمريكية إطار ما يسمى «الملاذ الآمن»، الذي سمح لأكثر من أربعة آلاف شركة بإجراء عمليات تجارية عبر المحيط الأطلنطي، وتنظيم عملية تبادل البيانات بين شركات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
اقرأ أيضًا: إدوارد سنودن: خصوصية الإنترنت التي حولت جاسوس أمريكا إلى لاجئ في روسيا
على إثر الفضيحة، ألغت أعلى محكمة أوروبية عام 2015 إطار «الملاذ الآمن»، وحلت مكانه الاتفاقية المثيرة للجدل «درع الخصوصية الأوروبية الأمريكية»، التي أقرتها اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لتدخل حيز التنفيذ عام 2016.
تنص الاتفاقية على حماية تدفق المعلومات بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا عبر الأطلنطي. ومن أجل الحفاظ على الحق في الخصوصية ضمن الاتفاقية، يقدم مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية «التزامات كتابية» بأن البيانات الشخصية للأوروبيين لن تخضع للمراقبة الجماعية، ويُجري الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مراجعة سنوية للتأكد من أن النظام الجديد يعمل بشكل صحي.
وتعهد البيت الأبيض بجمع البيانات المرسلة من الاتحاد الأوروبي في ظل شروط محددة مسبقًا «قدر المستطاع»، وأكد أنه يتعين على الشركات حذف البيانات التي لم تعد تخدم الغرض الذي جُمعت من أجله، بالإضافة إلى استقلالية الشكاوى عن الأجهزة الأمنية الوطنية.
إغراق أوروبا في الهوس الأمني يؤدي إلى الإتيان شيئًا فشيئًا على قيم الإنصاف والمساواة، التي قام عليها الاتحاد الأوروبي عند تأسيسه.
التساؤل هنا ليس فقط عن صلاحية التدابير لحماية الحق في الخصوصية، بل عن النتيجة المرجوة منها أيضًا، لنصطدم باعتراف الاتفاقية بأن الإرهاب «لا يمكن هزيمته نهائيًّا بأي شكل من الأشكال».
في الوقت نفسه، أبدت منظمة العفو الدولية تخوفها من التوسع المستمر لمفهوم الدولة الأمنية في أوروبا، إذ انضم كثير من بلدان الاتحاد الأوروبي مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبولندا والمجر والنمسا وبلجيكا وهولندا إلى طابور «الدول التي تجيز المراقبة الجماعية للبيانات»، خصوصًا مع إصدار قوانين جديدة تجيز القيام بمراقبة جماعية على نطاق واسع، وتمنح صلاحيات واسعة لأجهزة الأمن والمخابرات.
رقابة أكثر
يتجاهل صناع القرار في أوروبا الإجراءات والسياسات المرتبطة بالمراقبة التي تتوافق مع المعايير القانونية، ويطبقون المراقبة دون سبب قانوني أو ضررورة تُذكر.
بعد الفضيحة الكبرى التي كشفها سنودن، كان من المتوقع أن تُكثِّف أوروبا من شفافيتها ورقابتها على الأجهزة الأمنية، لكن العكس كان صحيحًا: أصبح التطفل والمراقبة فوق القوانين والحقوق الإنسانية.
وعلى مستوى الدول الأعضاء، كان الاتجاه واضحًا لتوطيد عمليات المراقبة الجماعية أكثر:
- تبنت فرنسا قانونًا مثيرًا للجدل بشأن المراقبة، يُتيح التدخل في الحياة الشخصية للأفراد المشتبه بهم، ومن يتواصل أو يسكن أو يعمل معهم، دون إذن قضائي مُسبق.
- اعتمد البرلمان الألماني قانونًا جديدًا يُلزم شركات الاتصالات ومزودي خدمة الإنترنت بإمكانية استعادة البيانات حتى 10 أسابيع.
- تنوي الحكومة البريطانية زيادة صلاحيات السلطات لتنفيذ الرقابة الجماعية وجمع المعلومات بكميات كبيرة.
- تناقش النمسا مسوَّدة قانون تسمح لوكالة استخبارات جديدة بالتعامل مع المراقبة الخارجية المنخفضة وجمع وتخزين بيانات التواصل حتى ست سنوات.
- شَرَّعت هولندا مراقبة جميع وسائل الاتصال بهدف جمع البيانات على الإنترنت، دون تمييز حتى للأفراد غير المشتبه بهم.
- أدخلت فنلندا تعديلات في الدستور من أجل إضعاف حماية الخصوصية، وتسهيل عمل الأجهزة العسكرية والاستخباراتية وتوسيع صلاحياتها، بهدف المراقبة الجماعية.
أما على مستوى الاتحاد الأوروبي ككل، أكدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن مبدأ المراقبة الجماعية يتعارض مع الحق في الخصوصية، رغم اقتناعها بضرورة استخدام البيانات الخاصة لصد الهجمات الإرهابية. وتقتضي هذه الضرورة باستخدام وتخزين المعلومات المُصرح بها تحت حالات استثنائية ومحددة، ومصحوبة باحتياطات قانونية مناسبة وإشراف مستقل، مع إلغاء أي إجراءات لا تتسق مع احترام الحق في الخصوصية.
يتجاهل صُناع القرار في أوروبا كل هذه الإجراءات والسياسات المرتبطة بالمراقبة التي تتوافق مع المعايير القانونية، بل يطبقون المراقبة دون أي سبب قانوني أو حتى ضررورة تُذكر.
