نحن والدولة: ماذا تفعل بنا فكرة «التنظيم»؟
يسخر الأمير «أليكسيفيتش كروبوتكين»، أبو الأناركية الروسية، ممَّن «يعتبرون البشر مجموعات همجية ستنهش بعضها بعضًا إذا غابت الدولة عن العمل»، الذين يظنون أن للدولة وللملكية على حد سواء دورًا محوريًّا في تنظيم الجماعات البشرية، مستندين إلى قدسية هذا المكتسب التاريخي البشري، ويرفضون، بل لا يؤمنون قطعًا، ببدائل تنظيمية غير تلك التي تتحدد بحاكم ومحكوم، رئيس ومرؤوس، مُلَّاك وعُمَّال، وتسري بين سلاسل العمل المضني وأركان المكاتب الباردة.
يدعم هؤلاء نظرتهم بشتى الوسائل والحجج، يقفون موقف المعارض لأي تحرك شعبي للتملص من سلطتهم، يقمعونه بكامل وحشيتهم، يقيمون كل الذرائع لفعلهم ذاك، ذرائع قال التاريخ رأيه فيها، وكذلك فعل الفكر والمفكرون، بل ودعوا إلى رميها في المتاحف كباقي موروثاتنا المؤلمة، وتحكيم العقل والإرادة الحرة التي تحدد إنسانيتنا.
الدولة، السلطة، القانون
تعيدنا نشأة الفكر القانوني الوضعي إلى العلاقة التي تربط مكونات ثلاثة أساسية تأخذها فلسفة السياسة موضوعًا لها: الدولة، والسلطة، والقانون. أو بتعريفها المبسط كتنظيم سياسي مهمته إدارة واقع ما لشعب ما في مجال جغرافي ما: «تَشَكُّل الفكر القانوني والحقوقي في المجتمعات الغربية، منذ العصر الوسيط، وتمحوره حول السُّلطة المَلَكية قد تأسس بطلب من السُّلطة المَلَكية ومن أجل مصلحتها ومن أجل أن يخدمها كوسيلة، وهكذا تكوَّن الصرح القانوني لمجتمعاتنا».
يبين المتحدث، وهو الفيلسوف وعالم النفس والاجتماع الفرنسي «ميشيل فوكو»، الدافع الأول إلى مأسسة القانونية بشكلها الحديث في الدول الغربية، التي بدورها لم تنفصل عن التغيرات المادية في نمط الإنتاج، بل واكبت سيرها خلال منعطفات التاريخ، وغيرت شكلها ومقصدها كلما استُدعِيت لتحل محل الفصل والتنظيم في واقع معين.
هذا ما أبرزته التحولات السياسية التي عرفتها أوروبا القرن الثامن عشر، وأظهرها الفكر التنويري، بحيث لم يتم نقد العلاقة بين القانون والدولة حتى في أكثر لحظات التاريخ ثورية، فبرز لنا مفكرون أمثال «لويس دو غراف مونتسكيو» و«جان جاك روسو» و«توماس هوبز»، أوجدوا فهمًا جديدًا للدولة وأساسًا قانونيًّا جديدًا مبنيًّا على التعاقد، تعاقد بين المواطنين والدولة يضمن حرية الاختيار، المِلكية والمبادة في إطار حماية المصلحة العامة.
وعي كهذا لم يكن بالمرة منفصلًا عن تغيرات البنية التحتية، أي تغيرات الواقع الاقتصادي والاجتماعي في أوروبا، بل جاء نتاجًا له، ثورة البورجوازية على الأرستقراطية ونمط الإنتاج الرأسمالي على الإقطاعية بشعارات الديمقراطية والحرية، التي كانت مطالب ذات تصورات معينة تحمل هَمَّ فئات معينة من الشعب، وليس كل الشعب.
سيبقى القانون والدولة مرتبطين، متزينين بحُلَّتهما الانقلابية الجديدة تحت عنوان عريض هو الاشتراكية العلمية، الفكر الذي نشأ في كنف الواقع العمالي المؤلم ووحشية الرأسمالية، فكان «شبح الشيوعية» كما أسماه «كارل ماركس» في بيان الحزب الشيوعي، داعيًا العمال إلى الاتحاد في وجه جلَّاديهم بجملته الشهيرة «ليس للعمال ما يخسرونه سوى أغلالهم»، فأعطى تصورًا لدولة زاد في أزماتها من سار على نهج ماركس، بل وطبق فكره على أرض الواقع.
أقصد هنا قُوَّاد الثورة البلشفية وزعماءها: «لينين» و«تروتسكي» و«ستالين»، ومن لفَّ لفهم في باقي بقاع العالم. ولم ينجُ هذا النظام الجديد، أو النموذج السياسي الجديد، من مخلفات سابقيه الكارثية، بل خلَّف أثرًا أكثر همجيةً ممَّن سبقه.
بدعوى ديكتاتورية البروليتاريا، تركزت السُّلطة السياسية والاقتصادية في يد المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وسُحق العمال باسم الثورة الشعبية في معامل السلاح بأوكرانيا، وفُرض تحت شعار الشيوعية نمط عيش موحد على ملايين البشر، وكان الكولاك (حمَّام الصقيع) مآل المعارضين والمستنكرين لهذه الكارثة الإنسانية.
