اختار نظام بشار الأسد الوقت المناسب ليقول للعالم إن الثورة التي اندلعت ضد حكمه انتهت إلى غير رجعة، فالتقدم العسكري الذي حققه أخيرًا على الأرض بسيطرته، خلال أشهر قليلة، على أهم معاقل المعارضة، في كلٍّ من الغوطة الشرقية ودرعا، وقبلهما سيطرته على مدينة حلب، كان لا بد من تتويجه برسالة واضحة عن نهاية السنوات المخيفة للنظام، وعودة التفكير بالبقاء لعقود أخرى في سدة حكم سوريا التي كانت، وما زالت، حكرًا على عائلة الأسد منذ عقود.
لم يكن هناك أفضل من ملف المعتقلين في سجون النظام، والذي يشغل بال المعارضين السوريين ومنظمات حقوق الإنسان، لبعث رسالة من خلاله تفيد بأن النظام يعيد ترتيب أوراقه للاستمرار الأبدي.
أكثر من ثلاثة آلاف ضحية وُثِّقت في يوليو 2018 فقط، بعد تسليم أوراقهم الثبوتية وشهادات الوفاة لذويهم في مختلف المحافظات السورية، عن طريق وزارة الداخلية، دون أن تحصل العائلات على جثث قتلاها، في انتهاك واضح لحقوق الإنسان، ناهيك بآلاف المعتقلين الذين لم يُعرَف مصيرهم، إضافةً إلى ضحايا لم يعترف بهم النظام حتى الآن، وقد اختفوا قسريًّا.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يُعلَن فيها عن أعداد ضخمة من الضحايا داخل السجون السورية. إذ تعود الذاكرة، في مسألة تصفية المعتقلين، إلى عام 2014، حين انشق عن الشرطة العسكرية السورية أحد عناصرها، ولقبه «قيصر»، ويعمل مصورًا لجثث ضحايا التعذيب، ليكشف عن 55 ألف صورة لنحو 12 ألفًا من المعتقلين السوريين الذين تعرضوا للتصفية في سجون النظام خلال السنوات الأولى من الثورة السورية.
في حين يبقى ملف المعتقلين معلَّقًا مع غياب أرقام دقيقة لعددهم الإجمالي وأماكن اعتقالهم والعدد الحقيقي للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، وسط ادعاء النظام السوري بأن من ماتوا في المعتقلات تعرَّضوا لأزمات قلبية أصابتهم جميعًا.
تسويات دولية
يسعى نظام الأسد لتحويل الملفات التي تدينه لملفات سياسية تأخذ منحى التفاوض مع المعارضة.
فراس إلياس، الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية، يؤكد أن ملف المعتقلين السوريين تحول إلى ملف سياسي على الرغم من قيمته الإنسانية التي تتمثل في الكشف عن مصير المعتقلين في سجون النظام، مشيرًا إلى أنه أصبح يخضع لتفاهمات دولية، بين اللاعبين الدوليين المؤثرين في الساحة السورية، خصوصًا روسيا وتركيا وإيران، عبر مسار أستانة.
يوضح إلياس لـ«منشور» أن ظهور هذه القوائم في الوقت الحاضر، يأتي في إطار محاولة النظام السوري استغلال التشظي الحاصل في مسار العملية السياسية بين جنيف وأستانة، بحثًا عن التخلص من المسؤولية عن أي جرائم إنسانية من خلال تزوير تقارير طبية وإجبار ذوي المعتقلين على المصادقة عليها، مشيرًا إلى أن آلاف التقارير الدولية أشارت إلى تجاوزات النظام في حق المعتقلين، دون أن تتحول إلى أدلة جنائية تدينه في تأكيد أن تسوية قادمة لهذا الملف مع أهم الملفات العالقة، كإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
من الإدانة إلى التفاوض
وفقًا لإلياس، يسعى نظام الأسد لتحويل الملفات التي تدينه إلى ملفات سياسية تأخذ منحى التفاوض مع قوى المعارضة، خصوصًا قبيل جولة أستانة التفاوضية. وبما أن روسيا وتركيا وإيران لديهم عدد من اللجان التي تعمل في هذا الإطار، فهو يعمل على تسويف هذا الملف. إذ إن سياسة اللعب على المسارات أصبحت واضحة لدى النظام السوري، بمعنى أنه كلما دخلت المفاوضات مرحلة جديدة، يتحدث النظام عن ملف جديد.
لهذا يسعى نظام الأسد، بعد إظهار هذه القوائم، إلى الحصول على ضمانات سياسية وقانونية بعدم الحديث عن هذا الملف بعد الآن. فمن الناحية الشكلية تمكن النظام من التخلص من آلاف المعتقلين بتعذيبهم وقتلهم، في حين أنه من المتوقع الإفراج عن أعداد من الباقين في سجون النظام تلافيًا لأي عمليات تقصي للحقائق من المنظمات الدولية، في محاولة لتبييض السجون وإغلاق هذا الملف نهائيًّا.
قد يهمك أيضًا: صباح الصمود: لماذا يسير الأسد مطمئنًّا؟
عجز قوى المعارضة
في ظل عدم وجود خرائط واضحة لأماكن تغييب المعتقلين ودفنهم، لا يمكن لقوى المعارضة أن تكتسب تعاطف المجتمع الدولي.
فراس الحاج يحيى، خبير العلاقات القانونية الحقوقي، يوضح أن التحرك السياسي والحقوقي للمعارضة السورية أو منظمات المجتمع المدني في سوريا، لم يكن بحجم الحدث، المتمثل في قوائم لآلاف المعتقلين السوريين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون النظام.
