إسعاد يونس: إعلام يوافق هوى الدولة
«أنا جندي مجند في خدمة البلاد.. في أي وقت ألبي النداء». هكذا خرجت إسعاد يونس خلال مداخلة هاتفية لبرنامج «يحدث في مصر» على قناة «mbc» لتباهي باشتراكها في الحملة الإعلانية «الحق في المعرفة»، المذاعة على القنوات التليفزيونية والتي تنتشر لافتاتها في الشوارع المصرية. فما قصة تلك الحملة؟ ولماذا اعتمدت على «صاحبة السعادة» كامرأة وحيدة، إلى جوار إبراهيم عيسى وعصام الحضري وأحمد فهمي؟
إسعاد يونس: ما الذي يعرفه المواطن؟
لأيام تساءل المشاهدون عن الحملة وما وراءها، حتى خرج السؤال على مواقع التواصل الاجتماعي بطرافة ذكية: «الحق في معرفة من وراء حملة الحق في المعرفة»، ليتضح أخيرًا أنها حملة هيئة الرقابة الإدارية المصرية لمكافحة الفساد، بإنتاج وتنفيذ عملاق سوق الدعاية والإعلان المُقرَّب من النظام، طارق نور.
لم يكن هناك من هو أنسب من إسعاد يونس، كوجه نسائي وحيد في الحملة، ليوافق التصور الدولتي عن الالتزام القانوني والواجب الوطني. تمثل الحملة، بعد أن اتضحت تفاصيلها أكثر، كل حمولة خطاب النظام، من التكريس للمسؤولية الفردية وأن الفساد ما هو إلا تجاوز شخصي فقط.
جاءت إسعاد يونس خيارًا مثاليًّا لتكون واجهة الحملة. لِمَ لا وهي التي قادت حملة كبيرة في برنامجها «صاحبة السعادة» لدعم المنتَج المصري. حلقة ضمن حلقات عديدة تعيد بها شعارات الوطنية المصرية القديمة ومنتجاتها، الفنية أولًا ثم الاقتصادية، ممَّا يوافق هوى دولة يحسد رئيسها، عبد الفتاح السيسي، جمال عبد الناصر على إعلامه «الطيِّع». وكأن الحملة تتويج لجهد بذلته إسعاد يونس كثيرًا في استخدام كل الأدوات الممكنة لموافقة هذا الخطاب الاستعادي.
«صاحبة السعادة»: استعادة الماضي
«إحنا بنحاول نشد طرف خيط الأيام الحلوة ونرجَّعها، لإن الناس مشتاقة لها أوي».
في هذه اللحظة من حياة المصريين، عندما باتت النوستالجيا حاجة نفسية جماعية للهروب من حصار الحاضر، كانت إسعاد يونس في برنامج «صاحبة السعادة» تلبي تلك الحاجة بشكل صريح باستدعاء روح الثمانينيات والتسعينيات، تداعب ذاكرة المصريين السمعية والبصرية باستحضار وجوه فنانين ومطربين عايشوا وجودهم على الشاشة، حتى لو لم تشبه أعمالهم حياتهم بصدق.
تمارس إسعاد يونس «العنف الرمزي» عبر الإعلام بتلقين المعرفة.
«في البدء كمأساة، وتاليًا كمهزلة»، مقولة كارل ماركس الشهيرة تنطبق على الوضع المصري الحالي عامةً، وعلى البرنامج خاصةً، فالاستعادة التي جُنِّدت لها ساعات بث أسبوعية، أعادت يونس مرة أخرى إلى الساحة في مجال عام محكوم عليه بالحصار وغياب «الحاضر»، ذلك أنه ليس مجرد برنامج، إنما هو واحد من أشكال هيمنة السُّلطة، إحدى طُرُقها في تدجين الرأي العام، أو ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي «بيير بورديو»: العنف الرمزي.
يقول بورديو إن العنف الرمزي غير محسوس ولا مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارَس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة، أي عبر التواصل وتلقين المعرفة، ويرتبط بالسُّلطة والهيمنة والحقل المجتمعي، بمعنى أن الدولة تمارس، عبر مجموعة من المؤسسات الرسمية والشرعية خصوصًا الإعلام، عنفًا ضد الأفراد والجماعات، يمكن أن يحقق نتائج أفضل قياسًا إلى ما يحققه العنف السياسي.
هذا تمامًا ما يقدمه الإعلام الحالي، وإن كان بشكل «فج» في انحيازه المطلق لخطاب الدولة، لكن إسعاد يونس تمارسه بشكل أكثر مراوغة في برنامجها «صاحبة السعادة»، باستعادة كل تفاصيل «الزمن الجميل»، تنقية الماضي من شوائبه وإعادته نقيًّا خالصًا، مثل صورة من فيلم بالأبيض والأسود.
