مرآة التاريخ: 3 أعمال فنية تخلِّد الوجود الإنساني
تؤكد الإحصائيات أن فيلم «Titanic» يأتي في المرتبة الخامسة في تاريخ إيرادات السينما العالمية، فقد بلغ عدد التذاكر المباعة أكثر من 135 مليونًا.
المثير أن واقعة غرق السفينة الشهيرة لم تكن في ذاكرة العالم بهذا القدر قبل إنتاج الفيلم، فكثير من حوادث الدنيا ومظاهرها كانت ستُدفَن في المقابر لولا أن حفظتها الفنون، ودبت فيها روح الخلود متعاقبة من جيل إلى جيل.
هنا سنقف أمام بعض المحطات الشهيرة في تاريخ الفن التي تناولت واقعًا تاريخيًّا أو سياسيًّا، فقد وظَّف الفنانون تلك الحوادث حتى تكون وقود خيالهم، ولسان حالهم الذي كثيرًا ما عجزوا عن إطلاقه سراحه، خصوصًا في عصور الظلام.
تيودور جيريكو: The Raft of the Medusa
المراقب للتاريخ الفرنسي يعرف تلك السنوات الطويلة من الاضطرابات التي عاشتها فرنسا منذ اشتعال الثورة مرورًا بحملاتها العسكرية في أوروبا والشرق الأوسط.
نحن هنا أمام حدث قد يبدو أنه ليس غريبًا، فرقاطة فرنسية تغرق. غرق المراكب وموت طاقهما يتكرر كثيرًا، خصوصًا في توابع الحرب السورية أو الهجرة غير المنظمة. لكن ما خلَّد ذكرى هذه الحادثة تحديدًا كان المعالجة الصادمة التي أجراها الرسام الفرنسي «تيودور جيريكو» في تناول الأزمة، وكانت محل نزاع بين الليبراليين والمحافظين، والمجموعة الأخيرة كانت لها السلطة السياسية في ذلك الوقت.
أدان الليبراليون المحافظين نتيجة اختيارهم أحد البحارة غير المؤهلين لقيادة السفينة، وقد كان جيريكو يُعرف بانتمائه إلى الليبراليين.
المهم هنا هو كيف استطاع جيريكو، ذلك الفنان الرومانتيكي، أن يقدم لنا ذلك العمل الصادم، وبخاصة أنه كان قد عُرِفَ بشغفه برسم الخيول، وهو ما يشهد له بالرقة والعذوبة على نقيض اللوحة.
كيف استطاع جيريكو أن ينقل لنا صورة حية صادمة لذلك المشهد المهيب؟ وكيف تمكن من وصف الخوف من الموت والأمل في النجاة في ذات الوقت؟
يُحكى أن الفرقاطة الفرنسية كانت قد غرقت على سواحل موريتانيا، وتبقى من طاقمها 15 بحارًا فقط من أصل عدد قد تجاوز المئة. أما بقية الطاقم، فقد صرعهم الموت بعد أن تركهم قائد الفرقاطة هو وصفوة الركاب، ونجوا مؤثرين أنفسهم بقوارب النجاة.
ظل هؤلاء البحارة يصارعون الموت، وأكل بعضهم من جثث بعض، ولم ينقذهم أحد إلا بعد 16 يومًا من الحادث.
كانت شهادة البحارة الناجين هي القضية التي أثارت الجدل، وأيضا الصورة التخيلية التي اعتمد عليها جيريكو في رسم العمل، فقد زارهم واستمع إلى أحاديثهم، وذهبأيضًا إلى المشرحة ليشاهد الجثث ويدرس انفعالات الموت المختلفة، صانعًا من عقله ونفسه مخزنًا للحزن والكآبة.
ثم كان أن حوَّل مرسمه الخاص إلى مسرح تخيلي، فأقام به هيكلًا من الخشب، وشرع يُحضر الممثلين ويضعهم في حركات انفعالية متباينة تجسد ذلك الصراع المهيب، وكأنه يعيش معهم تلك الساعات العصيبة بذاته، وبأدواته في الرسم.
استمر جيريكو عامين يبدع تلك اللوحة، حتى عرضها الأول في صالون باريس عام 1819.