في نفس الوقت لم تبقى الدولة كمفهوم خالصة، مجردة، ثابتة أمام تغيرات الواقع المحدد لفعلها، بل طورت نفسها تنظيمًا وممارسةً في ذاتها، وأقصد هنا تطورها من الداخل والتغيرات الطارئة على أدوات بَسْط هيمنتها.
أدوات البيروقراطية: الإعلام والاستهلاك، غدت تقييدًا للحرية أكثر فأكثر، وتجريدًا من الإرادة الفردية المحددة لكينونة الشخص، بحيث عاد الفرد الآن فريسة سهلة تتأرجح بين أنياب البيروقراطية ومخالب الشركات الاستثمارية، وفي الحالين كان مكبلًا بأغلال قانونية، كسرها يساوي ضياع حياته.
يحيلنا هذا إلى أن أزمة التنظيم العمودي كالدولة ولمؤسسات الحزبية والشركات هي أزمة بنيوية، تُنتج نفسها ما دامت السُّلطة محتَكَرة من طرف القِلَّة، وما دامت ممارستها من الأعلى نحو الأسفل باقية، حتى في التنظيمات الديمقراطية بشكلها المعاصر.
غير أن ميشيل فوكو، وهو الذي انشغل بالكشف عن السُّلطة طَوَال مساره الفكري، يحيلنا إلى تصور أكثر تعقيدًا بكشف فعاليات سلطوية متعددة مستقلة بذاتها وممارستها، تنتشر في الواقع، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسُّلطة السياسية، ممَّا يضعنا أكثر فأكثر في وجه شبكة سلطوية مستقلة عنا كأفراد، تحركنا بشكل جماعي، وتلتقي في ما بينها ونلتقي معها في رأس هرم التراتبية التنظيمية، وهو ما يوضح لنا بجلاء أن للأزمة اسم واحد، هو السُّلطة.
أزمة الدولة العربية
للشعوب العربية اختلاف كبير عن نظيرتها الغربية، اختلاف يكاد يتماهى إذا ما نظرنا إلى بِنَى السياسة الراهنة، أو بالأحرى خطابها العام، مظهرها الخارجي، تكتلاتها الدبلوماسية في بعض الأحيان، فيتبين أنها أنظمة بيروقراطية، لكنها مُهيكَلَة بمؤسسات تؤدي الوظيفة نفسها التي تؤديها مثيلاتها في باقي أقطار العالم، ترفع شعارات الديمقراطية والمساواة، الشعارات التي لم تنتج عن عقل أصيل، ولم تنشأ في تربة هذه الأقطار.
الواقع يقول إن الأنظمة العربية فاشلة في حل أزماتها، والأزمة هنا تتعدى إرادة الأشخاص، ومن الممكن تسجيلها في نقاط، نسطرها في ما يلي:
1. القبيلة، والطائفة
يحدد المفكر اللبناني مهدي عامل الطائفية في كتابه «في الدولة الطائفية» بأنها «نظام حكم الطوائف. والحكم هذا مشاركة بينها في توازن دقيق، به تقوم الدولة وبه تدوم». وعلى غرارها ترسخت القبيلة كوحدة اجتماعية تتوسط العلاقة بين الفرد والنظام السياسي، بل فشل النظام السياسي العربي في نفيها، فالعلاقة بين الفرد العربي وطائفته أو انتمائه القبلي سابقة لعلاقته مع الدولة.
الدولة الطائفية والقبلية قائمة على توازن القوى والمصالح بين هذه الوحدات الاجتماعية داخل قُطر موحد، إذا اختلت موازين هاته القوى اختل النظام واندلعت حروب لنا فيها تاريخ، من الحرب الأهلية اللبنانية إلى الثورة السورية وانتهاءً بالحروب في اليمن.
نظام كهذا يحدد لنا واقعًا ماديًّا ويتحدد به، واقع يختلط فيه السحق الطبقي بالتناقضات القبلية والطائفية، يُقحم المسحوقين في نزاعات دموية لا تعبِّر عن موقعهم الطبقي، ويجعل أرواحهم ومصائرهم عُملَة تراهن بها القوى الخارجية على مصالحها في المنطقة.
2. الشيخ، والمُريد
سطوة الوعي الديني التقليدي تضعنا أمام أنظمة سلطوية يمتزج فيها السياسي بالديني، وتستخدمها جماعات معينة لإثبات مشروعيتها وفرض هيمنتها على الشعوب، ويكون فيها الشيخ ناطقًا باسم السلطان، والمسجدُ مؤسسةً لإنتاج خطاب الإذعان.
يحدث هذا حتى وإن كان في الجانب المقابل للسُّلطة السائدة، فالمعارضة الإسلامية لم توجد حلًّا ماديًّا للإشكالات المادية للشعوب، بل استغلت موقعها كبديل، خصوصًا في مرحلة ما بعد ثورات المنطقة العربية، ممَّا يجعلها في موقع لا تختلف فيه عن سابقها، ما دامت تكرِّس نفس آلياته السياسية.
