«بلاك ميرور»: انعكاس مخيف يجعلنا نفكر مرة أخرى
إذا كنت تستطيع تذكر كل شيء، فهل سترغب في ذلك؟
إذا كانت شخصية كرتونية على شكل دب تسخر من عدم جدوى الانتخابات، فهل ستعطي صوتك لها؟
هل ستشارك في لعبة التعذيب النفسي في متنزه، إذا كان من يتعرض للتعذيب مجرمًا؟
إلى أي مدى يمكن أن تذهب إذا لم تستطع التعافي من وفاة شخص تحبه؟
هذه هي أنواع الأسئلة التي يطرحها المسلسل التلفزيوني البريطاني «Black Mirror» (المرآة السوداء)، حيث القلق بشأن المستقبل المليء بالتكنولوجيا، سواء كان المستقبل البعيد أو الأسبوع المقبل، هو محور الاهتمام الرئيسي لهذا العمل الدرامي الملحمي.
التشاؤم المرتاب الذي نقابله في مسلسل الخيال العلمي هذا ليس نتاج الخوف من الآخر أو الذعر بسبب احتمال الإبادة النووية، بل يتشكل بسبب الارتباك الناتج من الطريقة التي أصبحنا بها غرباء عن أنفسنا.
لا يوجد غزاة من كوكب آخر، أو ظواهر غامضة وخفية تؤثر فينا وفي حياتنا، وكذلك لا يوجد راوٍ يرتدي بذلة أنيقة ليتأكد من أن المشاهدين فهموا المغزى الأخلاقي من كل قصة في الحلقات.
بدلًا من ذلك، ما يقدمه «المرآة السوداء» شيء مفزع، ذلك الرعب الإنساني النفسي الذي تراه في كتابات دوستويفسكي، رعب النفس البشرية ومخاوفها من المستقبل والحاضر والماضي. يحمل المسلسل «مرآة سوداء» (إشارة إلى سواد شاشات الأجهزة الإلكترونية المغلقة) للمجتمع، ويرفض أن يجفل عند التأمل في انعكاس صورته.
بالطبع، التكنولوجيا تظهر في كل مكان في المسلسل. في عدد من الحلقات هي نفسها واحدة من شخصيات المسلسل، والتي تحاول التأقلم والتعايش مع ما تقدمه هذه التكنولوجيا.
في بعض الحلقات، مثل «The National Anthem» أو «The Waldo Moment»، التقنيات التي تبرز هي ذاتها المألوفة لدى المشاهدين المعاصرين: منصات التواصل الاجتماعي، مثل يوتيوب وتويتر وفيسبوك، وما شابه ذلك.
بينما في حلقات أخرى نجد تقنيات جديدة ومختلفة إلى حد ما، مثل حلقة «The Entire History of You»، التي نرى فيها جهازًا قابلًا للزرع في العين يمكنه أن يسجل ويعيد تشغيل كل ذكرياتك. وفي حلقة «White Bear» تُستخدَم تقنية يمكنها أن تحفز فقدان الذاكرة المؤقت لمجرمة شاركت خطيبها في تصوير تعذيب طفلة بريئة وقتلها. وفي حلقة «Be Right Back» تُطوِّر شركة ما مزيجًا مدهشًا من الروبوت والخلايا الإنسانية، من أجل تعويض شخص قريب إلى قلبك لا تستطيع تجاوز موته.
تحاول حلقات المسلسل إدخال المشاهدين إلى عالم، أو عوالم، يعيش فيه الناس حياة طبيعية باستخدام الأجهزة والآلات والمنصات ذات التكنولوجيا الفائقة، التي أصبحت بالفعل أحد الجوانب العادية من حياتهم اليومية.
تصنيف الناس على مقياس خمس نجوم، على أحد تطبيقات التواصل، مجرد واقع يومي في حياة الناس في حلقة «Nosedive».
البرمجة المتطورة المُغيِّرة للواقع، والتي تُزرَع عصبيًّا، أمر طبيعي بالنسبة إلى الجنود في حلقة «Men Against Fire».
وضع الحياة الآخرة في السحب الإلكترونية (ما يشبه اللجنة الإلكترونية) يكاد تكون عاديًّا بالنسبة إلى المسنين والعجزة في حلقة «San Junipero».
