البغاء بعد الثورة: تونس تتنازعها قيود الدين والمجتمع ومخلفات الاستعمار

عرض «البيت الكبير» المسرحي عن بيت «عبد الله قش» للمتعة في تونس - الصورة: رود غيلينز

ضياء بوسالمي
نشر في 2017/10/01

تجارة الجنس ظاهرة قديمة قِدم الحضارات التي تعاقبت على مر التاريخ، وهي مهنة تأقلمت وتغيرت ملامحها وخصائصها بتغير خاصيات المجتمعات وتقاليدها. في تونس، ورغم حضور العامل الديني وتأثيره إلى حدٍّ ما في تشكل النسيج المجتمعي، الذي أفرز مجموعة من القواعد العرفية دأب الأفراد على احترامها، ظلت تجارة الجنس من التابوهات التي يحرُم الخوض فيها، رغم أنها مهنة تُمارَس يوميًّا في أماكن معروفة لدى العامة ومرخصة ومراقبة من الدولة، أو في أماكن أكثر سرية.

هنا نحاول تتبع التطور التاريخي لأقدم مهنة في العالم، بالإضافة إلى دراسة هذه الظاهرة عبر شهادات بائعات هوى، قبلن محاورة «منشور» بشرط عدم كشف أسمائهن الحقيقية.

تجارة الجنس في تونس: الاستعمار

لقطة من العرض المسرحي «البيت الكبير» عن بيت «عبد الله قش» للمتعة

في الفترة الاستعمارية ظهرت مجموعة قوانين وأعراف تنظم بيع الجنس، وخُصصت أماكن معينة في إطار حملة كان شعارها أساسًا تغيير العقليات في مجتمع تونسي ذي مرجعية دينية، تجعله متشبثًا بعاداته وتقاليده ويعتبر الجنس خارج الزواج من المحرمات.

قنَّن الاستعمار تجارة الجنس في تونس حفاظًا على صحة الجنود الفرنسيين، ولمراقبة مرتادي بيوت المتعة من التونسيين، واستفزازًا لمشاعر السكان.

سعت القوى الاستعمارية إلى كسر هذا الحاجز منذ عام 1881، إذ كانت تونس خاضعة لحكم الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يفسر تعدد وظائف بائعات الهوى قبل الاستعمار، فقد كُنَّ في تلك الحقبة، استنادًا إلى التشريعات التي تُحِلُّ الجواري ومِلك اليمين، من العبيد والخدم. مع بداية الاستعمار في تونس، بدأ التخلي تدريجيًّا عن هذه الممارسات، وخرجت عاملة الجنس من الإطار التقليدي المعتاد لتنال قسطًا من الحرية، إذ اقتصرت وظيفتها على توفير الجنس مقابل المال.

يأتي هذا التغيير ضمن إعادة تأهيل وترتيب الحاضرة (المدينة)، فظهرت مجموعة من المؤسسات الجديدة التي لم يعهدها المواطن التونسي، مثل الولاية والبلدية.

لعل بيوت المتعة، بصفتها أماكن مخصصة لتجارة الجنس وتقع تحت تصرف السلطات الفرنسية، ظهرت ضمن محاولات فرض الرقابة، فعاملة الجنس عليها التسجيل في دفاتر الشرطة من أجل الحصول على شهادة تثبت سلامتها من الأمراض الخطيرة. هذه الإجراءات كانت وسيلة الإدارة الفرنسية لمراقبة تحركات عاملات الجنس، اللاتي كُنَّ مجبرات على إعلام السلطات في كل مرة بتنقلاتهن.

بزرع أماكن ممارسة الجنس وتقنينها ومراقبتها، سعت الإدارة الاستعمارية إلى تحيين هيكلة الحاضرة وفرض نوع من الوقاية الصحية لجنودها في العاصمة التونسية.

اقرأ أيضًا: وداعًا للبورن: «التانترا» الهندية ستغير مفهومنا عن الجنس

كان تقنين تجارة الجنس في تونس سببًا لتحقيق ثلاثة أهداف:

  1. هدف وقائي: الحفاظ على صحة الجنود الفرنسيين مرتادي هذه الأماكن.
  2. هدف سياسي: فرض حصار ورقابة على مرتادي بيوت المتعة من التونسيين، وتحويل المكان إلى مركز للتجسس.
  3. هدف استعماري: استفزاز مشاعر السكان الأصليين وإثبات سطوة فرنسا على الدولة المحتلَّة.

هذه السطوة ستتلاشى كليًّا بعد الاستقلال التام سنة 1956، غير أن هيكلة المدينة وشكلها سيحافظ على الطابع الاستعماري بكل مؤسساته وخصائصه، وبالتالي ستبقى بيوت المتعة كإرث استعماري يتغير ويتطور حسب الظروف.