أزمة الدول العربية تكمن في توظيف مفاهيم أوروبية لا تنطبق مئة في المئة على حالها.
3. الوطنية، والسيادة
بعد صدمة الاستعمار، برز الوعي الوطني لمقاومة المد الغربي على أراضي الشرق، وعي كهذا رسم مرحلة العبور من الاحتلال إلى سيادة الشعوب على أرضها، سيادة لم تكتمل، بل وضعت تلك الدول نظرًا لضعفها الاقتصادي والعسكري تحت رحمة تقاطع القوى العالمية، فانقلب الوعي الوطني أداةً للهيمنة الداخلية في تبعيتها للقوى الخارجية، وشعارًا رجعيًّا يحُول دون استمرار التغيير الضروري لتحقيق آمال الشعوب.
4. موقع اليسار، وموقع الشعوب
لم تسلَم الشعوب العربية من تسرب جذور اليسار إلى وعيها العام، في سطوة جاءت متزامنةً مع الحرب الباردة، ذلك الصراع بين قطبي العالم الكبيرين الذي سيطر على القرن العشرين، وعي كهذا كان بمثابة الأمل العربي الذي نَحَى عدة مناحي، لا سيما في امتزاجه بحلم الوحدة الشاغل لكل العرب.
لكن اليسار لم يكيف نفسه وسط واقعنا، بل أتى بسياق مفاهيمي مناقض لحالنا، ممَّا جعل ممارسته تشبه ما فعله دون كيهوتي حين حارب طواحين الهواء.
هذه المشكلة، مشكلة توظيف مفاهيم استُمِدَّت من تحليل الواقع الأوروبي، تعني أننا نتحدث لغة في غير مجالها الحيوي والتداولي الأصلي، بحسب ما يعبر عنها المفكر محمد عابد الجابري، وهي من الأزمات التي قلصت الممارسة اليسارية إلى بحث عن اعتلاء الكراسي والمناصب، فصار دورها لا يختلف عن باقي مكونات المشهد السياسي، وقُزِّمت بفعل نزوعها السلطوي حتى أصبحت لا أكثر من ورقة في يد من يتشبثون بخيوط العمل السياسي في المنطقة.
البديل اللاسلطوي
- هل أنت يساري؟
= كلا
- إذًا، أنت يميني؟
= كلا
- فماذا تكون؟
= أنا أناركي
هكذا عرَّف الفيلسوف الفرنسي «بيير برودون» موقفه السياسي كحامل لوعي لا يؤمن بأي سلطة، ويأسس معها قطيعة، قطيعة تضعنا أمام السؤال تاريخي الذي تحيطه الرهبة: ما مآلنا لو لم تكن هناك دولة تنظمنا؟
من المغالطات اللغوية التي يحملها لفظ «أناركي» (Anarchy)، الذي يُترجَم إلى «فوضى» في اللغة العربية، التصور الذي يؤمن أنه معناه انعدام النظام، بينما هو تحول من التنظيم العمودي، الذي نعرفه في زمننا الحالي من حيث تراتبية السلطة، إلى تنظيمات أفقية تتداول قراراتها بمشاركة جماهيرية مباشرة في الصناعة والاختيار.
هنا يتحول النزوع إلى التسلط نزوعًا إلى المصلحة، والمِلكية إلى تعايش ضروري، والحرية تتجسد كاملةً بإرادة الفرد وسط الجماعة، وفي واقع كهذا تضمحل ضرورة وجود سلطة تنظيمية.
للأناركية امتدادات تاريخية وتجارب مشرقة في العالم، استمرت ونجحت قبل أن تُغتال بقوة السلاح، مثلما حُكم على تجربة الكميونة الباريسية أو حركة «الزاباتيستا» في المكسيك بنهايات تعيسة، فتكتلت فيها قوى متعارضة متناحرة في المبدأ، توحدت في وجه التهديد الذي دقَّ ناقوس انتهائها، لتعلن أن البديل لوحشية السلطوية موجود وممكن التطبيق.
في وقتنا الحالي، يحمل عديد من المفكرين الأناركية ويدافعون عنها باستبسال، مثل المفكر الأمريكي «نعوم تشومسكي»، وتناضل من أجلها حركات عمالية نقابية وحركات احتجاجية، ازدهرت في وجه صعود اليمين المتطرف في عديد من أقطار العالم.
أما الشعوب العربية فيجب أن تعيد النظر في علاقاتها بتنظيماتها السياسية، خصوصًا بعد انتكاسة أحلام ما أُطلق عليه «الربيع العربي»، فبقاع مثل سوريا واليمن، التي لم تهدأ فيها الحرب الأهلية بعد، تمنح تربةً خصبةً لنمو وعي كهذا يَجبُر جراح الشعوب ويوحدها، ويمنع إعادة تكرار نفس المآسي، وكذلك الواقع الفلسطيني الذي بدأ ينتج تجارب شعبية مثيرة للإعجاب، مثل انتشار الاقتصاد التعاوني، الذي يعتبر الأساس الإنتاجي الاقتصادي لفكر اللاسلطوية أو الأناركية.
سفيان البالي