أسراب النحل الإلكترونية التي تشبه الطائرات دون طيار بديل مقبول لاختفاء النحل الحقيقي في حلقة «Hated in the Nation».
يلقي المسلسل بشخوصه المختلفة إلى عالم يقبلون فيه هذه التكنولوجيا أمرًا واقعًا، حتى لو تذكروا أحيانًا كيف كانت الحياة سابقًا، وحتى عندما يبدو أن هذه التكنولوجيا غريبة نوعًا ما، فإن الشخصيات تستمر في التعامل معها بشكل طبيعي.
المرآة السوداء: يوفر الترياق، بينما يقطر منه السم
المشكلة التي يطرحها المسلسل أنه بينما يعرض النظرة القلقة المتخوفة حول تكنولوجيا الغد، ينتهي به المطاف إلى تكرار عدد من أوجه القصور في المناقشات المعاصرة حول هذه التكنولوجيا، أوجه القصور التي قد تجعل مثل هذا المستقبل القاتم يبدو أكثر معقولية.
ربما يقاوم المسلسل عرض المعنى الأخلاقي بوضوح، مثلما فعل «The Twilight Zone» في ستينيات القرن العشرين، لكن المعنى من الحلقات قد يكون أقل معارضة بكثير مما سيبدو عليه في البداية.
يستمد المسلسل كثيرًا من ثقله العاطفي من خلال تركيز قصصه على أفراد محددين، لكنه بهذه الطريقة يمكن أن يعمل نوعًا من «دليل الاستخدام» المعرفي الذي ينصحك بأنه «إذا جاء اليوم الذي تستطيع فيه أن تتذكر كل شيء باستخدام التكنولوجيا، فلا تكن مثل ذلك الرجل في تلك الحلقة».
قد تدعو الحلقات المشاهدين إلى النظر في المستقبل الذي يقدمه بارتياب وتشكك، لكنها تشجع أيضًا على اعتياد القبول المؤثر الذي يتميز به أبطال كل حلقة.
«المرآة السوداء» عمل فني أنيق وخلاب، وجزء آخر من «العصر الذهبي للتلفزيون» المعاصر، إذ يخاطر بأن يصبح مجرد برنامج آخر يمكن بثه على أيٍّ من شاشات المرآة السوداء.
المسلسل نفسه جزء كبير من ثقافة الصناعة في حقبة يوتيوب وتويتر، ويبدو أنه يحاول أن يظهر عيوبها، فهو بالطبع مُعَد للمشاهدة على شاشات التلفزيون.
قد يكون هذا العمل مزعجًا لدى بعض الناس، لكن أصابع الاتهام الموجهة إليه قليلة، ما يعطي المشاهدين حيزًا يسمح لهم بالقول بصوت مرتفع: «لن أفعل ذلك أبدًا»، حتى إن كانوا غير متأكدين من ذلك في عقلهم الباطن.
هكذا، يبدو «المرآة السوداء» نوعًا من التأكيد المأساوي لاستمرار صحة قول الفيلسوف الفرنسي «جاك إيلول»: «لا يسع المرء إلا أن يتعجب من منظمة توفر الترياق بينما يقطر منها السم».
بالنسبة إلى الحكايات التي تُنسَج حولها تفاصيل مرعبة (أو على الأقل مزعجة) في المسلسل، قد يبدو أنها تمثل ترياقًا للمسار التكنولوجي في المجتمع المعاصر، لكن المسلسل نفسه جزء من العصر ذاته الذي ينتقده.
إنه ترياق لا يعالج أي شيء، يمتص الصدمات الثقافية ويسمح للمشاهدين بتحمُّل الموجة التالية من الصدمات، يطالبهم بالابتعاد عن تعلقهم بمراياهم السوداء، حتى عندما يشجعهم على مشاهدة حلقة أخرى من «المرآة السوداء».
لا ندَّعي أن المسلسل يفتقر إلى تقديم القيمة كنقد للمجتمع والقيم الحالية. لكن مع ذلك، «المرآة السوداء» أقل راديكاليةً في النقد مما يحاول كثيرون تصوره.
«المرآة السوداء» يوفر الترياق، لكنه أيضًا يقطر سمًّا.