أثارت اللوحة الجدل، وانقسمت الآراء حولها بين محتفٍ وساخط، وهو خلاف سياسي لا أكثر. أما قيمة العمل، فتفرض ذاتها على المتلقي أيًّا كان توجهه السياسي. ولا شك أن جدران متحف اللوفر لم تكن لتحتفي بتلك اللوحة مجاملةً لمبدعها أو تحيزًا لطرف سياسي، بل اعترافًا بتلك القيمة الفنية التي تركتها وخلدتها في الوجدان.
من وجهة النظر التحليلية سنجد أن جيريكو اتخذ من الشكل الهرمي تنسيقًا عامًّا للمشهد، وهو تكوين تصاعدي يمتد في قوة مع اتجاه الأذرع التي تشيح نحو الشاب الأسمر في قمة التكوين، وهو الوحيد الذي يظهر بذلك اللون الدافئ.
في القاع تستقر الجثث المتناثرة، أو هؤلاء الذين أوشكوا على الموت، ولا نجد وسطهم أحدًا متماسكًا سوى شخص واحد يجلس مستسلمًا ومفكرًا، وهو ما يشير إلى أنه قد يكون جيريكو نفسه، إذ جرى العرف في كثير من اللوحات الشهيرة أن يرسم الفنان نفسه داخل العمل، وفي الوضعية التي تعبر عن هواجسه الذاتية.
ضمت اللوحة رايتين: راية المركب المضطربة، وراية النجاة التي ظهرت في قبضة أكثرهم علوًّا. فقد أخذ يلوِّح بها مستغيثًا بمركب إنقاذ لم تظهر داخل اللوحة.
من ذكاء جيريكو أنه غيَّب مركب الإنقاذ تمامًا، ما جعل العمل يكثف تلك اللحظة العصيبة التي يبدو فيها الأمل قريبًا، لكنه لا يزال في علم الغيب. الموت والموج هما البطل، وحتى الأحياء كساهم الموت بطبعه وبحضوره الطاغي في ألوان العمل.
هكذا نجح جيريكو في ترك أثر خالد يسعى زوار اللوفر إلى معاينته في فضول وشغف، خاشعين أمام الحضرة الفنية الطاغية.
قد يهمك أيضًا: كل من يقترب من الحقيقة يحترق: لِمَ يؤثر فينا الفن؟
نورمان روكويل: The Problem We All Live With
في فترة اشتهرت بها جنوب أمريكا بأحداث سياسية اتسمت بالعنصرية، طرح الرسام الأمريكي «نورمان ركويل» وجهة نظره بأسلوب فني ارتبط في الصورة الذهنية بالخصائص البصرية لفن التصوير الضوئي: تأثير العدسة التسجيلية (50mm) والقَطع الحاد على الرؤوس، وجماد الحركة، وهو أكثر ما أشتهرت به الفوتوغرافيا في عموم خصائصها.
نرى في المنتصف فتاة سمراء بزي أبيض يرمز إلى النقاء، تمضي في عزم ممسكةً في يدها كتابين وبعض الأدوات المكتبية، ما يعطي لمحة عن أنها تمضي نحو المدرسة، لكنها وسط هذا الأمر الذي من المفترَض أن يبدو عاديًّا، يحدها من الأمام ومن الخلف أربعة من رجال المارشال، في حراسة مشددة، وبخطوات عسكرية منظبطة.
يتعين لنا الحدث عبر ذلك اللون الأحمر الذي ينتشر على الحائط المشروخ كدماء الثوار، لنعلم في ما بعد أنه نتيجة قطعة الطماطم المهترئة على الأرض، وهي دلالة على رفض المتعصبين من أصحاب البشرة البيضاء حصول تلك الفتاة على حقوقها في التعليم.
اختار نورمان الزاوية الجانبية للوجه، وهي زاوية غالبًا ما تتسم بالإصرار على اتخاذ وجهة نظر محددة، وتنفي عن العمل طابع التشتت أو الحيرة. فالفتاة تمضي نحو مدرستها في إصرار متجاوزةً تلك العقبات ذات الطابع العِرقي.
الجميل في الأمر أن روكويل جعل زاوية العمل من وجهة نظر المُشاهد، وبذلك يصف المُشاهد بأنه إما متفرج سلبي، وإما أنه ينتمي إلى ذلك الحزب العنصري المنهاض للفتاة.
لعله بتلك الهيئة التي رسم بها رجال المارشال، أراد نورمان أن يرمز إلى أنهم مجرد واجهة لا أكثر، ذلك أنهم ظهروا دون رؤوس، ما أفقدهم أكثر ما يميز الإنسان:العقل.