كل ذلك يعطي سلطات واسعة للحكومات والأجهزة الأمنية، ويخلق خطرًا واضحًا في سوء استخدام المراقبة وتطبيقها، لتتحول إلى سلطات استبدادية من شأنها جعل حياة الأفراد أقل خصوصية، وبالتالي تهدد مشاركتهم بحرية في الحياة العامة، لأنها تضعف حرية التعبير وتداول المعلومات.
قد يهمك أيضًا: مستقبل الخصوصية: هل نخوض حربًا خاسرة؟
ذئاب منفردة
ضرب الإرهاب أوروبا مجددًا في عام 2015 بعد 10 سنوات من الهجمات الإرهابية في لندن، والنتيجة: مئات القتلى وحرب على ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما أدى إلى انتشار الخوف وتفعيلٍ أقوى للمراقبة الجماعية ومعاناة الشعوب من إرهاب متواصل.
فقدت أوروبا 364 من مواطنيها في 17 هجومًا إرهابيًّا نفذها ما يسمى «الذئاب المنفردة»، أي مجموعات صغيرة من شخصين أو ثلاثة كحد أقصى، كبَّدت الأوروبيين خسائر مادية كبيرة وأحدثت خرابًا في عديد من المواقع والرموز التاريخية المهمة، وتحولت إلى كابوس جديد للأجهزة الأمنية.
كل إجراءات التجسس لا تعيد حالة الأمان، لأن المراقبة لم تُسفر عن إيقاف أي عملية إرهابية، بل يُساء استخدامها.
مع استغلال بعض الحكومات التهديدات الإرهابية، يُستهدَف أشخاص يمارسون بشكل قانوني حقوقهم المتعلقة بحريات التعبير عن الرأي، وتشكيل الجمعيات والتجمع، والمهاجرين واللاجئين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والناشطين، وأفراد الأقليات، عن طريق تطبيق القوانين التي تعرِّف الإرهاب على نحو فضفاض جدًّا.
أصبح يُنظر على نحو متزايد إلى التمييز الذي تمارسه الدولة ووكلاؤها على أنه مقبول في سياق الأمن القومي، لكنه ليس كذلك على الإطلاق.
خلْقُ أوروبا جديدة غارقة في الهوس الأمني والخوف والتغريب والتعصب والتحامل يؤدي إلى الإتيان شيئًا فشيئًا على قِيم الإنصاف والمساواة وعدم التمييز، التي قام عليها الاتحاد الأوروبي عند تأسيسه. يجب على الحكومات الأوروبية أن تبادر إلى تجديد تعهدها بصون واجباتها الدولية على صعيد حقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب، لوقف الانحدار المستمر الذي يشهده كثير من مجالات حقوق الإنسان هناك.
وفي محاولة لفهم تأثير فعالية المراقبة الجماعية كحاجة مُلحة في الحرب على الإرهاب، رأت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا أن الإرهابيين والمجرمين قد يستغلون محاولات أجهزة الاستخبارات لإيجاد ثغرات لجمع البيانات.
يُحيط الإرهاب أركان أوروبا كلها، لكن لا ينبغي أن تحاصَر القارة في دائرة رعب دائمة. صار من الطبيعي أن تتجسس الحكومات وتراقب المواطنين وتجمع بياناتهم دون تمييز، سواءً كنت مؤيدًا أو معارضًا لسياسات الحكومة، فالمراقبة تطول الجميع. المعضلة هنا إذًا أن كل هذه الإجراءات لن تعيد حالة الأمان، لأن عمليات المراقبة لم تسفر عن إيقاف أي عملية إرهابية، بل يُساء استخدامها.
يقول المثل: «إذا لم يكن لديك ما تخفيه، فليس لديك ما تخاف منه»، ومن المفترض أن تتعامل الحكومات مع الأفراد على أساس عدم إدانتهم حتى يثبت العكس، أما من خلال منظور هذا المثل، فإن المراقبة الجماعية تعني فحص الأنشطة اليومية والمحادثات الخاصة كما يحدث في المحكمة تمامًا.
اقرأ أيضًا: الأمن السيبراني: حماية من الأخطار الرقمية أم انتهاك للخصوصية؟
لتقريب فكرة العلاقة العكسية بين المراقبة والحرية الفردية، يقول الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو»، في كتابه «المراقبة والمعاقبة»، إن يقين السجين بمراقبته طوال الوقت يجعله حاملًا للسلطة داخله، أي أن مَن يمارس السلطة ليس مهمًّا بشخصه، فأي فرد يستطيع أداء دور المراقب حتى وإن جاء صدفة، فتتولد عبودية لا تحتاج إلى القوة لإكراه المسجون على السلوك وفقًا لتعليمات مفروضة عليه، بل تصبح العبودية جزءًا من السلوك الاعتيادي له.
يرى فوكو أيضًا أن المراقِب يستطيع بصورة دائمة تغيير مسلك المراقَبين، عبر متابعتهم واكتساب المعرفة التي تجعل سلطته مستقرة. ويمكن تطبيق هذه النظرية على المؤسسات مع الاقتصاد في الموارد والأشخاص والوقت، بتخفيض عدد ممارسيها مع الإكثار في عدد من تُمارَس عليهم. فحتى لو لم يكن لديك ما تخفيه فعلًا، فلديك بالتأكيد ما تخاف عليه.. يجب أن تخاف على نفسك.
محمود سعيد موسى