«تَيْلَرَة» الجنس: تطور المجتمع التونسي

تقرير عن انتشار تجارة الجنس في تونس بصورة غير مشروعة

«اخترت هذا العمل وأنا مقتنعة به تمامًا. أقدم خدمات جنسية وأتلقى على إثرها مقابلًا ماديًّا، هذا كل ما في الأمر».

في أبحاثها عن تجارة الجنس في البلدان المغاربية، تشير الباحثة الفرنسية «كريستال تارو» إلى أن عاملات الجنس في تونس يخضعن لنظام صارم واستغلال فاحش من النساء المسؤولات عن بيوت المتعة.

تتحدث أماني (45 عامًا)، التي تعمل في الجنس منذ أكثر من 20 سنة، لـ«منشور» عن وضع تلك المهنة: «ظروف العمل مزرية وتزداد سوءًا كل يوم. لا يمكنني التوقف عن العمل لأني لا أملك منزلًا ولا عائلة، وهي العوامل التي جعلتني تحت رحمة الباترونة (المرأة المشرفة على بيت المتعة). قد أضطر إلى مقابلة أكثر من خمس حرفاء (الحريف: الرجل باغي الجنس) يوميًّا، وهذا أمر فظيع وأنا أعي ذلك، لكن ما باليد حيلة».

عديد من عاملات الجنس، مثل أماني، يعتبرن أنفسهن ضحايا. فالظروف القاسية هي في أغلب الأحيان سبب البحث عن أنجع وأسرع طريقة لكسب المال. لكن هناك جانبًا آخر في الموضوع تراه خديجة (26 عامًا)، أن تجارة الجنس مزدهرة والحرفاء ينفقون بسخاء.

«الأمر بسيط، بعيدًا عن التحليلات العميقة المعقدة التي يرهقنا بها علماء الاجتماع في التلفزيون (تضحك). المبلغ الذي يرسله والدي شهريًّا لا يفي باحتياجاتي، فاخترت هذا العمل وأنا مقتنعة به تمامًا. أقدم خدمات جنسية وأتلقى على إثرها مقابلًا ماديًّا، هذا كل ما في الأمر».

تمثل أماني وخديجة نموذجًا للنساء اللاتي اخترن تجارة الجنس، لكن المتمعِّن في وضعي المرأتين يلاحظ أن التفاصيل تختلف. هذه الاختلافات هي ما يشكل ملامح تجارة الجنس في تونس كظاهرة تستحق الدراسة، بعيدًا عن الأحكام المسبقة والتحليلات المسقَطة التي لا تأخذ كل الظروف والعوامل بعين الاعتبار.

قد يهمك أيضًا: لماذا يعزف جيل الألفية عن ممارسة الجنس؟

عبد الله قش: تجارة الجنس ورقابة الدولة

لقطة من عرض «البيت الكبير» للمخرجة المصرية «ليلى سليمان» عن شارع «عبد الله قش»

لعل أبرز بيوت المتعة في تونس هو بيت «عبد الله قش» في العاصمة، الذي يحتل زقاقًا ضيقًا في المدينة العتيقة قرب جامع الزيتونة. فمنذ أربعينيات القرن الماضي، أصبح هذا المكان متمتعًا بحماية الدولة وخاضعًا لرقابة وزارة الصحة العمومية بشكل دوري. هناك يمكن أن نلاحظ تواصل الاعتماد على النموذج الاستعماري في التعامل مع تجارة الجنس، عن طريق حصرها في مكان محدد وفرض رقابة على العاملات فيها.

بين أزقَّة المدينة العتيقة، يبدو هذا المكان غريبًا ومثيرًا للفضول. أضواء خافتة، أبواب مفتوحة على مصراعيها، ستار شفاف، نساء بملابس شبه عارية. تدخل فترى قاعة عرض واسعة تتحول فيها المرأة إلى بضاعة تعرض نفسها، ويكون هناك عرض وطلب وقواعد محددة.

أسهَم الانفلات الأمني بعد الثورة في تأزُّم أوضاع عاملات الجنس، بعد الهجمات المتتالية التي نفذتها مجموعات متشددة بهدف إغلاق بيوت المتعة.

أمين (32 عامًا) يؤكد لـ«منشور» أن بيت المتعة مكانه المفضل، وهو «حريف» وَفِي لعاملات الجنس: «أعرف الجميع هنا تقريبًا. أنا متزوج منذ ثلاث سنوات، لكن ثَمَّة متعة خاصة ونوعًا من الحرية لا أحس بها سوى مع عاملات الجنس. أحب زوجتي، لكني لا أخاف هذه العادة، إنها جزء من حياتي اليومية. في آخر النهار، مثلما يذهب بعض الشباب إلى المقهى أو السينما أو البار، أتجه أنا إلى بيت المتعة».

