الواقعية في السينما الإيرانية: ترميم غير القابل للترميم
تحت الحكم الإسلامي في إيران، لم يملك الفنانون إلا قليلًا من العناصر للعمل بها، وقليلًا من الفرص المتاحة ومواضع القدم. حين يصبح الفن مُحرَّمًا، ويخرج للنور فقط بعد أن يُقنَّن وتُعاد قولبته، يتحول الأمر برمته إلى فاجعة لا تترك لأصحابها مجالًا للخيال. يصبح واقعهم أكثر خصوبة من أي مصدر آخر للأفكار، ويتحول هذا الواقع إلى مادة خام لا ينضب معينها، وتصبح مأساتهم تسجيلًا لهذا الواقع بالقدر المسموح به من المصداقية.
ربما لولا صدور فيلم «البقرة» عام 1969، لمخرجه «داريوش مهرجي»، لَمَا ظهرت الموجة الإيرانية الجديدة. ولحسن الحظ، فقد أُعجب قائد الثورة الإسلامية، آية الله الخميني، بالفيلم وأشاد به، وكانت هذه بداية الموجة الإيرانية الجديدة.
كان الفيلم شعلة جذبت أنظار الغرب إلى إيران، مثلما فعل فيلم «راشومون» لـ«أكيرا كوروساوا» في اليابان. وكان دفعة للفنانين لمناقشة الأوضاع في إيران. من يتأمل جيدًا فيلم «البقرة» يدرك أن الواقعية كانت أهم عنصر في هذه الموجة منذ البداية، بل أهم عنصر في سينماهم ككل.
اقرأ أيضًا: فيلم «Dreams»: هلاوس المخرج الياباني «أكيرا كوروساوا»
الفيلم يحكي قصة ماشت حسن، المزارع الذي لم يحصل على أي أولاد، ونشأت صداقة بينه وبين بقرته. وحين يترك القرية في مهمة وتموت البقرة، يحاول المزارعون إخفاء خبر موتها وإقناعه بأنها هربت.
يمزج الفيلم بين الواقعية والسريالية، وينتقل المخرج من الأولى إلى الثانية بتدريج عبقري.
يمكن اعتبار «مهرجي» أبًا للسينما الإيرانية الواقعية، فقد خرج من معطفه عدد من المخرجين الذين حاولوا الفكاك من القواعد الصارمة والرقابة، وهرَّبوا أفلامهم إلى أعظم مهرجانات العالم عائدين بالجوائز التي لا يتسلمها أصحابها، ولا تهتم بها دولتهم. من أمثالهم عباس كيارستمي وجعفر بناهي ومحسن مخملباف ومجيد مجيدي، وسنعطي مثالًا عن كل منهم يظهر فيها
«كلوز-آب» (1990)
في الفيلم، ينتقي المخرج عباس كيارستمي، قصة حقيقية، وينزل بكاميراه ليصورها. يخرج الفيلم بكامله من الواقع، وتشعر بالكلمات وثقلها في كل مشهد. يقدم لنا كيارستمي «حسين سابزيان»، شابًّا عاطلًا من طهران. قبل تصوير الفيلم كان يتعرَّض للمحاكمة بسبب انتحاله شخصية مخرج إيراني كبير آخر هو «محسن مخملباف». هنا يصور كيارستمي المحاكمة، كل ما فيها حقيقي، كل ما فيها صادق. ثم يستعين بالشخصيات الحقيقية، ويصور المَشاهد السابقة والتالية للمحاكمة، وينسج من كل هذا علامة كبرى من علامات السينما.
يُبنَى الفيلم مازجًا بين الوثائقي والدرامي، وماحيًا الخط الفاصل بينهما، فلا تدري هل الكلمات التي تُقال الآن لأصحابها أم لمخرج الفيلم. تقديم الفيلم لشخصيته الأساسية «سابزيان»، أكثر من رائع، ففي بداية الفيلم تبدو الشخصية ضبابية، لا نرى «سابزيان» ولا نقابله، نقابل الصحفي الذي نشر خبر جريمته في الجريدة، ومعه الشرطة، ذاهبون للقبض على «سابزيان». هنا يبدو لنا الرجل وكأنه مجرم حقيقي، وتكون كمُشاهِد ضده من البداية. لكن بعد هذا المشهد، ونزول تترات البداية، نرى مخرج الفيلم وهو يقابل «سابزيان» ليطلب منه أن يصنع فيلمًا عنه، ولكي يعرف، ومعه نحن، عنه أكثر. هنا نقابل «سابزيان» الحقيقي الذي يحب السينما، ويرى أنها متعة وألم في نفس الوقت.
