هيفاء وهبي: الجسد على طاولة النقاش
رغم تعنيف رجال الإعلام لها بشكل مبكر، ورغم هجوم الفنانات عليها، ورغم كل المقومات الصوتية التي امتلكنها ولم تمتلكها هيفاء وهبي، عجزت كل الفنانات اللاتي هاجمنها عن التمتُّع بتلك الشعبية والجدل حولهن. تلك الغيرة التي حرص رجال الإعلام على تأجيجها، فسألوا ضيفاتهم على الهواء عن سبب نجاح «هيفا» أكثر منهن: هل لأنها أجمل؟ أم لأنها أكثر إغراءً؟ أم...؟ ليصبح سؤالًا يطرحه مقدمو البرامج الرجال وغير الرجال حتى على كل الفنانات.
في عام 2008، شنَّ أغلب أعضاء البرلمان البحريني هجوما على هيفاء وهبي، في محاولة لمنع حفلها في المنامة بسبب أنها «مثيرة للغرائز الجنسية»، ومَنَعها نقيب الفنانين في سوريا، صباح عبيد، من الغناء هناك بحجة أنها «تقدم عريًّا»، وهكذا تعاون رجال الإعلام ورجال الحكومات في تسويق هيفاء كجنس وجسد، وبذلك تبرير قمعها.
رحلة البحث عن ابن الحلال
كلمات أغنية «ابن الحلال» تتمحور حول هيفا التي تطلب من رجل أن يعيرها اهتمامه، ذلك الرجل هو «ابن الحلال»، الذي لا تستطيع العيش بدونه، لكن دون جدوى: «بتتقل بتعند ويَّايا، يا قلبك يا عينك».
أما الفيديو كليب، الذي أخرجه اللبناني الراحل يحيى سعادة، فتحارب فيه هيفاء رجال السوق وترقص مع أربع حسناوات خلفهن حشد يحدِّق فيهن، ويمكن أن نرى محاولة لقلب الأدوار المرتبطة بالنوع الاجتماعي، فهي تدخل عالم الرجال وتحاول إثبات نفسها بينهم، وهو ما فعلته في الواقع.
تقول شريفة زهور في كتابها «أسرار أسمهان: المرأة، الحرب، الغناء»: «كان على المغنية حتى تُسمَع أن تبذل جهدًا عظيمًا في مقاومة التاريخ والتفسيرات الثقافية للجنوسة، وفي التعامل مع التقنية الموسيقية ونقل المعاني الشعرية».
أقنعت أم كلثوم الجميع أن المرأة ليست كائنًا يثير الشهوات بالضرورة، وظهرت هيفا لتبرهن الشيء ذاته، لكن بدلًا من أن تتخلى عن جنسانيتها أكدتها.
لا يمكن لأي امرأة أن تدخل مجال الفن إلا وتحارب الجميع كي يأخذوها على محمل الجد، يتركون جسدها ويستمعون لموهبتها، لا يتطلعون إليها كجنس بل كإنسانه فنانة، لا ينظرون إلى أسفل بل إلى الوجه والعينين فقط، فأم كلثوم تنكرت كصبي لأول عشر سنوات من مشوارها الفني وهي صغيرة في القرى المصرية كي تحمي نفسها من تلك النظرة، فيسمعها الحشد دون سخرية ودون اتهامات أو شهوة.
كانت تلبس العقال حتى تبدو كالرجال، فلم يكن من السهل أن تقف فتاة وتغني بين الفلاحين دون أن يصيبها رذاذ من الاتهامات الخلقية. ومن يلقي نظرة على صورة أم كلثوم اليافعة مع أخيها خالد يحس أن والدها وأهلها كانوا يحاولون أن يخفوا وراء ملابسها كل مظاهر الأنوثة، حتى لا يكون هنالك حرج وهي تقف وسط الرجال لتغني.
وكأن الحل أن تجرد المرأة ذاتها عن جنسها، فتبرئ نفسها منه في أعينهم، وأن ترمي رغباتها كامرأة قبل أن تصعد إلى خشبة المسرح أو السوق الشعبي في «ابن الحلال»، وفقط في هذه الحالة سيُسمح بسماعها لا النظر إليها، أو بالأحرى «التلصص عليها».
لكن ما هو مثير للاهتمام في هيفاء أنها حاربت بأسلوب مختلف، فانتصرت عليهم بالجسد ذاته، واستطاعت أن تثبت لهم أن هذا الجسد يجب أن يؤخذ على محمل الجد، سواء أعجبكم أم لم يفعل، وهذا الجسد والموهبة التي يحملها، كيفما كانت نظرتكم، سيقف بشموخ على المسرح ويتبختر كما يشاء.