يعتبر «عبد الله قش» مكانًا رمزيًّا مهمًّا في قلب المدينة العتيقة. ففي تجمع حضري يضم العديد من المساجد والرموز الدينية، يتوسط بيت المتعة المشهد وهو يحمل اسم أحد الأولياء الصالحين. ربما يعكس هذا التناقض وضعية المواطن التونسي، الذي بات متأرجحًا بين العادات والتقاليد من جهة ومخلفات الاستعمار ومتطلبات المرحلة الثورية من جهة أخرى.

اقرأ أيضًا: لماذا تشعر المرأة العربية بالعار عند التفكير في الحب أو الجنس؟

البغاء بعد الثورة: ظهور علني

انفجار قرب بيت «عبد الله قش» للمتعة

لم تكن تجارة الجنس بمعزل عن التغيرات التي طرأت على تونس بعد الثورة، فقد أسهَم الانفلات الأمني في تأزم أوضاع عاملات الجنس، بعد الهجمات المتتالية التي نفذتها مجموعات متشددة بهدف إغلاق بيوت المتعة.

هذا الوضع المتردي دفع بائعات الهوى إلى الخروج والمطالبة بحقوقهن. وفي عام 2014، قابلت المحتجات النائبةَ عن حركة «النهضة» محرزية لعبيدي، بعد إغلاق بيت متعة في مدينة سوسة بإذن قضائي.

تثير الوضعية الهشة لهذه الفئة جدلًا واسعًا بين القوانين والأعراف والمرجعيات الدينية، وكلها عوامل أسهمت في أن تكون تجارة الجنس موضوعًا مطروحًا للنقاش مع السياسيين.

تتعرض عاملات الجنس لمشاكل عديدة، فبين منظومة أخلاقية ترفضهن ومجتمع محافظ يدين المهنة، ومع تصاعد القوى الإسلامية في البلاد، يظل وضع العمل في الجنس غامضًا، خصوصًا مع تنامي ظاهرة شبكات الجنس الخارجة عن سيطرة الدولة.

قد يعجبك أيضًا: ماذا يتغير فينا بتأخر أول ممارسة جنسية؟

تونس: جنس غير مقنن

تصوير بيت «عبد الله قش» للمتعة بكاميرا مُخفاة

تجد السلطة التونسية نفسها في مأزق قانوني أمام من يطالبون بإعادة فتح بيوت المتعة، لكنها تخشى مما يمكن أن ينتج عن ذلك من أعمال من المتشددين.

لا توجد إحصائيات واضحة للعدد الإجمالي للشبكات التي تكونت بعد الثورة نتيجةً للانفلات الأمني، لكن المتمعِّن في الحملات الأمنية التي تطارد وتفكك تلك الشبكات يلاحظ أنها تتموقع أساسًا في المدن الكبيرة، خصوصًا الضواحي الراقية للعاصمة. لكننا نعرف أن الاستقرار الأمني في السنوات الأخيرة أسهم في تضييق الخناق على تجارة الجنس خارج الإطار المرخص والمسموح به من الدولة.

ورغم التضييق على الجنس غير القانوني، لا تسمح الدولة بإصدار تصاريح جديدة لفتح بيوت متعة، بينما تستمر المحاكم في إصدار أحكام بإغلاقها. فالسلطة القضائية ليست في معزل عن التجاذبات وحالة الهيجان التي شهدها الشارع التونسي. ومن يتابع قرارات المحاكم سيلاحظ أنها جاءت مسايرةً للهجمات على بيوت المتعة، فقد ارتكزت إلى مجموعة القوانين الموجودة في المجلة الجزائية، وكذلك القانون المتعلق بمنع الإتجار بالأشخاص ومكافحته، وهو تكييف قانوني ربما جاء لاستيعاب حالة العنف التي شهدها الشارع.

هنا تتفاقم المشكلة، إذ تجد السلطة نفسها في مأزق قانوني مستعصٍ أمام من يطالبون بإعادة فتح بيوت المتعة، لكنها تخشى مما يمكن أن ينتج عن ذلك من أعمال من المتشددين. صارت الدولة في موقف لا تُحسد عليه، فلا هي باستطاعتها فتح البيوت التي أُغلقت بالقانون، ولا التصريح بفتح بيوت متعة جديدة، ولا هي حتى قادرة على التحكم في تجارة الجنس غير المشروعة.

مواضيع مشابهة