نعرف أساس القضية، إذ انتحل «سابزيان» شخصية المخرج الإيراني محسن مخملباف، وأقنع عائلة ما بأن يعطوه المال مقابل أن يصنع فيلمًا يكونون هم أبطاله. ندرك ولع جميع من في الفيلم بالسينما، بداية من حسين، مرورًا بمخرج الفيلم والعائلة بكل أفرادها، وصولًا إلى القاضي والصحفي حتى.
تكون محاكمة حسين صراعًا وسجالًا عن ماهية الفن والفنان، وأهميته في المجتمع، وكيف كان هذا الفن أداة جعلت «سابزيان» يشعر بكينونته، إذ يقول إنه قبل أن ينتحل شخصية المخرج كان لا أحد يهتم برأيه أو بما يقوله، لكن بعد انتحاله الشخصية شعر حقًّا بأنه قد أصبح له وجود.
يخلق كيارستمي نهاية مفاجئة للجميع للفيلم، مفاجئة لسابزيان قبل المُشاهد. فحين يخرج سابزيان من المحاكمة يقابل مخلمباف الحقيقي، الذي تعد سينماه الأعظم والأكثر تأثيرًا فيه، ويصطحبه مخملباف على دراجته، في مشهد خلاب، إلى العائلة التي تنازلت عن القضية ليعتذر إليها.
قد يهمك أيضًا: السينما الروسية: مخرجون أعادوا تعريف «الأفلام»
«التفاحة» (1998)
لا يبدو أن للفيلم خط سير واضحًا. فتشعر طوال الوقت بأنه مبني على الارتجال، أو تداعي الأفكار.
وهي في السابعة عشر من عمرها، لا يتوقع أحد أن تخرج فتاة في عمرها فيلمًا بهذا الإبداع. بعدما أنهى والدها المخرج محسن مخملباف إنتاج فيلم له، تبقَّى بعض المال، فاستخدمت ابنته سميرة مخملباف هذا المال في صناعة فيلمها الأول. مثل والدها، ومثل أشهر مخرجي إيران، لم تبتعد سميرة عن المادة الخصبة التي ينهل منها أساتذتها: الواقع. في هذا الوقت، أثارت قضية رجل حبس ابنتيه الصغيرتين عامين في البيت الرأي العام، وكبرت البنتان دون أن تعرفا كيف تتكلمان، فأصيبا بالخرس.
رأت سميرة أن هذه القضية مادة مناسبة لأول أفلامها، فتوجهت إلى هذه العائلة، وكانت من أهم من أثار هذه القضية وسجَّلها.
قررت سميرة تصوير فيلمها بالكامل بأبطاله الحقيقيين. لكن بسيناريو مكتوب، مع إتاحة فرصة للارتجال. بالرغم من استخدام الفيلم جميع العناصر التي يُبنَى عليها الفيلم الوثائقي، بداية من كاميرا الفيديو، مرورًا باستخدام الأبطال الحقيقيين، وصولًا إلى عدم تغيير أي حدث أو إدخال الخيال واستخدام أماكن التصوير الحقيقية، فإن الفيلم يُرى بالكامل على أنه فيلم درامي، رغم إدراج مشهدين توثيقيين في بداية الفيلم لإعطاء جدية للقضية، أو ربما لاختصار الطريق، وجعلك تصدق القضية وتتعاطف معها بسرعة.
لا يبدو أن للفيلم خط سير واضحًا. تشعر طوال الوقت بأن الفيلم مبني بالكامل على الارتجال، أو تداعي الأفكار. بينما يقدم لنا الفيلم في البداية الأب قاسيًا بصورة وحشية. ندرك بعد ذلك الحقيقة التي هي عكس ذلك تمامًا، فالأب يخاف على ابنتيه، بينما الأم كفيفة لم تستطع أن تعلمهما أي شيء.