يؤكد الحاج يحيى أن الصدمة كبيرة جدًّا، إلا أنها تحتاج إلى التحرك السريع من المجتمع السوري عبر تنظيم وقفات احتجاجية وزيادة الجهد الإعلامي لإبراز هذا الملف بقوة على الساحة الدولية.
يعود فراس الياس ليؤكد أن الجهود التي يمكن أن تبذلها قوى المعارضة السورية في هذا الملف تبدو ضعيفة جدًّا، خصوصًا أننا أمام أمر واقع، ولا يمكن تلافيه، بمعنى أن كل الأوراق التي يمكن أن تلعبها قوى المعارضة في هذا الملف، يمكن أن يلعب بها النظام السوري نفسه، لأنه أزال أي دليل مادي يثبت جرمه، من حيث مصادقة ذوي المعتقلين على شهادات الوفاة، إلى جانب عدم معرفة أماكن دفن رفاتهم.
ففي ظل عدم وجود خرائط واضحة لأماكن تغييب المعتقلين ودفنهم، لا يمكن لقوى المعارضة أن تكتسب تعاطف المجتمع الدولي معها في هذا الإطار، إضافة إلى أن هناك توجهًا دوليًّا داعمًا للنظام هذه الأيام، ولعل هذا ما جعل النظام السوري يمتلك الشجاعة في إظهار هذه القوائم هذا الوقت، خصوصًا إذا ماعلمنا أن الآلاف منهم تعرضوا للتصفية عام 2011.
أولوية الملف الأصعب
يؤكد الحاج يحيى أن حياة أكثر من 200 ألف معتقل في سجون النظام السوري، يجب أن تصبح اليوم الملف الأكثر أهمية على طاولة المفاوضات بين المعارضة والنظام، مشيرًا إلى أن النظام يسعى لطي الملف نهائيًّا عبر تسريبات روسية تزعم أن سجون النظام لا تحوي إلا نحو 30 ألف معتقل، معظمهم دخلوا في جرائم إرهابية ضد الدولة السورية، إضافة إلى أن القوات الروسية في سوريا، تصطف بجانب النظام في هذه القضية، فقد استَبَقَت إعلان قوائم الضحايا بالقول إنه على جميع الأطراف في سوريا العمل على الحد من وجود متورطين في أعمال تخريبية ضد الدولة السورية، مؤكدة أن خروج المعتقلين قد يسبب مزيدًا من الفوضى في البلاد.
بينما يحاول فراس إلياس تفنيد عدد من الوقائع الجنائية التي وقعت في سوريا بهذا الإطار، لا سيما عمليات القتل والتعذيب في فروع الاستخبارات العسكرية، وأشهرها سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق، مشيرًا إلى أن التفاعل الدولي مع الأمر لم يؤدِّ إلى أي تحرك فاعل، مؤكدًا أن مشكلة اليوم هي أن كل الملفات المطروحة على أجندة الأزمة السورية ملفات سياسية، فلم يعد هناك ملف إنساني يمكن الحديث عنه.
خصوصًا أن النظام السوري عندما اعتقلهم قبل تصفيتهم، فعل هذا باعتبارهم «ثوارًا أو مناصرين لهم»، وبالتالي يمكن القول إن فرص إدانة النظام السوري أصبحت ضعيفة جدًّا في ضوء توافق الإرادات الدولية، والأمم المتحدة هي الأخرى لن تؤدي دورها المطلوب في هذا الملف، من خلال تفعيل الإجراءات الجنائية في الفصل السابع من الميثاق، لأن عمليات التعذيب والتغييب القسري والقتل العمد، كلها ملفات جنائية، وتدخل في إطار جرائم الحرب.
فحديث القوى الدولية عن عملية انتقالية في سوريا، يعني ضمنيًّا توافق هذه الإرادات على إمكانية قبول الأسد في المرحلة القادمة، ما يعني في المقابل صيرورة هذه القوائم التي أعلن عنها النظام مؤخرًا، إلى مجرد نشرة إخبارية سرعان ما تفقد بريقها وتأثيرها الإعلامي.
اقرأ أيضًا: باسم السلطة، والحرية، والدين: هل نحن الخير أم الشر؟
مذكرة قانونية وردود فعل دولية «ضعيفة»
على الرغم من ضعف التحرك من أجل إدانة نظام الأسد والكشف عن حقيقة القوائم المعلنة ومصير المعتقلين المتبقين في سجون النظام، فإن مجموعة «القانونيون السوريون الأحرار»، وهم تجمع مدني لعدد من الحقوقين السوريين المعارضين لنظام الأسد، رفعت مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في وقت سابق من يوليو 2018، حول جرائم الأسد بحق المعتقلين السوريين الذين تعرضوا للتصفية تحت التعذيب، بعد تسليم ذويهم وثائق وفاة رسمية لهم. إذ تضمنت المذكرة قوائم ضحايا النظام تحت التعذيب، واصفين بأن ما يجري في سجون نظام الأسد إبادة جماعية وتطهير عرقي.
يبقى ملف المعتقلين في سوريا، على الرغم من محاولات طمس معالمه، أهم ملفات القضية السورية العالقة، خصوصًا أن آلاف الأسر السورية تنتظر الغائبين قسريًّا في سجون النظام الذي ربما يسعى في الأيام القادمة لإظهار مزيد من القوائم لضحايا الموت تحت التعذيب، سعيًا منه لإنهاء أحد أهم الملفات التي قد تدينه دوليًّا، خصوصًا أن الوضع في سوريا ذاهب إلى تفاهم لا بد منه بين النظام وقوى المعارضة، تحت رعاية القوى الكبرى التي تمسك زمام الملف السوري.
وبالتالي، فإن عملية انتظار خروج معتقلين سالمين من السجون أو مسجلين بقوائم الوفاة ربما تستمر لأشهر عدة، قبل الإعلان عن نهاية هذا الملف المأساوي.