قد يعجبك أيضًا: كيف يتحول النجم إلى سلاح يدمر المجتمع؟
الذكاء الحقيقي في البرنامج هو قدرته على مجاراة اللغة العصرية، كيف تدشن إسعاد يونس هاشتاجات لتجوب مواقع التواصل الاجتماعي مثل #ادعم_المنتج_المصري، وكيف تستخدم نجوم الفن الحاليين في شحنات التذكُّر، لتنتج حالة يحب أن يسميها متابعوها «بهجة وسط الخراب» كما في تعليق أحد مشاهدي حلقة «روبي».
حسنٌ.. ليس الماضي كله
تتوالى صور زعماء مصر في مقدمة برنامج «صاحبة السعادة»، بدايةً من سعد زغلول، الملك فاروق، جمال عبد الناصر، وتتوقف عند الرئيس الراحل أنور السادات.
ربما يُعد هذا تمثيلًا معبرًا للسياسة التي تنتهجها إسعاد يونس وفريق إعداد البرنامج: تجاهل تام لحسني مبارك، الرجل الذي حكم البلاد لمدة 30 عامًا حتى اشتعال ثورة يناير، والذي من المفترض أن تكون له ولسياسات حكوماته التأثير الأكبر في شكل الحياة في مصر خلال ربع القرن الأخير، الذي قررت يونس استعادته في برنامجها.
محاولات تحليل الهوية المصرية عن طريق استرجاع ذكريات إعلانات الشوكولاتة، والفوازير التي علقت بالذاكرة الشعبية، بالطبع يمكن أن تكون محاولات مفيدة، ولكن هل يمكن التعامل بحسن نية مع محاولات كتلك لا تقترب حتى من ذكر أسماء المسؤولين عن القرارات الاقتصادية وما تلاها من تغيرات اجتماعية؟
النظام أبوي.. الإعلام؟ أمومي
«احكي لنا بقى من البداية». ما أن تنطلق هذه الكلمات من فم إسعاد يونس في بداية كل فقرة، حتى تنفتح أبواب من قصص البدايات والنجاح مستغرقةً في تاريخ الثمانينيات والتسعينيات على ألسنة ضيوفها من النجوم، أو بالأحرى النجوم المنسيون.
تتجاوب إسعاد مع ضيوفها بأداء يغلب عليه شيء من الأمومة و«الغُلب» بالمفهوم المصري، ردود أفعالها على حكاياهم غالبًا ما تتصف بالمبالغة، ترد بكلمات تعكس العطف والحميمية مثل «يا حبيبي» بنبرة حانية، قد يشتبه المُشاهد فيها ببعض من المبالغة والأداء التمثيلي، أو قد يشعر بالقرب والعفوية، لكن هذا الأداء اجتذب كثيرين بالتأكيد.
نجاح البرنامج على الشاشة شيء وعلى يوتيوب شيء آخر، وكيف لا ينتشر «صاحبة السعادة» بـ«عفوية» إسعاد يونس؟
استفادت يونس كثيرًا من حسنات ونقاط قوة «تليفزيون الواقع»، تخلق حالة حميمية منزلية في الاستوديو، ليتحول الحوار إلى نوع من «الدردشة» بينها وبين الضيف. هو «ضيف» فعلًا بالمعنى المنزلي الأُسَري المصري. استطاعت إسعاد أن تأخذ من تليفزيون الواقع سَمْتَه التلقائي وتضعه في سياقه، خصوصًا أنها في بيئة إعلامية هيمنت فيها المونولوجات الصارخة وثرثرة المذيعين وحيدين لساعات أمام الكاميرا.
استفادت إسعاد يونس من ذلك التيار الجديد الذي لم تعرف الدولة كيف تجابهه على مواقع فيسبوك وتويتر ويوتيوب، حيث النجومية رهن فيديو طريف أو نكتة لاذعة. نجاح البرنامج على الشاشة شيء وعلى يوتيوب شيء آخر، وإسعاد تبدو بـ«عفويتها» وكأنها تقدم فيديو هواة، وكيف لا ينتشر البرنامج بهذه العقلية؟
اقرأ أيضًا: هل يموت يوتيوب؟ نظرة لتطور صناعة محتوى الفيديو ومصير منصته الأشهر
لا أحد يشبه إسعاد يونس.. ولا حتى «ماما نجوى»
ليست إسعاد يونس الأولى ولن تكون الأخيرة التي تحاول تقديم محتوًى إعلامي يقوم بشكل أساسي على استحضار الماضي وذكرياته والحنين إليه ومجاراة النوستالجيا كـ«تريند»، سواء كان ذلك عن عمد أو لا.
مع كل «الفلاتر» المستخدمة في إنتاج صورة «بيت العائلة»، خرج البرنامج مثل محاولات السينما لتصوير الأحلام.
يأتي برنامج «بيت العائلة» كمحاولة من قناة «النهار» لمجاراة نجاح «صاحبة السعادة»، عن طريق تقديم نجوى إبراهيم المعروفة لدى جيل التسعينيات بشخصية «ماما نجوى» مع «بقلظ» في برنامج «صباح الخير». يقوم برنامج نجوى إبراهيم على محاكاة «صاحبة السعادة» بتفاصيله: الكادرات، والفقرات، والقصص، وطريقة التقديم.