أم كلثوم استطاعت أن تقنعهم بأنهم على خطأ، وأن المرأة ليست كائنًا يثير الغرائز والشهوات بالضرورة على خشبة المسرح، ويمكنها أن تكون في سياق خارج الجنس، يتمحور حول الصوت المتمكن والأداء الرزين المتماسك والخارج عن الأنوثة والدلع تمامًا، حتى إن كان الجسد الذي يؤدي جسد أنثى، إلا أنها لم تكن امرأة بالمنظور الاجتماعي للمرأة في ذلك الزمن، لتضع الأساس لكل فنانة أنثى ستأتي بعدها بذلك، مستخدمات الأسلوب ذاته تقريبًا أو التعديل عليه بشكل بسيط حسب الزمان والمكان، حتى ظهرت هيفاء وهبي.
ظهرت هيفا لتبرهن الشيء ذاته بشكل مختلف، فبدلًا من أن تكبت أو تتخلى عن جنسانيتها أكدتها بأدائها، رفضت ذلك التخلي، ودفعت ثمن تلك المجازفة غاليًا، إلا أنها كانت مجازَفة رابحة أخذتها نحو شهرة فُرِضت فرضًا على الجميع، حتى على أكثرهم ذكوريةً ورفضًا لاحترام المرأة.
انتصرت هيفا في فيديو كليب «ابن الحلال» على الرجال عن طريق إغوائهم بشكل واضح.
لم تكن هيفا مجرد امرأة، بل جسد واضح الجنوسة ومحتفِل بها، وفي الوقت ذاته لا نستطيع أن ننكر أن ما تعنيه تلك الجنوسة، والصورة النمطية المرتبطة بها لِمَا يجب أن يكون عليه الرجل كي يكون فحلًا وما يجب أن تكون عليه المرأة كي تعتبر جذابة، هي بالأساس مِن وضع المجتمع الأبوي، وهكذا ففي النهاية كانت هيفا تلعب وفق قواعد وشهوات وغرائز ذلك المجتمع.
ذلك المجتمع هو الذي حدد أن المرأة الجميلة الجذابة هي امرأة تشبه هيفاء: دلوعة، رقيقة، غَنِجَة، تضع مساحيق التجميل، جمالها أكبر همومها، أنثوية التصرفات والحركات والحديث بشكل مبالَغ فيه بعض الشيء. كلها مقاييس ذكورية لِمَا يجب أن تكونه الأنثى كي تُعتَبر امرأة، وهو الذي استخدمه المخرج يحيى سعادة في بداية فيديو «ابن الحلال»، بتمديد هيفا وسط مساحيق التجميل مختلفة الألوان والأحجام والأشكال.
لا يمكننا إنكار أن أداءً كأداء هيفاء وهبي يدغدغ المشاعر الجنسية المكبوتة لدى كل رجل ذكوري في مجتمع أبوي، فهيفا مجهزة بإحكام لفُرجة الرجال، أو كما نحب أن نسميه «تلصصهم»، وما يرتبط به من إشكالية تتمحور حول تسليع جسد المرأة وتشييئه.
فوجئ المجتمع بهيفا تتحول إلى مرجع لِمَا تعنيه الأنوثة، وتصير المثال أوَّل الذِّكر حين يتحدث الرجل عن المرأة كجنس، وأول ما تذكُره المرأة عندما تريد أن تغري الرجل، أو ربما عن عجزها المحبَط في أن تكون مثلها نتيجةً لمنع ذلك الرجل نفسه عنها، فنجد هيفاء في «ابن الحلال» تنتصر على الرجال عن طريق إغوائهم بشكل واضح، وهو تمامًا ما كان يحدث على مستوى أبعد في الواقع.
لكن الحديث عن المرأة كجنس في حد ذاته إشكالي، وهو ما يمنعنا من طرح هيفاء وهبي كظاهرة نسوية، لا بسبب أدائها هي، بل بسبب طريقة تلقِّي الجمهور الذكوري لذلك الأداء، فليس الأداء نتيجة ما يفعله المؤدي فقط، بل تفاعله مع السياق الذي يتناول الجمهور فيه ذلك الأداء أيضًا، وهنا نقع في إشكالية كيف لنا أن نُظهر جنسانية المرأة دون الوقوع في تشييئها، عندما نوجه خطابنا إلى مجتمع تربى على التعامل مع المرأة كموضوع للتلصص؟
هذا ما سقط فيه يحيى سعادة عندما انتقد المجتمع لأنه يتعامل مع المرأة كجسد، فلمَّا صوَّر هيفا تعامل الجمهور مع صورته بأسلوب التلصص، فجعلها جسدًا يتناولونه بشهوة من على الشاشة.
