لأن محبتنا للحرب ضرورية: كيوبريك ونولان

محمد عمر جنادي
نشر في 2017/12/18

لقطة من فيلم «Dunkirk» - الصورة: Syncopy

هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


المقارنة بين المخرجَين «كريستوفر نولان» و«ستانلي كيوبريك» أشبه بالمقارنة بين الكاتبين «هاروكي موراكامي» و«ياسوناري كاواباتا». هكذا فكرتُ، بعد المقارنات التي عُقدت بين نولان وكيوبريك عقب فيلم «Dunkirk»، فيلم نولان الأخير.

بدت الفكرة بالنسبة لي كبديهية فنية، أو كإيجاز لعدد من الثنائيات والجماليات والتناقضات. يمكننا أن نعيد، من خلال مثل هذه المقارنات، طرح أسئلتنا عن قيمة العمل الفني، وعن السينما والصراع بين كونها فنًّا وصناعة في آنٍ، وعن التفاوت بين فنان وآخر في القدرة على الكشف عن «الشرط الإنساني».

عن الاستقلالية والتمرد والالتزام السياسي، عن البروباغندا والرضوخ لآليات الإنتاج وشروطه المادية.

تقدم لنا المقاربة الأدبية للجدل السينمائي حول كيوبريك ونولان توضيحًا للفروقات بينهما، أو هكذا ظننت. فتاريخ الأدب، بوصفه أقدم من تاريخ السينما، ترسخ عبره عديد من الجماليات والمعاني التي أسهمت في تراكم نوع من خبرة التلقي.

ولعامل الزمن دور مهم في بيان أسباب خلود أعمال أدبية بعينها، وبقاء عدة أسماء في تاريخ الأدب عصية على الموت.

تخيلت أن اسم الكاتب الياباني الكبير ياسوناري كاواباتا، بجوار اسم مواطنه موراكامي، سيؤدي إلى تقزيم الأخير، وبذلك تتضح عبثية تشبيه نولان بكيوبريك وزيف المقارنة بينهما.

قد نتشارك في الميل إلى كيوبريك وكاواباتا على حساب نولان وموراكامي، وقد يختلف كثيرون مع مثل هذا الانحياز. لكن، في مقابل الإيمان المطلق بأهمية كاواباتا وأفضليته على موراكامي، من ناحية الرؤية والأسلوب والعمق الإنساني، فإننا نقف متشككين إزاء إيمان مماثل في حالة كيوبريك/نولان.

في حالتي، فإن استحضار الدرس الهيتشكوكي يُدخِل الشك إلى مثل هذا الإيمان.

لا أقصد درس المخرج «ألفريد هيتشكوك» عن «التشويق»، وإنما النظر إلى ما وراء الصنعة عنده. وهذا ما فعله مخرجو الموجة الجديدة الفرنسية، خصوصًا «فرانسوا تروفو»، الذي أخذ على عاتقه مهمة تحرير هيتشكوك من سمعته كصانع تسلية خفيف.

المقارنة بين نولان وكيوبريك عائد إلى تشابه آخِر فيلمين لنولان مع فيلمي كيوبريك «Space Odyssey» و«Fulll Metal Jacket».

في المحاورات التي أجراها المخرج الفرنسي «فرانسوا تروفو» مع هيتشكوك، وضمها بعد ذلك في كتاب صدر منتصف الستينيات، ومن خلال تحليل أفلامه والقراءة الخلّاقة لها، أُعيد النظر إلى هيتشكوك كـ«صاحب أسلوب» حقيقي ومفكر بصري يمتلك تأملاته الخاصة عن الإنسان والوجود، والأهم، عن فن السينما كوسيط تعبيري، فهو من أوائل من امتلكوا إدراكًا مفارقًا لطبيعة السينما وماهيتها ولغتها.

فكرتُ أنه من الوارد جدًّا أني مخطئ في التعامل مع نولان كمجرد مخرج منفذ، فربما نولان، المولود في لندن مثل هيتشكوك، ليس مجرد حِرَفي من الطراز الأول وصانع أفلام «Blockbuster» (عالية التكلفة والإيرادات) مختلفة تفتقر إلى ما هو جوهري في الفن، رغم توظيفها للتقنيات التكنولوجية الحديثة. فكرتُ أن القراءة المتأنية في جماليات أعماله من شأنها أن تُسفر عن نظرة مغايرة.

الحديث عن «فلسفة» لكريستوفر نولان متحقق بالفعل، وكثيرون يتحدثون عن رؤيته للذات الفردية والمجتمع والزمن.