كذلك، يتضح من أيديهم أنهم جميعًا ذوو بشرة بيضاء، ما يؤكد أن سياسة النظام تحتضن ذات الفكرة، وتستبعد البشرة السوداء من المناصب السيادية. انظر كذلك إلى الخطاب الذي يبرز من أحد جيوب المارشال الذي يقود الحدث، وكأن حماية الفتاة عملية بيروقراطية لا أكثر. ارتداؤهم البدلة أيضًا يرمز أن حماية الفتاة مجرد مظهر أنيق لا يعبر عن الجوهر، أما القالب، فيحمل في طياته عنصرية سيادية هي السبب الأساسي وراء الأزمة دون شك.
استنبط الرسام ذلك العمل من قصة واقعية شهدت ذات الحدث، لفتاة سمراء عاندت توجهات الأغلبية البيضاء، وأصرت على الحصول على حقوقها في التعليم، فصنعت من نفسها أيقونة، ونجحت في تشجيع غيرها من الفتيات ذوات البشرة السمراء على المطالبة بحقوقهن في التعليم، وفرضت قضيتها على نزوات التعصب العِرقي ذائعة الصيت آنذاك.
دورثي لانغ: Migrant Mother
من يخطر بباله أن صاحبة هذا الوجه الشاحب امرأة في عامها الثاني بعد الثلاثين؟
في عام 1936 شهدت أمريكا حالة كبيرة من الكساد أدى إلى إعادة توطين المزارعين في ولاية كاليفورنيا، وهي فترة كان فيها الجوع مشهدًا مؤثرًا، تجلت عظمته في هذه اللقطة الفوتوغرافية الدرامية.
نعلم جيدًا أن الفوتوغرافيا الصحفية غالبًا ما ترتبط في عرضها بمقال أو حدث سياسي. لو نحَّينا المعلومات التاريخية المرتبطة بالصورة، سنجد أننا أمام رسالة كاملة وناضجة نجحت في نقل الحدث دون غموض أو حاجة إلى وصف مكتوب أو مقال مصاحب للصورة.
المرأة صغيرة السن كما يبدو من أعمار أطفالها، وعجوز أيضًا من علامات الكرب المرسومة على جبينها. تجلس حائرة، منهزمة، محاطة بالجوع هي وأطفالها الثلاث. هي أيضًا لا بد أن تأكل حتى تُرضِع ذلك الملاك المستلقي بين يديها في استسلام تام لضعفه.
الطفلتان مشيحتان بوجههما وراء رأسها، متَّكئتان على كتفيها في محاولة للصمود، متخذين منها الأمل الوحيد، وهي ما زالت تنظر وتفكر كيف لها أن تؤمِّن زادهم القادم.
اقتراب اللقطة باستخدام عدسة طويلة البعد البؤري قرَّب لنا الانفعالات، واختزل كل الهموم في عناصر محدودة أهمها الوجه.
لا تحتاج الصورة إلى قصائد أو نصوص أو لقطات ذات زوايا أخرى مكملة حتى تكشف لنا الحدث. فما ظهر كان كافيًا ليمس مشاعرنا، ويحرك تلك العاطفة المستترة وراء دموعنا وفطرتنا السوية.
قد يعجبك أيضًا: كيف يتعامل الفن مع الحرب؟
تقول دورثي لانغ، التي التقطت الصورة، إن المرأة باعت إطارات عربتها حتى تُطعم الأطفال، وأكلت من الخضراوات المجمدة في الحقول المحيطة، ومن الطيور النافقة، وكانت في لحظة التقاط الصورة تحديدًا تبحث عن مصدر الوجبة القادمة.
هذه هي الفنون. لا تغفل حدثًا سياسيًّا ولا تاريخًا مهمًّا إلا وتعيد طرحه مستخدمةً روح الفنان، وهي بذلك تهبه الخلود. كثير من أحداث الزمن الإنساني الممتد إلى آلاف السنين كانت ستصبح طَيَّ النسيان لولا أن خلدها الفن بأدواته المختلفة: الكلمة، والفرشاة، والصورة الفوتوغرافية. لا بد أن نعي جيدًا أن عمر المُنتَج الفني أطول من عمر مبدعه، ذلك أن الفنان يمضي إلى نهايته، لكن الأثر يبقى ما بقيت الحياة.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
كريم نبيل حسن