في صباح الاثنين 17 سبتمبر 2018، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أوامره للممثل التجاري للولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية على الواردات من البضائع الصينية، بقيمة مئتي مليار دولار، تدخل حيز التنفيذ بعد إصدار قراره بأسبوع واحد.
جولة جديدة من رسوم جمركية أضيفت إلى الجولة الأولى، طُبِّقَت قبل ثلاثة أشهر، فُرِضَ فيها 50 مليار دولار. حسب تعبير ترامب، فإن طلبه من الصين كان واضحًا بشأن التوقف عن ممارسات تجارية يراها غير عادلة دأبت على الاستمرار فيها من أجل الإضرار بمصالح بلاده. وهدد بأن بلاده ستتخذ إجراءات اقتصادية أكثر حدة على شكل رسوم جمركية أخرى، إذا ما ردت الصين بأي فعل انتقامي.
جاء رد الجانب الصيني سريعًا، فوعد بفرض رسوم جمركية بقيمة 60 مليار دولار وإلغاء المحادثات الثنائية بمجرد تنفيذ ترامب قراره. بذلك الشد والجذب دُشنت جولة جديدة حرجة من الحرب التجارية الأمريكية-الصينية، لأن الرسوم الجديدة ستزيد بنسبة 10% على واردات البضائع الصينية إلى الأراضي الأمريكية، بداية من الاثنين 24 سبتمبر 2018، وستستمر في الزيادة بنسبة 25% منذ بداية العام 2019.
وجاء فرض الرسوم تلك المرة على مراحل، بهدف إعطاء الشركات الأمريكية فرصة مناسبة لضبط عمليات التوريد، تأقلمًا على الوضع الجديد.
تتوسع الصين في أسواق أخرى لتقليل الاعتماد على التصدير إلى أمريكا، كوسيلة لمجابهة الأمريكان.
التصعيد المستمر في فرض الرسوم من الجانب الأمريكي كورقة تهديدية، وردود الصين الباردة بالمعاملة بالمثل كورقة استفزازية، لم يتغيرا منذ بداية الحرب. لكن الاستمرار في زيادة الرسوم الجمركية من الطرفين المتحاربين سيؤثر بالتبعية في زيادة الأسعار التي سيدفعها المستهلك الأمريكي، لأن الموردين الأمريكيين من الصين سيُحمِّلون تكلفة الحرب على المستهلك، لتتحول الرسوم الجمركية إلى ضرائب جديدة يتحملها المستهلك الأمريكي الذي يدفع الثمن وحده.
بالرغم من أن المستهلك الأمريكي أكثر عرضة للتأثر سلبًا من المستهلك الصيني، لأن المنتجات الصينية في السوق الأمريكية تحتل نسبة أعلى من المنتجات الأمريكية في السوق الصينية، إلا أن الرئيس الأمريكي يصر على التصعيد المستمر مع الصين، بسبب افتقاره إلى الثقة والمصداقية تجاه الجانب الصيني للتوصل إلى اتفاق عادل.
أما برودة ردود الصين تجاه ذلك التصعيد لا يمكن فهمه، إلا من خلال إطار رغبة حقيقية من الصين في تجاوز الأزمة، لكنها لا تخلو من تخوف من تبدل محتمل جزئي أو كلي في الاتفاق نفسه من جانب الرئيس الأمريكي ترامب في المستقبل، إذا ما تمت تنازلات ذات ثقل من الجانب الصيني في أثناء المحادثات المتوقعة، أو أن الصين لها طريقتها الخاصة في البحث عن بدائل للتعامل مع الحرب التجارية.
في بحثها عن البدائل من أجل امتصاص أكبر قدر من الخسائر، تعتمد الصين على هيكل اقتصادي مصدر سياساته ينبع من الحكومة لتُطبَّق على آليات السوق، وبالتالي تتسم بالوحدة والصلابة، وستتمكن بكل سهولة من تحويل البضائع التي لن تستطيع تصديرها إلى الولايات المتحدة، وتوجيهها إلى سوقها المحلية الضخمة واستهلاكها داخليًّا.
يبدو أن توسع الصين في أسواق أخرى لتقليل الاعتماد على التصدير إلى الولايات المتحدة، هو الوسيلة الأبرز من أجل مجابهة الأمريكان، تماشيًا مع مبادرة طريق الحرير الجديد الذي يعتمد على تعزيز التعاون الاقتصادي الصيني مع العالم.
اقرأ أيضًا: هل تتسارع الحرب التجارية بين أمريكا والصين؟
الطريق إلى إفريقيا
وقعت أنظار الصين على إفريقيا، حيث تعد أكبر شريك تجاري لها. ففي وقت النمو اللافت في التبادل التجاري من قيمة 765 مليون دولار منذ عام 1978، لتصل إلى أكثر من 170 مليار دولار في عام 2017، والزيارة المكوكية لوزير خارجية الصين «وانغ يي» في بداية عام 2018 إلى كبرى الدول الأفريقية لتوطيد تلك العلاقات، ورحلة الرئيس الصيني «شي جين بينغ» في يوليو 2018، لمغازلة حلفائه في إفريقيا، يُطلِق الرئيس ترامب على بلدان قارة إفريقيا الدول الكريهة.