مع ذلك، ربما يكون هذا هو الهدف من المسلسل في الأساس.
اقرأ أيضًا: مسلسل «Black Mirror»: الإنسانية التي تخاف من تطورها
اليوتوبيا المضطربة ليست بالضرورة ديستوبيا
مصطلح «الديستوبيا» (عكس اليوتوبيا، أي المدينة الفاسدة) صار سمة بارزة في عوامل الترفيه الشعبي اليوم. تمتلئ الكتب بحكايات عن انهيار الحضارات في المستقبل وربما انقراض الجنس البشري، وكثير من هذه العناوين (خصوصًا تلك التي تستهدف جمهور الشباب) لديها فرصة للوصول في نهاية المطاف إلى شاشات السينما.
بطبيعة الحال، لا تقتصر هذه الرؤى «الأبوكاليبتية» (Apocalyptic) للمستقبل على الشاشات الكبيرة، فهي تُعرَض الآن في عدد من المسلسلات التلفزيونية. بالنسبة إلى كثيرين، من المغري استخدام مصطلحات مثل «الديستوبيا» عند مناقشة المستقبل الذي يصوره مسلسل «المرآة السوداء»، لكن استخدام هذا المصطلح يبدو مضللًا إلى حد ما في هذه الجزئية.
صحيح أن بعض الحلقات على الأقل يهدف بوضوح إلى استحضار مستقبل بائس، إلا إن استخدام هذا المصطلح في ما يتعلق بعدد من الحلقات الأخرى مبالَغ فيه قليلًا.
القول إن مسلسل «المرآة السوداء» يمثل مستقبلًا ديستوبيًّا، يخاطر باتخاذ موقف مفرط في البساطة تجاه التكنولوجيا.
هناك ثلاث حلقات من المسلسل تعرض مستقبلًا ديستوبيًّا:
- العمل المستمر على دراجات من أجل الحصول على الطاقة، وكذلك كسب نقاط تمكنك من الاشتراك في برنامج يشبه كثيرًا برامج مسابقات المواهب حاليًّا، في حلقة «Fifteen Million Merits»
- استخدام الجنود المعدَّلين عصبيًّا في عمليات الإبادة الجماعية، في حلقة «Men Against Fire»
- الدقائق الأخيرة من حلقة «The Waldo Moment»، التي تصور عالمًا هُزمت فيه الديمقراطية لصالح استخدام الحكومة لشعبية الشخصية الكرتونية
بينما يمكن اعتبار حلقة «Metalhead» قصة شجاعة تعيد إلى أذهاننا سلسلة أفلام «Terminator»، حين تغزو الآلات العالم وتحاول القضاء على البشر، ويمكن اعتبار الحلقة من الأعمال التي تعرض ما بعد دمار العالم.
أما بقية الحلقات، فلا شك في أن الأمور السيئة تحدث فيها كلها، لكن من الصعب اعتبارها تمثل مستقبلًا ديستوبيًّا بأي حال. دعونا نرَ.
السجن العقلي المزعج للغاية في لعبة الفيديو في حلقة «USS Callister» أمر مثير للدهشة، لكن خارج هذه اللعبة يبدو أن المجتمع يسير إلى حد كبير بنفس نمط وقتنا الحالي.
لا تستطيع الأم في حلقة «Arkangel» منع نفسها من الوصول إلى ذكريات ابنتها المراهقة، ما يؤدي إلى مواجهة عنيفة ودموية بينهما، لكن خارج هذا التوتر العائلي، نجد العالم مستمرًّا على ما يرام.
التكنولوجيا تسمح لوكلاء التأمين بالوصول إلى ذاكرة الناس، وتقود بطلة حلقة «Crocodile» إلى طريق دموي تضطر فيه لقتل عائلة كاملة، لكن العالم ذاته خارج هذه المأساة، ما زال كما هو.
عدد من القصص المزعجة للغاية تسردها حلقة «Black Museum» (المتحف الأسود)، إلا إن السبب في أن كل تلك التحف التكنولوجية انتهى بها المطاف في المتحف هو تحديدًا لأن المجتمع، الذي لا يزال يسير بشكل طبيعي في الخارج، نبذ هذه الأشياء.