ربما كان الاستعجال في المقارنة بين نولان وكيوبريك عائدًا إلى تشابه آخر فيلمين لنولان، «Dunkirk» و«Interstellar»، في نوعيهما الخيال العلمي والحرب، مع فيلمي كيوبريك «2001: A Space Odyssey» و«Full Metal Jacket»، لا لأي سِمات جمالية أخرى.

بالطبع، لا يُفترض بكل مخرج مهم أن يضاهي مخرجًا عظيمًا سابقًا له في تناوله لأحد الموضوعات، فلكلٍّ منطلقاته وأسلوبه وانشغالاته وخياراته الجمالية والسياسية. غير أن ثَمّة مقارنات مجدية يمكن أن نعقدها بين فيلم نولان الأخير وفيلم كيوبريك «Full Metal Jacket» بوصفهما فيلمين عن الحرب.

مثل هذه المقارنة يمكنها أن تكشف لنا معنى الحرب والكيفية التي تُشكِّلنا بها، وتطرح أسئلة عن النوع السينمائي (Genre)، وعن الفن والبروباغندا. ويمكننا من خلال كل هذا أن نرى كيف يصبح فيلم ما مناهضًا للحرب، وكيف يصير فيلم آخر مبررًا لعبثيتها وخرابها.

دنكيرك: الحرب بين المغامرة والمعجزة

إعلان فيلم «Dunkirk»

فيلم «دنكيرك» يولي ظهره لكل الكليشيهات العاطفية المتكررة في الأفلام الحربية ويكتفي بالحدث الأصلي، وهو حدوث المعجزة بالفعل.

يقدم نولان في «دنكيرك» محاكاة شديدة الدقة للحدث التاريخي، وهو عملية الإخلاء الشهيرة لأكثر من 300 ألف جندي في بداية الحرب العالمية الثانية.

يستحضر الفيلم أجواء شواطئ دنكيرك الفرنسية بعد نجاح القوات الألمانية في حصار قرابة 400 ألف جندي من الجيش البريطاني والفرنسي. استطاعت القوات النازية بعد نجاحها في اجتياح بلجيكا وفرنسا أن تدفع القوات البريطانية والفرنسية تجاه البحر.

وحسب الأرشيف الواقعي لما جرى، أي المواد الوثائقية المتوفرة كالصور ومقاطع الفيديو والشهادات، فإن نولان أعاد خلق الأحداث بدقة مشهدية بالغة الأثر.

الفيلم يولي ظهره لكل الكليشيهات العاطفية المتكررة في الأفلام الحربية، مثل ذكريات الجنود عن الوطن وصور حبيباتهم وأُسرهم، مكتفيًا بالحدث الأصلي، وهو حدوث المعجزة بالفعل. فنظرًا لأن عمق الشاطئ لا يتيح استقبال البواخر العملاقة والحربية، صُنع جسر بحري من القطع الملكية البريطانية ومئات السفن المدنية والتجارية وزوارق الصيد، التي جاء أصحابها لحمل من في مقدورهم حمله من الجنود والعودة بهم إلى الوطن.

نجحت عملية إجلاء الجنود وإنقاذ الجيش البريطاني من الهلاك، من الجحيم النازي خلفهم، وطائرته فوق رؤوسهم، جحيم يدفع الجنود إلى إلقاء أنفسهم في البحر أملًا في البقاء على قيد الحياة.

قد يهمك أيضًا: ما لم يحكِه كريستوفر نولان في فيلم «دنكيرك»

هدف نولان من استبعاد الشخصيات الدرامية وحكاياتها الإنسانية كان وضع المُشاهد وسط معمعة الأحداث دون مقدمات، وخلق تجربة مشاهدة تُحاكي الحرب في تأثيرها.

وسائل نولان لتحقيق تلك الغاية هي الاعتماد على الشريط السينمائي 65 ملليمترًا بدلًا من الصورة الرقمية، والتصوير في مواقع الأحداث الفعلية، واستخدام معدات حربية حقيقية وأعداد كبيرة من المجاميع وصلت إلى قرابة ستة آلاف فرد. كذلك، أسهمت موسيقى «هانز زيمر»، التي تصاحبنا طوال أحداث الفيلم، في تصاعد التوتر والحفاظ على ذروته كلحظة أبدية.