الاختلاف الجوهري بين الولايات المتحدة والصين في التعامل مع الدول الإفريقية، يكمن في توقيت إظهار الاهتمام. فالولايات المتحدة تتوجه بالرعاية إلى دولة إفريقية ما، حينما تحتاج إلى الاستفادة من أحد مواردها، بينما الصين تبرع في الاستماع إلى طموحات الدول الإفريقية وأحلامها، وتساعدها في تحقيقها. لذلك تحولت الصين إلى شريكها المفضل.
تخوف الصين الوحيد الذي قد يشوب صفو التعاون مع إفريقيا، يتمحور حول الأخطار الأمنية التي تواجة القارة السمراء، والتي بالتبعية قد تُفقِدها القدرة على سداد القروض السخية التي تعرضها الصين، إلا أنها فككت المعضلة شيئًا فشيئًا، لا سيما بعدما أقدمت على التعاون على المستوى الأمني بالتوازي مع تعزيز التعاون الاقتصادي، من أجل التغلب على تلك الأخطار.
تعمدت الصين السيطرة على مخاوف الدول الإفريقية التي تتوجس من الوقوع في «فخ الديون»، من خلال عرض قروض دون فوائد. وفي سبتمبر 2018، أعلن الرئيس الصيني عن حزمة مساعدات للقارة الإفريقية بقيمة 60 مليار دولار، خلال منتدى التعاون الصيني- الأفريقي (فوكاك) الذي أقيم في بكين، زيادة على توقعات الشركات الصينية باستثمار ما يقرب من 10 مليارات دولار خلال السنوات الثلاثة المقبلة.
هكذا مهدت الصين الطريق إلى أرض إفريقيا بالطمأنينة، مبددة مخاوف كل الأطراف، عدا الولايات المتحدة التي زاد قلقها بشأن أمنها القومي المهدد، لأن المفاوضات التجارية التي اتبعتها الصين تعتمد على السيطرة على الأصول الاستراتيجية للدول الإفريقية، مثل النفط والمعادن وحق الانتفاع بالأرض. أي إن عدم قدرة الدول المقترضة على سداد القرض، فإن الصين يمكنها المطالبة بتلك الأصول الاستراتيجية.
مع استمرار ترامب في إنكار الأخطار التي تحوم حول الاقتصاد الأمريكي، تجد الصين إفريقيا أرضًا خصبة للمعركة بديلًا عن الانصياع للشروط الأمريكية.
لتوضيح الخطر المحدق الذي تمثله استراتيجية الصين في إفريقيا للولايات المتحدة أكثر، فإن جيبوتي، على سبيل المثال، تحتل مكانة نوعية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بسبب وجود أهم قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا والشرق الأوسط، في نفس الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة الدين الواجب سدادها للصين من 50% إلى 85%.
الاضطراب الذي خلفته الصين بقروضها لإفريقيا، لن تقتصر أخطارها على الأمن القومي الأمريكي فحسب، بل سيغلق الأعمال التجارية الأمريكية، لأن الشروط التي تفرضها الصين في أثناء الإقراض تحتم تشغيل الشركات الصينية، مع وضع مواصفات تقنية للمشروعات، مثل شبكات سكة حديد فائقة السرعة، وشبكات إنترنت لاسلكية، تُمكِّن تلك الشركات من أن يكون لها اليد العليا. وبذلك قد يتحول ذلك الاضطراب إلى زلزال يهز مكانة الولايات المتحدة الحالية في الاقتصاد العالمي، وتزحزح الصين رويدًا رويدًا إلى أن تحل محلها.
مع كل تلك الخطوات التي تتخذها الصين، ولا تصب في الاتجاه الذي ترغب فيه الإدارة الأمريكية، أي بتخلي الصين عن سياسات اقتصادية تعتقد الإدارة الأمريكية أنها غير عادلة تجاه بلادها، يؤكد الرئيس ترامب بأن بلاده ليست بحاجة إلى أن تصل إلى اتفاق مع الصين، وأن الضغوط تقع عليها وحدها، لأن أسواقها تنهار، والأسواق الأمريكية في ارتفاع مستمر.
قد يهمك أيضًا: الحرب العالمية الثالثة: هل يقع الصدام بين الصين وأمريكا؟
مع استمرار الرئيس ترامب في إنكار الأخطار التي تحوم حول الاقتصاد الأمريكي، بالرغم من إصراره على تصعيد الحرب التجارية من خلال جولات جديدة من فرض رسوم جمركية، ما يؤكد وجود أخطار حقيقية، تجد الصين إفريقيا أرضًا خصبة للمعركة بديلًا عن الانصياع للشروط الأمريكية، محافظة على سياسة ضبط النفس.
لكن اعتماد الولايات المتحدة على تفهم الصين لحقيقة أن حربًا تجارية باردة محتمة تدور بينهما، قد يكون خطأً، واعتماد الصين على قلة حيلة أمريكا تجاه تحركاتها في الداخل الإفريقي، وتركها وحيدة في هذا الميدان، قد يكون ضربًا من الخيال.