أفلام تونس بعد الثورة: من سينما المؤلف إلى الهَم العام
إذا كان هناك «أب» للسينما التونسية فهو المخرج عمار الخليفي، وإذا كانت هناك «بداية» لصناعة السينما التونسية فستكون مع فيلمه «الفجر» عام 1966، كأول فيلم روائي طويل، وبعدها انطلقت المسيرة، وتشعبت مساراتها حتى يومنا هذا.
تزامنت بداية الإنتاج السينمائي التونسي مع مبادرة مهمة من السينمائي الطاهر شريعة، بتأسيس أول مهرجان إفريقي وعربي: «أيام قرطاج السينمائية» عام 1966، الذي بث إشعاعًا محليًّا وعالميًّا وأسس لقاعدة جماهيرية واسعة ومثقفة. وقبل ذلك بعامين (أي في 1964)، تأسس نادي «السينمائيين الهواة» كحركة فنية وثقافية، أسهمت إلى حد كبير في انفتاح الجمهور التونسي على السينما كفن تحرري.
وعلى الرغم من البداية الواعدة، فإن السينما التونسية ظلت محل جدل ونقاش من الرأي العام والنقاد السينمائيين، اتهموها بضيق الأفق، والاقتصار على تصوير الحياة في الأماكن المغلقة التي تتميز بالحميمية، ما جعل المخرج وعالم الاجتماع والأنثروبولوجي الطيب الوحيشي يحاول الخروج بالفيلم التونسي سنة 1982 إلى فضاء أرحب وأوسع، هو الريف الصحراوي، فصور بداوة الحياة وبساطتها وطريقة عيش المجتمع «الصغير» فيها، لتخرج تجربة مثل فيلم «ظل الأرض»، بداية ما يمكن أن نسميه «سينما المؤلف».
هذه المرة اهتم المخرج بالطبيعة، واستلهم منها شخصيات الفيلم، كل شيء كان مرتبطًا ببنية المكان: الشخصيات، الحركة، الإضاءة، المَشاهِد.
قد يهمك أيضًا: 3 أفلام وثائقية من الجزائر: مكان مفتوح على هامش العشرية السوداء
وفي نفس الإطار المكاني، لكن برؤية ومضمون مختلفَيْن، أنتج المخرج الناصر خمير ثلاثة أفلام سُميت «ثلاثية الصحراء»، أولها «الهائمون» سنة 1984، وثانيها «طوق الحمامة المفقود» سنة 1989، وآخرها «بابا عزيز» (الأمير الذي يتأمل ذاته) سنة 2005. وهي ثلاثية ارتكزت إلى أبعاد رمزية، واستلهمت مادتها من الصحراء.
يقول الناصر خمير: «أنا كائن معجون بالصحراء». والحضارة بكل تنوعاتها وأبعادها هي لغة المخرج والإطار الذي يتزود منه، من علوم وتاريخ وتصوف وتراث، وميثولوجيا الطفولة الحالمة التواقة المسافرة في المكان والزمان، وهي طفولة ترمز إلى القيم «البريئة»، كالحرية والحب والبحث عن الذات.
وظّف الناصر خمير خياله السينمائي للبحث عن الذات الإنسانية في زخم الحضارة وضياعها (الحضارة العربية)، ولبناء واقع يسع حلمه والقيم الإنسانية التي يحلم بها.
عادت السينما التونسية إلى الأماكن المغلقة مع «صمت القصور» للمخرجة مفيدة التلاتلي سنة 1994، وقد سلط الضوء على المعاناة النفسية والمظلمة الاجتماعية التي تعيشها النساء داخل القصور (شخصية الخادمة)، والتمثلات الاجتماعية للجسد الأنثوي (قضية الاغتصاب)، وهذا ليس غريبًا على السينمائيين التونسيين، الذين يعتبرون تحرير المرأة على رأس القضايا الاجتماعية في البلاد.
شارك الفيلم في قسم «نصف شهر المخرجين» في مهرجان «كان»، وحصل على التانيت الذهبي، وجائزة أحسن دور نسائي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
اقرأ أيضًا: البغاء بعد الثورة: تونس تتنازعها قيود الدين والمجتمع ومخلفات الاستعمار
سينما تونس ما بعد الثورة
المتتبع لمسار تطور السينما التونسية يلاحظ تغيُّرًا في مضامينها، بسبب تغير الواقع الاجتماعي والسياسي.
وفرت السينما بعد الثورة مساحة أوسع لنقد النظام السياسي، وطرح مشكلات الواقع الاجتماعي. في هذا الإطار نرصد تنوع الإنتاجات السينمائية والرؤية المتميزة لكثير من المخرجين السينمائيين التونسيين، من حيث غزارة الكم وفرادة المضمون بعد ثورة يناير 2011.
أصبح العمل السنيمائي مشغولًا بوجود قضية ترصد الواقع المتغير. أصبحت الثورة محورًا أصيلًا في التحول من «سينما المؤلف» إلى أخرى تجريبية شبابية مجددة، إضافة إلى ميل السينمائيين إلى الأفلام القصيرة والروائية والوثائقية المرتبطة بالواقع التونسي.
الطابع التجريبي للسينمائيين الشُبّان خلق رؤية نقدية عميقة لمشكلات الواقع المعيش، وكشف قدرتهم على سرد أحداث الأفلام بأسلوب مشوِّق ومثير، بعيدًا عن كليشيهات السرد التقليدية لقراءة الواقع بطريقة مختلفة وإبداعية، ولا تقف هذه القراءة عند الإبداع فقط، بل تتجاوزه لتحمل معها النَفَس الثوري الشبابي.
يعكس فيلم «غدوة حي» مقارنة بين «أمل» التغيير الذي عاشه التونسيون خلال الثورة، وخيبة الواقع الذي اصطدم به المواطن التونسي.
سلّط فيلم «الربيع التونسي»، للمخرجة رجاء العماري، الضوء على معاناة الشباب في فترة حكم بن علي قبل الثورة، وهي فترة استبدادية تغيب فيها حرية التعبير لتحل محلها الرقابة الذاتية. يكشف الفيلم قهر الشباب وتهميشه عن طريق السلطوية وجهاز الدولة البوليسي.
أما فيلم «على حلّة عيني» لليلى بوزيد فاختزل الخوف والرهبة اللذين سادا خلال حكم بن علي في قصة شابة تونسية انضمت إلى فرقة موسيقية تعرضت للمضايقات الأمنية بسبب أغانيها الناقدة للأوضاع الاجتماعية.
يعكس الفيلم الروائي الطويل «غدوة حي»، للمخرج لطفي عاشور، مقارنةً بين «أمل» التغيير الذي عاشه التونسيون خلال الثورة، وخيبة الواقع الذي اصطدموا به، ويضع المخرج مستقبل الشباب التونسي موضع تساؤل.
أعادت سينما بعد الثورة تشكيل المشهد العربي والسينمائي، فجاءت مفعمة بتفاصيل الحياة اليومية للشخصية التونسية، ومثيرة للمشكلات الاجتماعية، وتميزت على الصعيدين الفني والتجريبي، ثم تراوحت بين عصارة التجارب الاجتماعية للشُبّان، وقراءتهم النقدية للواقع بمختلف تشعباته، والرؤية الإنسانية للعالم والأشياء.
أمل هازل