كيف يمكن سرد الحرب؟

لقطة من فيلم «Dunkirk» - الصورة: Warner Bros

إجابة كريستوفر نولان تجلّت في رؤيته للزمن، ونقض البنية الكرونولوجية (التوقيتية) له. نولان مولَع بالسرد غير الخطِّي أو غير المتعاقِب، كما يظهر في غالبية أفلامه. في «دنكيرك»، نرى التوظيف الأمثل لهذا النمط السردي عبر التنقلات الزمنية بين ثلاث حكايات متوازية متفاوتة المكان والزمان:

  1. المرفأ: انسحاب الجنود، وزمنها أسبوع
  2. البحر: مشاركة يخت مدني في الإنقاذ، زمنها يوم
  3. الجو: تغطية طيار بريطاني لعملية الإجلاء، زمنها ساعة

يمكِّننا الارتحال زمنيًّا في الفيلم والتناوب بين الثلاث حكايات من تعميق رؤيتنا للتفاصيل. النسبية الزمنية للأحداث عبر مطالعتها من أزمنة مختلفة تخلق نوعًا من التوتر والانغماس في اللحظة، وتُجلي القيمة الأبرز التي حاول نولان إيضاحها والتركيز عليها: النجاة.

كيف يرى كريستوفر نولان الحرب؟

لقطة من فيلم «Dunkirk» - الصورة: Warner Bros

فكرة «النجاة» هي بطل «دنكيرك»، النجاة هي كل ما عليك فعله في الحرب، هي غاية الإنسانية والفضيلة الوحيدة التي يجب الظفر بها وسط الدمار. وكما جاء على لسان أحد الجنود في الفيلم: «النجاة ليست عادلة، إنها خوف وطمع».

ربما يبدو «دنكيرك» كأنه بانوراما في مديح الحياة وكراهية الحرب، فهل كان هذا الخطاب كافيًا لجعله فيلمًا مناهضًا للحرب (anti-war movie)، ليجاور عديدًا من الأفلام الأمريكية المهمة التي رفضت الحروب؟

بالرجوع إلى واحد من أفلام هيتشكوك، «Vertigo»، سنرى وراء الحبكة البوليسية وقصة التحري بطولةً للمكان، ممثلةً في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية بتاريخها وبخبرة الوعي الجماعية لأهلها، سنرى دراسة عن الفيتشية وسَبرًا لمعنى الانجذاب الحسي. إنه فيلم عن الحب في مستوى من مستوياته، عن تراجيديا البطل الرومانسي.

لكن عند تقصي ما يعتمل تحت السطح البصري لفيلم «دنكيرك»، سنجد النزوع إلى مقاربة الحرب كمغامرة لاهثة غايتها النجاة. «دنكيرك» فيلم مغامرة يتخذ من الحرب مادة تشويقية.

اقرأ أيضًا: كيف تروِّج المخابرات الأمريكية للحرب في أفلام هوليوود؟

النجاة بعد دنكيرك أمرٌ مؤقت، لكن نهاية الفيلم تتعامل مع فكرة «النجاة» كما تتعامل الأفلام الرومانسية مع «الزواج»، بوصفه نهاية ليس بعدها إلا السعادة.

اختار نولان أن يُنهي فيلمه، المُقِل في الكلام بالأساس، بكلمات رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل في خطابه الشهير، يقرأها الجندي «تومي» من جريدة على مسامع رفيقه، وعلى مسامعنا كذلك، وهما عائدان بالقطار بعد نقلهما بحرًا.

في كلمات تشرشل الحماسية تحفيز على مواصلة القتال وعدم الاستسلام، كلمات مثل «سنحارب»، «سنحارب في البحر والجو والشوارع»، «سندافع عن وطننا مهما كان الثمن»، «سنحارب حتى النهاية».

في تعليق «كين ستاردي» على الفيلم، وهو واحد من المحاربين الذين شهدوا عملية الإجلاء، يقول إنه يشعر كما لو كان هناك مرةً أخرى، كأنه يستطيع أن يرى أصدقاءه القدامى، ثم يذكر أمرًا يبدو عرضيًّا لكنه شديد الأهمية في الحقيقة، هو أن «كثيرًا من أصدقائه الناجين ماتوا لاحقًا في الحرب»، وهو أُرسل بعد ذلك إلى «شمال الأطلنطي».

إذًا، النجاة بعد دنكيرك أمرٌ مؤقت، بينما تتعامل نهاية الفيلم مع فكرة «النجاة» كما تتعامل الأفلام الرومانسية مع «الزواج» بوصفه نهايةً ليس بعدها إلا السعادة. وفي حالة فيلمنا الحربي، النجاة ليس بعدها إلا معاودة القتال، والنصر.

كأن الفيلم يعمل على تقويض غايته في النهاية، تصير النجاة وسيلة للنصر، وليست غاية في ذاتها كما ذهب كثير من الآراء.