ينطبق هذا على معظم حلقات المسلسل، وعدم روعة تلك العوالم لا يغير من حقيقة أنها قريبة الشبه جدًّا من عالمنا الحالي.
حلقة مثل «The Waldo Moment» يمكن أن تدور أحداثها غدًا، وحلقة أخرى مثل «The National Anthem» يمكن أن تكون قد حدثت بالأمس.
قد يهمك أيضًا: اليوتوبيا: كابوس تحقُّق أجمل أحلامنا
القول إن مسلسل «المرآة السوداء» يمثل مستقبلًا ديستوبيًّا، يخاطر باتخاذ موقف مفرط في البساطة تجاه التكنولوجيا في الوقت الحاضر، وكذلك في المستقبل. إذا كان الادعاء أن العرض يمثل المستقبل الأبوكاليبتي، فكيف إذًا بالحلقات التي ربما تدور أحداثها في الوقت الحاضر؟
يمكن القول إن حالة العالم الحالي أقل بكثير من مثالية. يمكن للمرء أن يلقي نظرة قهرية في اتجاه وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام، يمكنه أن يعتقد حقًّا أن المسار الحالي، إذا لم يتغير، سيؤدي حتمًا إلى اتجاه سلبي في المستقبل القريب. مع ذلك، يمكن للمرء أن يصدق كل هذه الأشياء ويقاوم في نفس الوقت الرغبة في تسمية المجتمع المعاصر «ديستوبيا».
ربما يكون ما يظهره مسلسل «المرآة السوداء» هو كيف يمكن أن تكون الديستوبيا في الواقع جحيمًا خاصًا للأفراد بدلًا من المجتمع بأكمله، أو ربما ما يشير إليه أن اليوتوبيا المضطربة ليست بالضرورة ديستوبيا.
يمكن أن تكون اليوتوبيا المضطربة لدى بعضهم بمثابة ديستوبيا صريحة لعدد لا يُحصى من الآخرين. الشخصيات في المسلسل لا تبدو مهتمة بشكل خاص بمن صنع أجهزتهم الإلكترونية، وللأسف هذه سمة مميزة لمستخدمي التكنولوجيا اليوم.
لإعادة صياغة المشكلة: لا تكمن المعضلة هنا في التهديد الذي يحيط بالديستوبيا، بقدر ما هي استمرار فشل البشرية في استخدام براعتها التكنولوجية المثيرة للإعجاب في خلق اليوتوبيا، أو حتى مجتمع أفضل من المجتمع المعاصر.
هنا تكمن قوة المسلسل، ليس كعرض يجلس أمامه الناس ويشاهدونه، بل كقطعة فنية ثقافية تقودهم إلى طرح الأسئلة التي يتخطاها العمل نفسه.
في أحسن الأحوال، يوفر «المرآة السوداء» مساحة للناس يمكنهم من خلالها مناقشة مخاوفهم وقلقهم حول التكنولوجيا الحديثة، دون قلق من أن يتهمهم أحد بالرجعية بسبب الجرأة على التعبير عن مثل تلك المخاوف. لهذا السبب وحده قد يكون المسلسل جديرًا بالاهتمام.
عبر تسليط الضوء على الأسئلة التي لا يجيب عليها «المرآة السوداء»، قد نتمكن من طرح الأسئلة نفسها التي نادرًا ما تُطرَح حول التكنولوجيا اليوم.
صحيح أن الانعكاسات التي تظهر من خلال التحديق في المرآة السوداء مظلمة ومشوشة وغير جذابة، لكن مثل هذه الانعكاسات ليس لها قيمة إلا إذا كانت تجبر المشاهدين على إعادة التفكير في علاقاتهم بالمرايا السوداء في حياتهم اليوم، والتي قد تكون في حياتهم غدًا.
يمكن للمرء أن ينظر إلى المرآة من أجل رؤية التراب على وجهه، أو يمكنه أن ينظر إلى المرآة بسبب الرغبة النرجسية داخله.
المؤكد أن «Black Mirror» يمتلك القدرة على توفير انعكاس مفيد، لكن، كما هو الحال مع التكنولوجيا الموضَّحة به، من السهل للغاية أن يفشل استقبالنا لمثل هذا الانعكاس.
هذا الموضوع اقترحه أحد قراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
محمد يوسف