بينما ندرك ذلك، تكون البنتان قد نالتا أخيرًا حريتهما، وخرجتا تجوبان الشوارع. هنا نرى أن ما تريد أن تقوله لنا مخرجة الفيلم أن العالم ليس بالقسوة التي نظنها فيه، وأننا في النهاية مهما تكن أحوالنا وظروفنا، فإننا بشكل ما سننجوا. ما يصوره الفيلم ليس مأساة، بل يوهمك بذلك فقط، وينفي ذلك طوال الفيلم.
قد يهمك أيضًا: «أصغر فرهادي».. الطيبون في حرب لم يرِدها أحد
«المرآة» (1997)
ينتقل الفيلم من الروائي إلى التوثيقي، ومن الواقعي المكتوب سلفًا إلى الواقعي المعيش.
يبدأ جعفر بناهي فيلمه بلقطة طويلة (Long take) يرسم بها ملامح بيئة الفيلم وشخصياته وفكرته في دقيقة أو دقيقتين دون كلمات. المشهد يبدأ عند باب مدرسة وخروج الأطفال منه بعد انتهاء اليوم الدراسي، ثم عبورهم الطريق بعد توقف العربات، إلى الناحية الثانية من الشارع، ثم عبورهم إلى شارع آخر.
بعدها تمشي الكاميرا مع الدراجة النارية، وتصل إلى رجل عجوز يعبر الشارع، لكنه يصل إلى منتصفه، ويعود إلى الرصيف ثانية. فتكمل الكاميرا عائدة إلى باب المدرسة، حيث بطلة الفيلم، وهي طفلة صغيرة، جالسة بجوار السور تنتظر أمها التي لم تأت بعد، وبعد انتظار طويل تقرر أن تعود إلى بيتها بنفسها.
هذا المدخل يعطي الفيلم طابعًا وثائقيًّا، حتى لو كان غير حقيقي، ويشعرنا بأن المخرج يتتبع شخوصه بكاميرا مُخبأة، وأن ما يحمله لنا، نحن المشاهدين، حقيقة لا تقبل النقاش. ونلاحظ هذا بالذات حين تركب بطلة الفيلم «مينا» الحافلة، وتقابل أنماطًا مختلفة من الناس. فمرة ترى سيدة تتناقش مع أخرى عن أحوالها الصعبة، ومرة ترى زوجة تتحدث عن خيانة زوجها. ومرة أخرى ترى عروسًا مع عريسها وأهلها يشترون متطلبات الزواج، وكأنها مرت بجميع مراحل الحياة في هذه الرحلة.
يدعم أيضًا شريط الصوت الطابع الوثائقي والواقعي بشدة، فالأصوات بالكامل طبيعية وحية، لا مؤثرات صوتية أو أغاني، وفي معظم المواصلات التي تركبها «مينا» يبث الراديو مباراة تذاع بين المنتخب الإيراني وكوريا الجنوبية.
لكن، في منتصف الفيلم، يفيض الكيل بالطفلة التي تؤدي دور «مينا» من تعليمات «بناهي»، بألا تنظر إلى الكاميرا، وأن تبكي في بعض المشاهد، وترى أن أصحابها سيظنون أنها حمقاء حين يرونها تبكي في الفيلم. هنا تترك فريق العمل، وتهبط من الأوتوبيس راحلة عن مكان التصوير. يصبح الفيلم عند هذه النقطة في منطقة حرجة تهدد بنسفه تمامًا، أو صنع علامة فنية لا تُنسَى. هنا يدرك بناهي أن الفتاة لم تخلع المايك المثبت في ملابسها لتسجيل الصوت. فيتتبعها فريق العمل وهي تحاول أن تعود إلى بيتها حقًّا، بينما المايك المنسي في ملابسها يسجل كل ما يحدث.
ينتقل الفيلم من الروائي إلى التوثيقي، من الواقعي المكتوب سلفًا إلى الواقعي المعيش. يتحول ممثلو الفيلم من بضعة أشخاص إلى جميع الناس، ومعهم فريق العمل بالكامل. هنا كل ما يحدث يصبح حقًّا ذا تأثير، مهما يكن مملًّا أو مكررًا، تمحوا آنيَّتُه أي فرصة للتشتيت. ويجعلك تتشبث بـ«مينا» أكثر فأكثر.
كريم عبد الخالق