لكن «ماما نجوى» لم تنجح في مجاراة نجاح «صاحبة السعادة»، لا لأنها تقلد البرنامج، بل لأنها لم تقدر إلا على تقليد التفاصيل الأقل أهمية: الاستوديو وطبيعة البرنامج. غاب عنها الكثير من التفاصيل سالفة الذكر في الفقرات السابقة، نجوى بنت التليفزيون، المُدرَّبة جيدًا على ضبط تحركاتها وكلامها، لا تملك القدرة على إنتاج العفوية كما فعلت إسعاد يونس.
غاب عن إبراهيم أيضًا تقديم صورة «مشبِعة بصريًّا»، فمع كل «الفلاتر» المستخدمة في إنتاج صورة «بيت العيلة»، خرج البرنامج مثل محاولات السينما لتصوير الأحلام والمنامات، فبدا البرنامج وكأنه منام طويل.
لا أحد ينجح مثل «صاحبة السعادة».. ولا حتى بلال فضل
ربما لو مُنح بلال فضل فرصةً تشبه إسعاد يونس لتضاعفت معدلات مشاهداته.
على عكس ماضي إسعاد يونس المُلون، سعيد الذكريات، المتخَم براحة البال، قدَّم بلال فضل في برنامجه «الموهوبون في الأرض» سرديات مختلفة عن «زمن الفن الجميل» على مدار ثلاثة مواسم، مستعرضًا ذكريات وحوادث فنانين مصريين معاصرين أثروا في تاريخ الفن العربي، لكن هذه الذكريات لم تخلُ من تعرض بعضهم للظلم، أو حتى مواقف تكشف غرور قسم منهم، تحالفاتهم مع السُّلطة، أو استهجان بعض الفنانين للمجتمع والأخلاقيات التي يُدار بها.
ذكريات وتفاصيل لا تجعل من هذا الزمن بالطبع زمنًا كل ما فيه جميل، ولا كل ما فيه سيئ، لا تُظهر التفاصيل والمعاملات راقيةً على الدوام، ولا تُظهرها متدنية كصفة عامة، وإنما فترة تاريخية متأثرة بعوامل سياسية واقتصادية كثيرة، زمن كزمننا هذا.
لكن، أين بلال فضل المغضوب عليه سياسيًّا من تأثير إسعاد يونس، وهو محاصر في شبكة «التلفزيون العربي» المغضوب عليها أمنيًّا وسياسيًّا، ويقدم ماضيًا غير مفلتر؟ ربما لو أُعطي فرصةً مقارِبةً لما مُنحت إسعاد لتضاعفت معدلات مشاهداته على الشاشة وعلى يوتيوب.
قد يعجبك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في «مجتمع فاشي»
أدوات الثورة.. في خدمة الدولة
لطالما تبنَّت إسعاد يونس في مقالاتها مواقف تأييد واضحة للرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ 30 يونيو حتى توقفت عن نشر مقال الرأي الأسبوعي الذي كانت تكتبه لسنوات في صحف مصرية عدة، من أجل التفرغ لبرنامجها الجديد.
استهجنت إسعاد طمع المصريين وحبهم الغريب للأكل واهتمامهم الزائد بملئ بطونهم، وكيف تشكِّل احتياجاتهم غير المهمة عبئًا على كاهل الدولة، وكانت تسليتها هي مهاجمة الشباب المعارضين الذين «يعضُّون مصر في قلبها»، كما ذكرت في مقال «المتقشفون ناس كُمَّل».
رأت إسعاد يونس المشهد بوضوح، بعد رحلة قصيرة في الكتابة السياسية ورحلة طويلة في البرنامج.
وعت يونس الدرس جيدًا، واتخذت قرارًا ذكيًّا مناسبًا للمرحلة الجديدة بتجنب السياسة ومشكلاتها في برنامجها، لإدراكها المدى الواسع لردود الأفعال على المحتوى المرئي وسرعة انتشاره عكس المحتوى المقروء، أو لكسب شعبية لدى الشباب وعدم إغضابهم، وهم الشريحة الأساسية التي يستهدفها «صاحبة السعادة».
الاستسلام الجماعي لجيل علت طموحاته لذروتها ثم انهارت عليه في بضع سنوات فقط، وفي وضع سياسي صار محكومًا بقبضة أمنية، ومجال عام مفروض عليه جميع أنواع القيود، وتغيير مستحيل، جعل هذا الجيل يحنُّ إلى ماضٍ جميل، وحتى لو لَم يلمس جماله هذا، فإنه بالتأكيد سيكون زمنًا أفضل للهروب إليه عن العيش في زمنه.
قد يهمك أيضًا: كيف حوَّل التليفزيون السياسة إلى عرض ترفيهي؟
رأت إسعاد يونس المشهد بوضوح، بعد رحلة قصيرة في الكتابة السياسية ورحلة طويلة في البرنامج. استفادت في «صاحبة السعادة» من خبرتها في صناعة صورة جذابة بموضوعات آمنة، وتقنية فهمت بها الطريقة التي يفكر بها الجيل الجديد وأدواته، فاستعملتها لخدمة النظام.
عمر علي