ستانلي كيوبريك المتمرد: «وبضِدِّها تتضح الأشياء»

إعلان فيلم «Full Metal Jacket»

يستكمل ستانلي كيوبريك في «Full Metal Jacket» طرحه للأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان، مثلما فعل في «أوديسا الفضاء» و«Eyes Wide Shut» وغيرها. يستكمل سيرة التمرد التي بدأها في أفلامه، من التصوير الملحمي لأيقونة ثورية في «Spartacus»، إلى إعلاء قيمة الحرية والاختيار الإنساني الحر ورفض المحاولات السلطوية لقمع الإرادة كما في «Clockwork Orange».

في «Full Metal Jacket»، يفحص كيوبريك حياة الجندي قبل المعركة، في مركز تدريب المجندين الجدد للقوات البحرية. يقدم الفيلم مقاربة للانضباط العسكري، وهي مقاربة ساخرة رغم النهايات المأساوية لأحداثها. يحلل الرؤى المؤسِّسة لعقيدة الجيش وقائمة محظوراتها: الفردية والتخنيث، وغاية العقيدة العسكرية: تحويل المجندين إلى آلات قتل تخلص العالم من شرور الفيتناميين الشيوعيين. وتجد هذه العقيدة في الرقيب «هارتمان»، المكلف بتدريب الجنود، خير تجسيد لها.

يقسم كيوبريك فيلمه إلى جزءين، ينتهي الأول بالليلة الأخيرة في مركز التدريب، ويبدأ الثاني في فيتنام، حيث نتابع تغطية الجندي الملقب بالجوكر للمعارك ووقائعها، من خلال دوره كمراسل حربي، وذلك بعد أن تعرفنا إليه هو والمجند «ليونارد» داخل مركز التدريب.

يوضح المفكر السلوفيني «سلافوي جيجك»، في فيلمه الوثائقي «The pervert's Guide to Ideology» (دليل المنحرف إلى الأيديولوجيا)، الفارق بين المجند الجوكر والمجند ليونارد، فالامتداد الفاضح للانضباط العسكري الخالص، المتجسد في بذاءة أغاني الاستعراضات العسكرية للبحرية الأمريكية، هذا المزيج من السخافة والبذاءة هو القلب النابض الأصيل للحياة العسكرية، الذي إذا نُزِع ستتوقف الآلة العسكرية عن العمل.

ما يسميه جيجك «فائض البذاءة والسخرية» هو الذي يجعل من الجوكر (أدى دوره «ماثيو مودين») جنديًّا طبيعيًّا، لأن هذا الفائض يمنحه مسافة ساخرة من الحياة العسكرية، فيجعلها قابلة للتحمل. أما الجندي ليونارد فإنه يفقد تلك المسافة الفاصلة، لقد اقترب أكثر من اللازم وبالغ في التماهي مع الطقوس العسكرية، ما أدى إلى انهياره، فيَقتل الرقيب وينتهي به الأمر إلى الانتحار.

هكذا تنتهي الليلة الأخيرة في مركز التدريب، إذ يشهد الجندي ديفيس/الجوكر على انتحار ليونارد. لقد صار آلة قتل ترتد على نفسها والآخرين في النهاية. وبذلك ينتقد كيوبريك الحرب قبل أن يخوضها الجنود، من خلال نقده الجذري للثقافة التي تقف خلفها.

اقرأ أيضًا: الأفلام الوثائقية ترسم معالم الحرب في سوريا

هل كل الحروب متساوية في شرها؟

لقطة من فيلم «Full Metal Jacket» - الصورة: Stanley Kubrick Productions

يفكك كيوبريك البروباغندا في حرب فيتنام بتضمين أبعادها داخل «Full Metal Jacket». لا يفرض انحيازاته قسرًا على المتلقي، بل يخلق حالة شعورية تحرض على الاختيار.

ربما تبدو المقارنة بين «Full Metal Jacket» و«Dunkirk» تعسفية، نظرًا للطبيعة المغايرة لحرب فيتنام عن الحرب العالمية الثانية. فبينما تبدو حرب فيتنام فاقدة للشرعية السياسية والتبرير الأخلاقي، والأهم، للتأييد الشعبي، فإن الحرب العالمية الثانية تدثّرت من قِبل الحلفاء بغطاء أخلاقي بوصفها ضرورة حتمية، حماية للإنسانية من خطر النازية الذي يهدد البشرية بالزوال.

أضفَت النازية على الحرب العالمية الثانية صفة الحتمية، كأنها شرٌّ لا بد منه لتجنب شرور أكبر.