ماتقولش لحد أنك تتلصص
«سكوبوفيليا» كلمة مكونة من مقطعين يونانيين: الأول «سكوبو»، يعني التفحُّص أو النظر، والآخر «فيليا» بمعنى العشق أو المَيل أو الشبق. وتعني «سكوبوفيليا» تحقيق اللذة الجنسية عن طريق مشاهدة أو النظر إلى موضوع جنساني، ففي هذه الحالة يصبح النظر مصدرًا لتلك اللذة.
كما يبدو، تعامل الجمهور مع هيفاء وهبي بهذا الشكل في فيديو كليب أغنية «ماتقولش لحد»، من إخراج اللبنانية ليلى كنعان، الذي تظهر فيه هيفا كدُمية داخل آلة تعزف الموسيقى عند وضع نقود معدنية فيها.
تبدأ هيفا بالرقص داخل الآلة وتغني كسلعة تقدمها تلك الآلة لفُرجة الزبون الذكر وتلصُّصه، بتمثيل رمزي لما تؤديه هيفا على شاشة التلفزيون لكل الجماهير المتلصصة، ونرى ملامح الإثارة والشهوة على وجوه الرجال الجالسين أمام تلك الآلة، يتلصصون على أداء هيفاء وهي تغني «الناس شايفانا بتبُص عليَّا، اتقل وحياتك لو حتى شوية».
حكت كنعان القصة كاملةً في عملها هذا برمزيتها الخاصة وتخيلها للموقف، وسواءً عن قصد أو من غيره، فإنها صنعت من هيفا سلعة وصوَّرتها كموضوع لتلصص الرجال أيضًا.
لقد كوَّن الجمهور الذكوري قامع النساء قاعدة جماهيرية لهيفاء وهبي، فذلك الجمهور الذي وصمها بمختلف التهم الأخلاقية هو أكثر من تابع أخبارها وشاهد أعمالها بحماس شهواني شديد، وهم أكثر من فتحوا أفواههم أمامها وأعلنوها رمزًا للأنوثة المتمردة الـ«لا أخلاقية» المرغوبة، حتى قادهم كبتهم نحوها كالخراف.
علَّمت هيفا المرأة العربية كيف تمتلك جسدها، وصاغت وما زالت تصيغ ما يعنيه أن يكون المرء امرأة (سواءً كان ذلك المرء ذكرًا أو أنثى أو ما بينهما)، وأن تحب ذلك الجسد، لكنها في الوقت ذاته، ومع شديد الأسف، سلَّعته سهوًا.
يقول يحيى سعادة: «ما فينا ننكر أبدًا البصمة اللي تركتها هيفا وهبي بالجيل الجديد والجيل اللي هي واكبتو»، فنساء العالم العربي أصبحن بشكل أو بآخر يقارنَّ أنفسهن بها، والرجال يقارنون نساءهم، أو ربما أنفسهم، كذلك.
لقد رُوِّج لهيفا ككائن جنسي من قِبل الجماهير قَبل الحملات الدعائية، أنوثة كاملة وشهوة غير أخلاقية محبوبة ومكروهة في الوقت نفسه، تجعل الصراع النفسي لمجتمعنا طافيًا على السطح واضح المعالم كلما ظهرت هيفا على الشاشة، بين تتبُّع العيون لانحناءات جسدها الجذاب وتمتمات «أستغفر الله».
أسهمت صورة هيفاء وهبي في كسر المحرمات الاجتماعية المرتبطة بالجنس والمرأة، أو على الأقل طرحها على الطاولة للنقاش، وفي الوقت ذاته تمثل لنا تلك الصورة توثيقًا مهمًّا لمدى تأثير النظام الأبوي الذكوري في أدائها، وتعميمها كمقياس لما يريد الرجل أن يتلصص عليه جنسيًّا. لكنها استطاعت أن تستفيد من قوة صورتها الجسدية لتحول نفسها إلى مؤسسة فنية استمرت لأكثر من عقد، وإلا ما سبب وجودها الآن؟
هذا الموضوع نتاج فكرة اقترحها أحد قرَّاء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويرها، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
موسى الشديدي