بالعودة إلى أفلام كيوبريك المبكرة، سنجد أن النزعة المناهضة للحرب حاضرة قبل فيتنام. لقد تبلورت في الفترة ما بين الحربين وما بعدها. في «Paths of Glory»، يقدم المخرج الحرب كميدان لصناعة المجد الزائف للقادة الكبار، ويقيِّم المقابلة بين قصور القادة الكبار الفاخرة وخنادق الموت حيث الجنود وصغار الضباط. وفي «Dr. Strangelove»، يرسم كوميديا سوداء عن جنرال مجنون وكارثة الخطر النووي.

يفكك كيوبريك البروباغندا في تناوله لحرب فيتنام بتضمين أبعادها داخل الفيلم. لا يفرض انحيازاته قسرًا على المتلقي، وإنما يخلق حالة ذهنية وشعورية تحرض على الاختيار، ويُبرز ازدواجية الإنسان المعاصر، إذ يصور الجندي الجوكر مرتديًا فوق رأسه خوذة مكتوبًا عليها «Born to kill» (وُلِد ليَقتل)، وفي الوقت نفسه يضع الدبوس الذي يحمل رمز السلام.

النوع السينمائي: بين التمرد عليه والخضوع له

لقطة من فيلم «2001: A Space Odyssey» - الصورة - :Stanley Kubrick Productions

ينطوي «دنكيرك» على شكل معكوس من «التناقض الأدائي» (Performative Contradiction) بتعبير الفيلسوف الألماني «يورغن هابرماس»، أي أنه ليس كغيره من الأعمال الفنية التي يمكن أن يدمر شكلُها المحافظ قولَها الراديكالي.

اتخذ «دنكيرك» بعدًا تجريبيًّا، نوعًا من النهج الراديكالي لإزالة الأُلفة عن عالم الأفلام الحربية، لكن خطابه ليس على نفس القدر من الجذرية. «دنكيرك» فيلم راديكالي على مستوى الشكل السردي/البصري، ومحافظ على مستوى أقواله أو خطابه.

إذا نظرنا إلى أعمال كريستوفر نولان، سنلاحظ حرص كثير من محبيها على إكسابها قيمة من خارجها.

انطلاقًا من هذه النقطة، يمكننا القول بأن كريستوفر نولان لا يجدد في النوع السينمائي الذي يختاره، وإن أبدى غير ذلك. طاقته موجهة إلى صنع فيلم تجاري عالمي في المقام الأول.

وخلافًا لنولان، كيوبريك صاحب طاقة تخريبية للأنواع التي اشتغل عليها، من الخيال العلمي في «2001: Space Odyssey» إلى فيلم الرعب «The Shining» والفيلم الحربي «Full Metal Jacket».

يصنع ستانلي كيوبريك أفلامًا مرجعية في نوعها، وفي الوقت نفسه تتجاوز الأُطُر المحددة سلفًا لها، من أجل طرح أسئلة جوهرية عن الوجود والإنسان وعلاقته بالعالم.

وإذا نظرنا إلى أعمال كريستوفر نولان، خصوصًا الأخيرة منها، سنلاحظ حرص كثير من محبيها على إكسابها قيمة من خارجها، إما بالحديث عن إسهامها في نظرية علمية كما في «Interstellar»، أو باستهداف المشابهة الدقيقة للواقع التاريخي بكل تفاصيله كما في «Dunkirk»، وهو ما يشابه النزعة الطبيعية في الفن، التي يحاول نولان تجاوزها بتفكيك الزمن الخطي.

تقول المؤلفة والمخرجة الأمريكية «سوزان سونتاغ» في كتابها «ضد التأويل» إنه «لو صنع أحدهم فيلمًا يكون المعادل السينمائي لجين أوستن، الروائية البريطانية من القرن الثامن عشر، فقد يبدو ذلك متطورًا جدًّا»، وهذا يرجع إلى أن تاريخ الأفلام أقصر بكثير من تاريخ الرواية الخيالية. لكن تاريخ السينما حافل بالأفلام المناهضة للحرب، مثل ثلاثية فيتنام لـ«أوليفر ستون»، و«Johnny Got His Gun» لـ«دالتون ترامبو»، وهو حافل بأفلام البروباغندا كذلك.

يمكننا أن ننظر إلى تاريخ الرواية والسينما كي نحدد موقع كلٍّ من كيوبريك ونولان، إلا أن الأول صار جزءًا من التاريخ، بينما لا تزال أمام الثاني فرصة صناعته.

محمد عمر جنادي